جريدة الوطن - الثلاثاء 20 ربيع الاول 1430هـ - 17 مارس 2009م
كلام ساكت - أيــــــــام النمــيري (20)
لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
تحزَّم النميري وتلزَّم .. وانطلق صبيحة الخامس والعشرين من مايو 1969م .. يقود السفينة في بحر هائج متلاطم الأمواج .. تلفه الأعاصير والأنواء .. وكان من حوله فتيةٌ أوفياء مخلصون متحمسون .. ولكن تنقصهم الخبرات والتجارب .. فأعلاهم رتبة .. كان المقدم بابكر النور .. والآخرون .. في رتبة الرائد .. وهي الرتبة التي قد يصلها الضابط آنذاك في أقل من عشر سنوات ... فدخلت السفينة في دوامات من الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات .. وكادت تغرق .. لو لا .. حبال النجدة الشعبية التي أنقذتها ...
ولم تلبث السفينة المايوية .. طويلاً وهي تمخر في عباب المحيط السياسي .. حتى اصطدمت في مارس 1970م بجبل الجليد الأنصاري العائم في الجزيرة أبا واشتعلت الأحداث الجسام .. وامتد أوارها .. ليبلغ معاقل الأنصار في ود نوباوي .. حيث قتل الأنصار نفراً من رجال السلطة .. وكان من بينهم الملازم .. معاوية سبدرات .. شقيق .. الشاعر الوزير عبد الباسط .. وتصاعدت الأحداث ومات الكثيرون وكان على رأسهم .. الإمام الهادي عبد الرحمن المهدي الذي قتل وهو يحاول الخروج من حدود السودان الشرقية والدكتور محمد صالح عمر .. من قادة الأخوان المسلمين البارزين .. كما اكتظلت السجون بالمعتقلين والمحكومين .. وكان من أبردهم الشيخ / محمد محمد الصادق الكاروري ... لقد انتصرت مايو على الجبل الأنصاري بقوة السلاح وبدعم من الجارة مصر .. وذك استناداً على ما أوردته أقلام مصرية.. وعندما أراد السادات أن يمتن على السودان فكشف المنكور .. المستور .. ولم تهدأ الأمواج حول سفينة مايو كثيراً.. حتى واجه القبطان النميري في 19 /7 /1971م انقلاب هاشم العطا .. الشيوعي .. وقد كانت الساحة كلها تنبئ بإرهاصات انقلاب.. يحول البلاد من خانة المعسكر الاشتراكي إلى معسكر اليمين أو عدم الانحياز على الأقل.. ولكن.. تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. نجح الانقلاب... وانطلقت المظاهرات الشيوعية تلوح بأعلامها الحمراء.. وتثير حفيظة الجماهير.. ولكن النميري استطاع أن يفلت من الاعتقال.. وتحرك الشارع.. مضطراً لاستعادة سلطة مايو.. التي كان يرغب في التخلص منها.. ولكن بعض الشر أهون من بعض.. وإيه الجابرك على المُر.. قال الأمَّر منه!!
لقد تحدثنا في مقالات سابقة عن هذه الحركة الانقلابية الشيوعية بتفاصيلها.. ونذكرها الآن فقط.. في عرض مسلسل.. المحن.. والابتلاءات... والمجابهات التي ظلت مايو.. تصارعها.. وتصرعها!! وفي 1/9/1973 واجهت أعتى هياج شعبي.. قاده طلاب الجامعات والمدارس وعرف بأحداث شعبان.. وأشعلت فتيله.. الأحزاب مجتمعة وعلى رأسها الحركة الإسلامية.. وتضامنت نقابات العمال مع تلك الأحداث.. فسارت التظاهرات والاعتصامات والإضرابات.. واشتعلت لساتك العربات في كل ناحية.. وأضرمت النيران في طلمبات البنزين وانهكت دوريات الشرطة.. بالجري ومطاردة المشاغبين والمتظاهرين والمخربين.. وكاد عقد الأمن في البلاد أن ينفرط.. وكادت الأحزاب أن تنتصر.. وتكرر تجربة أكتوبر.. لو لا.. أن النميري.. أحس بالخطر.. فتصدى لها بقوة.. وقمعها بشراسة.. مستعيناً بالقوات المسلحة.. وهدأ الموج.. ومضت سفينة مايو.. تمخر عباب الأحداث في حذر.. وما إن استرد القبطان النميري أنفاسه.. وتمدد في استرخاء بكابينة القيادة.. يستمتع بنسمات أمواج محيطه.. الباردة.. حتى أقض مضجعه راديو غرفة القيادة.. وصوت المقدم حسن حسين عثمان.. يذيع بيانه الانقلابي يوم 5/9/75 معلناً حل مجلس قيادة الثورة.. ومجلس الوزراء.. وجهاز الأمن القومي.. وجهاز توتو كورة... ويقال إن هذا البيان الأول والأخير.. لانقلاب حسن حسين.. قد صاغه.. المحامي كمال الدين عباس.. وهو من قيادات حزب الأمة.. ومن عجب فإن هذا الانقلاب قد تم بصورة.. مثيرة جداً.. لا تصدق إذ أن قائد الانقلاب.. جاء على ظهر دبابة.. ومعه.. جندي واحد فقط.. بخلاف سائق الدبابة.. ودخل الإذاعة.. وقدَّمه المذيع كال محمد الطيب... فألقى بيانه.. ثم خرج.. وترك الدبابة التي جاء بها.. لتحرس الإذاعة.. وذهب إلى القيادة العامة.. ولكن الضابطين شامبي وحماد الإحمير.. وهما من رفقاء حسن حسين.. أخذا الدبابة وذهبا بها إلى سجن كوبر.. لإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين السياسيين.. وتمكنا بالفعل من إطلاق سراح بعضهم.. وفي هذه الاثناء.. دخل قائد الانقلاب في محنة مع القيادة العامة... واحتدم الأمر حتى أن الملازم كمال محمد أحمد.. الذي كان يرافقه.. أطلق عليه النار لقتله.. ولكنه أصابه إصابة بليغة تم على إثرها اعتقاله.. وإرساله.. للعلاج.. بحراسه مشددة طبعاً.. واتجهت قوات مايو إلى الإذاعة.. ودخلتها.. بدون مقاومة.. لأنه لم يكن في الأصل ثمة انقلاب بها.. وأذاع الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم.. بياناً.. أعلن فيه دحر الحركة الانقلابية.. وقبرها في مهدها في بضعة ساعات... ومن اللطائف.. أن الراحل المذيع الدكتور أبو بكر عوض.. سارع بارتداء الزي العسكري وتسلح ببندقية.. وجاء لنصرة الانقلاب ولكن بعد فوات الأوان.. و(يا فرحة ما تمتش).. ويقال إن المذيع أبو بكر.. كان طالباً حربياً يوماً ما وتم فصله.
إن هذا الانقلاب.. لم يكن معزولاً كما صوره البعض أو عنصرياً.. كما دمغته مايو وأجهزتها.. ولكنه كان مسنوداً بقوى سياسية كبرى وتنظيمات تندرج تحت لافتة الجبهة القومية السودانية.. وهي قوى كانت قادرة على تثبيت دعائمه إذا نجح.. ولكنه فشل فشلاً ذريعاً.. والقيادة العسكرية.. وحدها هي التي تتحمل المسؤولية... وقد دفعت ثمن ذلك.. من أعمارها.. ولو أردنا تحليلاً لأسباب هذا الفشل فإنه يمكن تحديده فيما يلي:-
1- باستثناء المقدم حسن حسين.. والحكمدار الطيب أحمد حسين.. فإن كل العناصر التي شاركت في التنفيذ.. كانت من صغار الضباط وصف الضباط.. الذين لا قبل لهم بالمهمة الجسيمة التي تحركوا من أجلها..
2- فشل بعض المكلفين في تنفيذ بعض المهام عجزاً أو تقاعساً..
3- تحرك المنفذون.. كلٌّ بطريقته دون التقيد.. بالخطة.
4- تسرب المعلومات.. بالدرجة التي جعلت.. النميري.. يهجر بيته.. وينام ليلتها في منزل السيد/ بابتود.. بالخرطوم بحري.. وهو أحد أصدقائه العسكريين.. وبالتالي فشل الانقلابيون في اعتقاله.. أو اعتقال أي من رموز النظام.. أو احتلال أي موقع إستراتيجي من مواقع النظام.. بل وفرطوا في الإذاعة..
5- عدم وضع أي خطة.. للانسحاب والاحتماء في حالة الفشل الذي تعقبه عادة حملة اعتقالات وتصفيات.
6- الأسلوب الذي تم به تنفيذ الانقلاب.. كان سهلاً ومسالماً.. وكأنه لعبة مسلية وليس انقلاباً.. على حكم راسخ قوي له أنصاره داخل الجيش ووسط الشعب.. وحتى في دول الجوار.
7- حصر الانقلابيون.. -عسكريين ومدنيين- أنفسهم في جهوية واحدة.. هي غرب السودان.. (دارفور وكردفان) وما كنت أحسب أن جماهير العاصمة.. وهي قومية تمثل كل أهل السودان.. كانت ستخرج لنصرة الانقلاب.. إذا نجح.. والله أعلم.
8- أن قائد الانقلاب.. حسن حسين.. باشر المهمة بنفسه (برجولة وجسارة) زايدة حبتين.. وكانت النتيجة.. أن أصيب واعتقل بعد ساعة من بيانه الأول والأخير.. وأصبح الانقلاب بلا رأس.. أو رئيس..
غايتو.. أن الفشل السريع الذي مني به انقلاب حسن حسين.. لم يتح لمن خططوا له.. من السياسيين.. فرصة ارتداء جلابيبهم وعمائمهم.. والخروج إلى الشارع.. للتأييد والمناصرة.. وبذا.. انتهت هذه الحركة الانقلابية.. وقُبرت مع قادتها الذين أعدموا.. أسراراً كثيرة.. وربما مثيرة.. وقد أكد لي الحكمدار (مقدم شرطة) الطيب أحمد حسين.. الذي كان شريكاً أصيلاً في هذه المحاولة.. بأنهم لم يفكروا في قيام مجلس للثورة.. أو حتى يشاركوا في الحكم.. وأنهم كانوا بصدد إعادة الديمقراطية.. ومراقبتها بواسطة القوات المسلحة.. على الطريقة التركية دون غيرها.. وأن الأحزاب والتنظيمات السياسية التي كانت من ورائها.. هي (غرباوية) المنشأ والمنبت.. كجبهة غرب السودان.. وقائدها عز الدين المهدي.. واتحاد جبال النوبة.. بقائديه فيليب غبوش المسيحي.. وحسين خرطوم دارفور.. الاسلامي وجبهة نهضة دارفور برئاسة أحمد إبراهيم دريج وحزب وحدة غرب السودان.. بزعامة معتصم التقلاوي.. وهي جميعها تنضوي تحت مسمى الجبهة القومية السودانية.. كما أكد رئسها عبد الرحمن إدريس في بيانه الصادر بالوثيقة رقم (1) عام 1985 من مركز الجبهة القومية السودانية بأم درمان.. والذي أكد فيه أن هذه الجبهة تأسست في مايو 1970.. وأنها المسؤولة عن انقلاب 5/9/75.. حسن حسين.. واعتبرت أن الذين تم إعدامهم هم شهداؤها.. وهم.. بالإضافة لحسن حسين.. الرائد حامد فتح الله.. النقيب محمد محمود التوم.. والملاز أول عبد الرحمن شامبي نواي.. والملازم أول حماد الإحيمر والملازم أول طيار القاسم محمد هارون.. والسيد عباس برشم.. وكان من طلاب جامعة الخرطوم ومحركاً لأحداث شعبان.. بالإضافة إلى ستة عشر آخرين من الرتب الأخرى.. والسيد عبد الرحمن إدريس.. كان شريكاً أصيلاً مع حسن حسين في الإعداد والتخطيط.. ولكنه عندما أحس بفشل الانقلاب آثر الهرب.. وقد ظلت وسائل الإعلام تردد.. وتدعو الناس لاعتقال.. القاضي الهارب أو هكذا أسموه ولم يعد ثانية إلى أرض الوطن.. إلاّ مع المصالحة الوطنية.. حيث عينه النميري.. أميناً مناوباً للاتحاد الاشتراكي.. وقد أسر لي ابن خالي القاضي الشهيد عبد الفتاح محمد عبد الجليل.. الذي قتل في أحداث جامع أنصار السنة بالثورة.. أن عبد الرحمن إدريس.. صديقه.. وأنه بعد فشل الانقلاب.. قد جاءه واستعان به على الهرب..
أحسب أن أجهزة الأمن كانت قد اعتقلت.. كل العسكريين الذين كان لهم ضلع في التخطيط.. أو التنفيذ.. بل وشمل الاعتقال عدداً من المدنيين السياسيين الذين ورد ذكرهم.. وشكلت لمحاكمتهم.. ثلاث محاكم أمن دولة.. شملت (195) متهماً.. أعدم منهم ثلاثة وعشرون رجلاً.. وتحاكم الآخرون بالسجن.. والبراءة... وحكم على الحكمدار الطيب أحمد حسين.. وهو شريك أصيل.. تربطه بالمقدم حسن حسين.. صداقة.. منذ عهد الدراسة بخور طقت.. علاوة على الانتماء لكردفان.. حكم عليه بخمس سنوات قضى منها ثلاثاً وأفرج عنه.
ويروى أن المحاكمات تمت في مدينة عطبرة.. وأن الذين حكموا بالإعدام قد أخذو إلى ساحة الموت.. في منطقة خلوية اسمها وادي الحمار.. وأن الجميع تلقى الموت بشجاعة وبسالة.. بل.. الملازم أول عبد الرحمن شامبي.. استطاع أن ينتزع بندقية أحد الجنود.. ويحاول قتل جلاديه.. لكن البندقية.. كانت خالية من الذخيرة!!
إن الانقلاب العسكري.. لا يعد جريمة إلاّ إذا فشل.. وفي تصوري أن انقلاب حسن حسين.. كان مسالماً ولم يصادم القوات المسلحة أو يخلف ضحايا.. وأن العقوبات كانت قاسية جداً سيما على المشاركين من الرتب الأخرى.. والذين قد ينصاعون للأوامر.. أو يشاركون في الانقلاب وهم (ما عارفين الحاصل)..
ومن طرائف هذه المأساة.. ولما أذاع حسن حسين بيانه.. هلل أحد الضباط الكبار.. وهتف ضد النميري.. وكررها.. حسن حسين أبو شنب.. الراجل الضكر.. صاحبي أنا.. الليلة حأمشي ليهو في القيادة.. العامة.. وكنت شاهداً على الفرح الخرافي لهذا الضابط الكبير.. ولما فشل الانقلاب.. أجلسني في مكتبه إلى جواره.. وصار يكلفني بأعباء كتابية ولا يسمح لي بالخروج.. وكان يأتيني بما لذ.. وطاب من الطعام.. فطوراً وغداءً.. ولم يفرج عني.. إلاّ بعد أن هدأت العاصفة وأيقن بأني لن أضره.. وده ما نابني من حسن حسين!!.
ونواصل
http://www.alwatansudan.com/index.php?type=3&id=14880&bk=1