نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-08-2018, 09:22 PM   #[31]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 13 ربيع الاول 1430هـ - 10 مارس 2009م
كلام ساكت - أيــــــــام النمــيري (19)
لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
لعلَّ فكرة (توتو كورة) وتطبيقها بكفاءة عالية .. كانت هي واحدة من إبداعات مايو .. التي شغلت العباد .. وصرفتهم عن السياسة .. ومصادمة النظام .. وكانت .. الفكرة تقوم .. على إجراء إحدى عشرة مباراة في كرة القدم .. بين الفرق الرياضية على امتداد القطر.. ويتبارى أهل السودان جميعهم .. في شراء كبونات (توتو كورة) والتنبؤ بنتائج المباريات ، ومن ثمَّ تعلن أسماء أو بالأحرى أرقام الكبونات الفائزة .. والتي تدفع حوافزها من دخل هذه المباريات .. والتي قد تبلغ مبلغاً خرافياً .. أحياناً .. إذا جاء الفائز الأول بدون منافس .
حقيقة .. لقد شغلت (توتو كورة) العباد حتى عن شؤون أسرهم .. وصار مألوفاً أن ترى الناس في كل .. موقع .. داخل الأندية والمكاتب .. وداخل المنازل .. ينكبون على ملء الكبونات وإرسالها .. وكان منظر الصفوف حول أكشاك (توتو كورة) لشراء الكبونات ليلاً ونهاراً .. أو تسليمها .. منظراً عادياً جداً .. وقد ظلّت منافسات (توتو كورة) مشتعلة حتى تم إيقافها بسبب ما أُثير حولها من لغط .. فحزنت الملايين التي كانت تتسلّى بها .. وتنام وتصحو على أمل الفوز بجوائزها .. التي تصلح الأحوال .. وقد نجحت وسائل الإعلام كلها في تعميق الفكرة والترويج لها .. بالإضافة للإثارة .. التي تصحب لحظات .. الجائزة .. وبهرجة الأضواء حولها .. وحول أقاصيصها .. ونوادرها .. والذي فاز وباع الكارو .. واشترى كرولا .. ومَنْ هجر العشوائي .. وسكن الصحافة .. ومَنْ تنبأ بنتائج كل المباريات وتقاعس عن تسليم الكبون .. فأصابته الحسرة .. ومَنْ ضاع رأسماله وهو يشتري الكبونات .. ويعبئها وفق نظريات رياضية لا أساس لها .. دون أن يحقق فوزاً .. ونوادر الذين فازوا .. فقلبوا الترابيز على مديريهم السابقين .. أو العسكر الذين ملّصوا الكاكي .. ودخلوا السوق .. بفلوس (توتو كورة)!!
لم أكن محظوظاً في الأصل .. ولم أنغمس في (توتو كورة) .. وإن كنت قد مارستها على خفيف .. ولكنّي والحق يقال كنت سعيداً بهذه الفكرة (الجهنمية) والتي نشطت على إثرها الحركة الرياضية .. واستفادت من ورائها الأندية والحكام والمدربون واللاعبون .. ولو أنها استمرت على عِلاَّتها لكان حال منشط كرة القدم في السودان غير حاله اليوم.
وعلى ذكر (جهنمية) (توتو كورة) تحضرني مواقف لطيفة وظريفة.. منها أنَّ أحد الأصدقاء من المعاشيين.. المفلسين.. لم يتردد في فتح محل داخل بيته والقيام فجر بداية المسابقات أو المراهنات بشراء مئات الكبونات.. ويعكف على ملئها بشتى (الصلايب) مروساً أم الطيور أو الأمل عطبرة مثلاً ويكثر من الدرونات.. ويبيع هذه الكبونات (الملأى) الجاهزة بضعف سعرها.. ويجني من وراء ذلك مصاريف البيت وقُفة الخضار.. وقد خدمته الظروف مرة إذ فازت إحدى كبوناته الجاهزة بالجائزة الأولى. فحفّزه الفائز بمبلغ معتبر وذاع اسمه وأقبل الناس على بيته (محل الكبونات الجاهزة).. بل ومارس عملاً إضافياً (بالمقاولة) تجاه مَنْ يحضرون الكبونات بأنفسهم.. ويعبئونها تحت إشرافه.. ونصائحه.. باعتباره خبيراً (توتو كروياً).. كذلك فإنَّ الأناطين أدلوا بدلائهم وإفكهم بخداع مَنْ يركن إليهم.. في مباريات معيّنة فيُكَتِّفون فريقاً.. أو يَعمُون حارس مرماه أو يطرطشون حكم المباراة.. ويلخبطون رجال الخط.. وهلمجرا.. وحتى ستات الودع.. جلسن على كنبات الاحتياطي.. قريباً من أكشاك (توتو كورة) ويأتي حامل الكبون و(يَضْمُر) على كومين من التراب.. أحدهما على سبيل المثال.. الزومة.. والثاني أبو سعد.. وذلك طبعاً دون علم الوداعية التي تكشح حباتها.. وتقول الودع مُحمِّد الكوم ده.. وهكذا حتى تبيّن نتائج الحداشر مباراة قبل لعبها.. وإذا لم يُحمِّد الودع أحد الكومين أو (سيّح) فإنَّ النتيجة هي التعادل.
وقد قمت ومعي زميل آخر.. بالضحك على ذقن أحد الأنطونات (الكتبلاص) وعرضنا عليه كبوناً لمباريات لُعبت قبل شهرين.. وأخذ الأنطون مسيلمة الكذاب يهزم ويُفوِّز ويُدَرِّن.. ثم طالب بالأتعاب.. بعضها (قيدومة) والباقي بعد (الجايظة).. ولما أوضحنا له المقلب إكفهر وجهه وقال بالطريقة دي.. ظعلتوا الروهانيين وطفشتوهم خلاص!!
إنّ (توتو كورة) التي ابتدعها نظام النميري.. هي نفسها التي وئدت على يديه بعد تطبيق الشريعة باعتبارها مُغامرة يحرمها الدين الحنيف.. وقد كلّفني محافظ المديرية وقتها.. باستلام كل الأكشاك من هيئة (توتو كورة) المحتلة.. وإغلاقها ورفع تقرير بذلك.. وقد أديت هذه المهمة.. ورفعت له طوقاً به عشرات المفاتيح.. فاستلمها وقام بتوزيعها لجهات عديدة منها شرطة الجوازات وشرطة مديرية الخرطوم.. وكما يقول المثل (التسويه كريت في القرض تلقاه في جلدها).. فقد كُلِّفت مرّة بفتح مكتب للجنسية في الكشك الكائن على شارع الأزهري.. تقاطع الكدرو بحري ونفّذتُ الأمر.. وأنا غير راضٍ عنه تماماً، فزارني متفقداً.. الفريق شرطة علي يس.. فقلت له: يا سيادتك أنا في رتبة المقدّم.. زي المقدّم الحمدي بتاع اليمن فكيف يحكم هو جمهورية اليمن.. وأكون أنا رئيساً لهذا الكشك؟! فضحك - عليه رحمة الله - حتى أدمعت عيناه وعالج الأمر.. بأن استأجرنا منزلاً مناسباً لمكتب الجنسية على مقربة من مستشفى بحري.
إنَّ فكرة (توتو كورة) للمراهنات كانت فكرة خطيرة استطاعت أن تشد أهل السودان شداً نحو منشط كرة القدم.. وأن تستقطب الجهد الشعبي وتؤدي دورها في تثوير اللعبة.. على امتداد الوطن.. فتدعم الأندية وتصلح من حال الملاعب.. وتدعم اللاعبين والحكام.. والمدربين.. وفوق هذا وذاك تبعث الأمل في نفوس الجميع لنيل جوائزها المعتبرة.
إنَّ على الحكومة والمعنيين بأمر الرياضة في البلاد.. أن يعيدوا فتح ملف (توتو كورة) مرّة أخرى وإخضاعها لدراسة مستفيضة من منظور إسلامي يؤدي في النهاية إلى (أسلمة توتو كورة).. والأمر في تصوري سهل ومهم للغاية.. والمسألة معادلة واضحة بين أن تدفع الجماهير لتطوير اللعبة بالمراهنات أو أن تدفع الحكومة التي لا تدفع.. وإن دفعت فالبشيكات المرتدة.. وأحسب أنَّ هناك دولاً إسلامية لها تجارب في هذا المجال.. ومنها كما علمت جمهورية إيران الإسلامية.
أما الكارثة الرياضية التي ارتكبها النميري فكانت.. فكرة الرياضة الجماهيرية التي قطعها من رأسه.. أو زيّنها له زين العابدين ومَنْ حوله.. فالرئيس النميري كان من أنصار الأحمر الوهاج.. ولم تجف مريخيته.. حتى قيل إنه بنى مسجداً ووضع على مئذنته.. نجمة بدون هلال.. وقيل إنَّ إدارة المريخ اجتمعت به وطالبته بدعم ناديها.. الذي هو ناديه.. ولكنه اعتذر.. وقال.. أمامكم قريباً مباراة مع الهلال.. على كأس الذهب ولو أنكم انتصرتم وأخذتم الكأس فسأجد المبرر الكافي لدعمكم.. وجرت المباراة في حضوره وكانت مباراة حامية الوطيس حكمها الراحل حمدي محمود واستطاع الهلال فيها أن ينتصر على المريخ بهدف.. اللاعب عز الدين الدحيش.. وظلّت الجماهير الهلالية المنتشية بالنصر تهتف:
رئيسكم مين ** علي قاقارين
فاديكم مين ** علي قاقارين
وتحمّل النميري الهزيمة وأخفى مشاعره.. ولكن الهتاف لرئيس غيره لم يرضِه بالقطع وكانت الطامة الكبرى.. عندما وقف النميري لتسليم كأس الذهب لكابتن الهلال.. ناداه أحد المشجعين المعروفين باسمه فالتفت النميري ويا ليته لم يفعل.. فإنّ المشجع أتى بحركة بذيئة (صورة وصوت) ليغيظ النميري دون مراعاة لمكانته كرئيس للجمهورية.. فخرج النميري من الأستاد.. غاضباً مغتاظاً.. وقد بيّت في نفسه شراً مستطيراً.. وبعد أيام دعا كل قادة الأندية والعمل الرياضي.. في باحة الاتحاد الاشتراكي.. وخاطبهم معدداً مسالب الوسط الرياضي وفاجأ الجميع بحل الأندية الرياضية وإعلان الرياضة الجماهيرية.. بحيث تجري المباريات بين المناطق والمؤسسات.. ثم هتف.. ورددت من خلفه الجموع: (لا هلال.. ولا مريخ.. لا مريخ.. ولا هلال).. وقيل إنَّ أحد قادة فريق التحرير.. قد أبدى سعادته بقرار حل الهلال والمريخ ولكن النميري أحزنه هو الآخر عندما هتف: (ولا موردة.. ولا تحرير)!!
أحسب أنَّ هذا القرار كان من أفدح أخطاء النميري.. الذي استعدى عليه القطاع الرياضي الذي هو أقرب القطاعات إلى نفسه.. ولم يتراجع النميري عن هذا القرار وظلّت الرياضة الجماهيرية (الما معروف راسها من رجليها) مستمرة لمدة عام كامل.. استطاع بعدها المقرّبون منه.. أن (يليّنوا) رأسه.. ويقنعوه بالهداوة.. حتى عادت الرياضة سيرتها الأولى.. ليلتقي الهلال والمريخ مرّة أخرى.
إنَّ قرار حل هيئة المراهنات وإيقاف.. (توتو كورة).. والقرار الأسوأ بإلغاء الهلال والمريخ.. وكافة الأندية.. والاستعاضة عنها بالرياضة الجماهيرية.. التي لا يمكن بأي حال من الأحوال.. أن تستأصل من وجدان أهل السودان عشقاً قديماً.. لأنديتها.. عشش فيها لأكثر من نصف قرن.. وقد أدى هذا القرار الأهوج إلى قطع أرزاق الآلاف من العباد.. الذين عاشوا على مهن شتى مرتبطة بالأندية الرياضية.. وساحات الملاعب والتي أحالتها مراهنات (توتو كورة) إلى مجال واسع للمهن البسيطة.. من بيع الشاي والمبردات.. وترمس كبكبي.. والساندوتشات بأشكالها.. من فول وطعمية.. وحتى كسرة بالملوخية.. وفوق كل هذا وذاك فإنَّ قرارات النميري التي مسّت الوسط الرياضي.. كانت مثل الصقر الذي اقتحم الدوحة الظليلة.. فطارت كل عصافيرها.. وفقد السودان خيرة لاعبيه الذين هاجروا إلى دول الخليج.. والبترول.. والتي كانت وقتها تحلم باللاعب السوداني في ميادينها.
وفي خضم ذلك أيضاً ضاعت مباريات السباق وديربي الخيول في الرجلين. ومنع الرهان عليها.. فأصبحت المسابقات التي تجري (مسيخة) وبدون طعم.. وتلاشت أخيراً.. وهي على أشدها في دول إسلامية كثيرة.. مضافاً إليها سباق الهجن.. وقد رأيت بعيني رأسي في دولة الإمارات العربية المتحدة كيف يتزاحم الناس بالمناكب لدخول ساحات السابق.. والمراهنة على الخيول.. وكسب الجوائز القيّمة.. بل وهالني أن رأيت غالبية مرتادي هذا المجال.. نساءً ورجالاً من أهل السودان.. بثيابهم وعمائمهم وسحناتهم وشلوخهم التي تميّزهم عن الآخرين.
إنَّ على أهل السودان أن لا يسمحوا لرياضتي كرة القدم والخيول بالاندثار.. وعليهم أن يجلسوا جميعاً لدراسة الأمر وأَسلمة هذه المناشط ليرتاح عمنا أبو خضرة.. الذي كان يرفع يديه بالدعاء بعد الصلاة ويقول: اللهم أزرقنا من حلالك وحرامك.. ولما سألته عن الحرام الذي يطلبه.. قال: جائزة الديربي السوداني أو (توتو كورة) أو العقوبتين معاً..!



نواصل ..








ربط النقل



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22-09-2018, 08:26 PM   #[32]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

جريدة الوطن - الثلاثاء 20 ربيع الاول 1430هـ - 17 مارس 2009م
كلام ساكت - أيــــــــام النمــيري (20)
لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
تحزَّم النميري وتلزَّم .. وانطلق صبيحة الخامس والعشرين من مايو 1969م .. يقود السفينة في بحر هائج متلاطم الأمواج .. تلفه الأعاصير والأنواء .. وكان من حوله فتيةٌ أوفياء مخلصون متحمسون .. ولكن تنقصهم الخبرات والتجارب .. فأعلاهم رتبة .. كان المقدم بابكر النور .. والآخرون .. في رتبة الرائد .. وهي الرتبة التي قد يصلها الضابط آنذاك في أقل من عشر سنوات ... فدخلت السفينة في دوامات من الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات .. وكادت تغرق .. لو لا .. حبال النجدة الشعبية التي أنقذتها ...
ولم تلبث السفينة المايوية .. طويلاً وهي تمخر في عباب المحيط السياسي .. حتى اصطدمت في مارس 1970م بجبل الجليد الأنصاري العائم في الجزيرة أبا واشتعلت الأحداث الجسام .. وامتد أوارها .. ليبلغ معاقل الأنصار في ود نوباوي .. حيث قتل الأنصار نفراً من رجال السلطة .. وكان من بينهم الملازم .. معاوية سبدرات .. شقيق .. الشاعر الوزير عبد الباسط .. وتصاعدت الأحداث ومات الكثيرون وكان على رأسهم .. الإمام الهادي عبد الرحمن المهدي الذي قتل وهو يحاول الخروج من حدود السودان الشرقية والدكتور محمد صالح عمر .. من قادة الأخوان المسلمين البارزين .. كما اكتظلت السجون بالمعتقلين والمحكومين .. وكان من أبردهم الشيخ / محمد محمد الصادق الكاروري ... لقد انتصرت مايو على الجبل الأنصاري بقوة السلاح وبدعم من الجارة مصر .. وذك استناداً على ما أوردته أقلام مصرية.. وعندما أراد السادات أن يمتن على السودان فكشف المنكور .. المستور .. ولم تهدأ الأمواج حول سفينة مايو كثيراً.. حتى واجه القبطان النميري في 19 /7 /1971م انقلاب هاشم العطا .. الشيوعي .. وقد كانت الساحة كلها تنبئ بإرهاصات انقلاب.. يحول البلاد من خانة المعسكر الاشتراكي إلى معسكر اليمين أو عدم الانحياز على الأقل.. ولكن.. تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. نجح الانقلاب... وانطلقت المظاهرات الشيوعية تلوح بأعلامها الحمراء.. وتثير حفيظة الجماهير.. ولكن النميري استطاع أن يفلت من الاعتقال.. وتحرك الشارع.. مضطراً لاستعادة سلطة مايو.. التي كان يرغب في التخلص منها.. ولكن بعض الشر أهون من بعض.. وإيه الجابرك على المُر.. قال الأمَّر منه!!
لقد تحدثنا في مقالات سابقة عن هذه الحركة الانقلابية الشيوعية بتفاصيلها.. ونذكرها الآن فقط.. في عرض مسلسل.. المحن.. والابتلاءات... والمجابهات التي ظلت مايو.. تصارعها.. وتصرعها!! وفي 1/9/1973 واجهت أعتى هياج شعبي.. قاده طلاب الجامعات والمدارس وعرف بأحداث شعبان.. وأشعلت فتيله.. الأحزاب مجتمعة وعلى رأسها الحركة الإسلامية.. وتضامنت نقابات العمال مع تلك الأحداث.. فسارت التظاهرات والاعتصامات والإضرابات.. واشتعلت لساتك العربات في كل ناحية.. وأضرمت النيران في طلمبات البنزين وانهكت دوريات الشرطة.. بالجري ومطاردة المشاغبين والمتظاهرين والمخربين.. وكاد عقد الأمن في البلاد أن ينفرط.. وكادت الأحزاب أن تنتصر.. وتكرر تجربة أكتوبر.. لو لا.. أن النميري.. أحس بالخطر.. فتصدى لها بقوة.. وقمعها بشراسة.. مستعيناً بالقوات المسلحة.. وهدأ الموج.. ومضت سفينة مايو.. تمخر عباب الأحداث في حذر.. وما إن استرد القبطان النميري أنفاسه.. وتمدد في استرخاء بكابينة القيادة.. يستمتع بنسمات أمواج محيطه.. الباردة.. حتى أقض مضجعه راديو غرفة القيادة.. وصوت المقدم حسن حسين عثمان.. يذيع بيانه الانقلابي يوم 5/9/75 معلناً حل مجلس قيادة الثورة.. ومجلس الوزراء.. وجهاز الأمن القومي.. وجهاز توتو كورة... ويقال إن هذا البيان الأول والأخير.. لانقلاب حسن حسين.. قد صاغه.. المحامي كمال الدين عباس.. وهو من قيادات حزب الأمة.. ومن عجب فإن هذا الانقلاب قد تم بصورة.. مثيرة جداً.. لا تصدق إذ أن قائد الانقلاب.. جاء على ظهر دبابة.. ومعه.. جندي واحد فقط.. بخلاف سائق الدبابة.. ودخل الإذاعة.. وقدَّمه المذيع كال محمد الطيب... فألقى بيانه.. ثم خرج.. وترك الدبابة التي جاء بها.. لتحرس الإذاعة.. وذهب إلى القيادة العامة.. ولكن الضابطين شامبي وحماد الإحمير.. وهما من رفقاء حسن حسين.. أخذا الدبابة وذهبا بها إلى سجن كوبر.. لإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين السياسيين.. وتمكنا بالفعل من إطلاق سراح بعضهم.. وفي هذه الاثناء.. دخل قائد الانقلاب في محنة مع القيادة العامة... واحتدم الأمر حتى أن الملازم كمال محمد أحمد.. الذي كان يرافقه.. أطلق عليه النار لقتله.. ولكنه أصابه إصابة بليغة تم على إثرها اعتقاله.. وإرساله.. للعلاج.. بحراسه مشددة طبعاً.. واتجهت قوات مايو إلى الإذاعة.. ودخلتها.. بدون مقاومة.. لأنه لم يكن في الأصل ثمة انقلاب بها.. وأذاع الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم.. بياناً.. أعلن فيه دحر الحركة الانقلابية.. وقبرها في مهدها في بضعة ساعات... ومن اللطائف.. أن الراحل المذيع الدكتور أبو بكر عوض.. سارع بارتداء الزي العسكري وتسلح ببندقية.. وجاء لنصرة الانقلاب ولكن بعد فوات الأوان.. و(يا فرحة ما تمتش).. ويقال إن المذيع أبو بكر.. كان طالباً حربياً يوماً ما وتم فصله.
إن هذا الانقلاب.. لم يكن معزولاً كما صوره البعض أو عنصرياً.. كما دمغته مايو وأجهزتها.. ولكنه كان مسنوداً بقوى سياسية كبرى وتنظيمات تندرج تحت لافتة الجبهة القومية السودانية.. وهي قوى كانت قادرة على تثبيت دعائمه إذا نجح.. ولكنه فشل فشلاً ذريعاً.. والقيادة العسكرية.. وحدها هي التي تتحمل المسؤولية... وقد دفعت ثمن ذلك.. من أعمارها.. ولو أردنا تحليلاً لأسباب هذا الفشل فإنه يمكن تحديده فيما يلي:-
1- باستثناء المقدم حسن حسين.. والحكمدار الطيب أحمد حسين.. فإن كل العناصر التي شاركت في التنفيذ.. كانت من صغار الضباط وصف الضباط.. الذين لا قبل لهم بالمهمة الجسيمة التي تحركوا من أجلها..
2- فشل بعض المكلفين في تنفيذ بعض المهام عجزاً أو تقاعساً..
3- تحرك المنفذون.. كلٌّ بطريقته دون التقيد.. بالخطة.
4- تسرب المعلومات.. بالدرجة التي جعلت.. النميري.. يهجر بيته.. وينام ليلتها في منزل السيد/ بابتود.. بالخرطوم بحري.. وهو أحد أصدقائه العسكريين.. وبالتالي فشل الانقلابيون في اعتقاله.. أو اعتقال أي من رموز النظام.. أو احتلال أي موقع إستراتيجي من مواقع النظام.. بل وفرطوا في الإذاعة..
5- عدم وضع أي خطة.. للانسحاب والاحتماء في حالة الفشل الذي تعقبه عادة حملة اعتقالات وتصفيات.
6- الأسلوب الذي تم به تنفيذ الانقلاب.. كان سهلاً ومسالماً.. وكأنه لعبة مسلية وليس انقلاباً.. على حكم راسخ قوي له أنصاره داخل الجيش ووسط الشعب.. وحتى في دول الجوار.
7- حصر الانقلابيون.. -عسكريين ومدنيين- أنفسهم في جهوية واحدة.. هي غرب السودان.. (دارفور وكردفان) وما كنت أحسب أن جماهير العاصمة.. وهي قومية تمثل كل أهل السودان.. كانت ستخرج لنصرة الانقلاب.. إذا نجح.. والله أعلم.
8- أن قائد الانقلاب.. حسن حسين.. باشر المهمة بنفسه (برجولة وجسارة) زايدة حبتين.. وكانت النتيجة.. أن أصيب واعتقل بعد ساعة من بيانه الأول والأخير.. وأصبح الانقلاب بلا رأس.. أو رئيس..
غايتو.. أن الفشل السريع الذي مني به انقلاب حسن حسين.. لم يتح لمن خططوا له.. من السياسيين.. فرصة ارتداء جلابيبهم وعمائمهم.. والخروج إلى الشارع.. للتأييد والمناصرة.. وبذا.. انتهت هذه الحركة الانقلابية.. وقُبرت مع قادتها الذين أعدموا.. أسراراً كثيرة.. وربما مثيرة.. وقد أكد لي الحكمدار (مقدم شرطة) الطيب أحمد حسين.. الذي كان شريكاً أصيلاً في هذه المحاولة.. بأنهم لم يفكروا في قيام مجلس للثورة.. أو حتى يشاركوا في الحكم.. وأنهم كانوا بصدد إعادة الديمقراطية.. ومراقبتها بواسطة القوات المسلحة.. على الطريقة التركية دون غيرها.. وأن الأحزاب والتنظيمات السياسية التي كانت من ورائها.. هي (غرباوية) المنشأ والمنبت.. كجبهة غرب السودان.. وقائدها عز الدين المهدي.. واتحاد جبال النوبة.. بقائديه فيليب غبوش المسيحي.. وحسين خرطوم دارفور.. الاسلامي وجبهة نهضة دارفور برئاسة أحمد إبراهيم دريج وحزب وحدة غرب السودان.. بزعامة معتصم التقلاوي.. وهي جميعها تنضوي تحت مسمى الجبهة القومية السودانية.. كما أكد رئسها عبد الرحمن إدريس في بيانه الصادر بالوثيقة رقم (1) عام 1985 من مركز الجبهة القومية السودانية بأم درمان.. والذي أكد فيه أن هذه الجبهة تأسست في مايو 1970.. وأنها المسؤولة عن انقلاب 5/9/75.. حسن حسين.. واعتبرت أن الذين تم إعدامهم هم شهداؤها.. وهم.. بالإضافة لحسن حسين.. الرائد حامد فتح الله.. النقيب محمد محمود التوم.. والملاز أول عبد الرحمن شامبي نواي.. والملازم أول حماد الإحيمر والملازم أول طيار القاسم محمد هارون.. والسيد عباس برشم.. وكان من طلاب جامعة الخرطوم ومحركاً لأحداث شعبان.. بالإضافة إلى ستة عشر آخرين من الرتب الأخرى.. والسيد عبد الرحمن إدريس.. كان شريكاً أصيلاً مع حسن حسين في الإعداد والتخطيط.. ولكنه عندما أحس بفشل الانقلاب آثر الهرب.. وقد ظلت وسائل الإعلام تردد.. وتدعو الناس لاعتقال.. القاضي الهارب أو هكذا أسموه ولم يعد ثانية إلى أرض الوطن.. إلاّ مع المصالحة الوطنية.. حيث عينه النميري.. أميناً مناوباً للاتحاد الاشتراكي.. وقد أسر لي ابن خالي القاضي الشهيد عبد الفتاح محمد عبد الجليل.. الذي قتل في أحداث جامع أنصار السنة بالثورة.. أن عبد الرحمن إدريس.. صديقه.. وأنه بعد فشل الانقلاب.. قد جاءه واستعان به على الهرب..
أحسب أن أجهزة الأمن كانت قد اعتقلت.. كل العسكريين الذين كان لهم ضلع في التخطيط.. أو التنفيذ.. بل وشمل الاعتقال عدداً من المدنيين السياسيين الذين ورد ذكرهم.. وشكلت لمحاكمتهم.. ثلاث محاكم أمن دولة.. شملت (195) متهماً.. أعدم منهم ثلاثة وعشرون رجلاً.. وتحاكم الآخرون بالسجن.. والبراءة... وحكم على الحكمدار الطيب أحمد حسين.. وهو شريك أصيل.. تربطه بالمقدم حسن حسين.. صداقة.. منذ عهد الدراسة بخور طقت.. علاوة على الانتماء لكردفان.. حكم عليه بخمس سنوات قضى منها ثلاثاً وأفرج عنه.
ويروى أن المحاكمات تمت في مدينة عطبرة.. وأن الذين حكموا بالإعدام قد أخذو إلى ساحة الموت.. في منطقة خلوية اسمها وادي الحمار.. وأن الجميع تلقى الموت بشجاعة وبسالة.. بل.. الملازم أول عبد الرحمن شامبي.. استطاع أن ينتزع بندقية أحد الجنود.. ويحاول قتل جلاديه.. لكن البندقية.. كانت خالية من الذخيرة!!
إن الانقلاب العسكري.. لا يعد جريمة إلاّ إذا فشل.. وفي تصوري أن انقلاب حسن حسين.. كان مسالماً ولم يصادم القوات المسلحة أو يخلف ضحايا.. وأن العقوبات كانت قاسية جداً سيما على المشاركين من الرتب الأخرى.. والذين قد ينصاعون للأوامر.. أو يشاركون في الانقلاب وهم (ما عارفين الحاصل)..
ومن طرائف هذه المأساة.. ولما أذاع حسن حسين بيانه.. هلل أحد الضباط الكبار.. وهتف ضد النميري.. وكررها.. حسن حسين أبو شنب.. الراجل الضكر.. صاحبي أنا.. الليلة حأمشي ليهو في القيادة.. العامة.. وكنت شاهداً على الفرح الخرافي لهذا الضابط الكبير.. ولما فشل الانقلاب.. أجلسني في مكتبه إلى جواره.. وصار يكلفني بأعباء كتابية ولا يسمح لي بالخروج.. وكان يأتيني بما لذ.. وطاب من الطعام.. فطوراً وغداءً.. ولم يفرج عني.. إلاّ بعد أن هدأت العاصفة وأيقن بأني لن أضره.. وده ما نابني من حسن حسين!!.



ونواصل



http://www.alwatansudan.com/index.php?type=3&id=14880&bk=1



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 16-10-2018, 06:54 PM   #[33]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


أيــــــــام النمــيري (21) كلام ساكت


لواء «م»/ محيى الدين محمد علي

لا أحسب أن نظاماً سياسياً قد لاقى .. ما لا قى نظام النميري .. من تأييد جماهيري .. عريض .. ورفض من شتى ألوان الطيف السياسي في السودان شديد .. وقد بادر بهذا الرفض .. في مارس 1970م .. حزب الأمة .. وجماعة الأخوان المسلمين .. وكانت أحداث الجزيرة أبا وود نوباوي .. هي أول لكمة يمينية في وجهه وقد تحملها واستطاع أن يصمد .. ويواصل البقاء داخل حلبة الملاكمة السياسية .. ولكن الحزب الشيوعي في 19/7/71 ... عاجله بلكمة يسارية قوية (الضحى الأعلى) أسقطته أرضاً ..
ولكنه تحامل على نفسه ونهض .. وهزم اليسار بالضربة القاضية ودق النميري صدرهـ .. وفاخر بأنه هزم اليمين واليسار المتطرفين .. ورأي أن يثبت أركان حكمه .. بتحقيق ما بشر به في بيانه الأول من حل لمشكلة الجنوب .. واستطاع في 3/3/72 أن يوقع اتفاقية أديس أبابا برعاية الأمبراطور هيلاسلاسي .. ودعم مجلس الكنائس العالمي .. وكان السيد أبيل ألير .. هو عراب هذهـ الاتفاقية وقد فاوض في جانب الوفد الحكومي مع السيد اللواء محمد الباقر أحمد والدكتور منصور خالد .. وآخرين وكان المفاوضون .. من جانب حركة الأنانيا المتمردة برئاسة قائدها جوزيف لاقو .. واحتفلت البلاد جميعاً في الجنوب والشمال بهذهـ الاتفاقية التي حققت السلام .. وأسكتت صوت المدافع .. وهيأت لأبناء الجنوب حكماً ذاتياً .. أرضى طموحاتهم .
وحسب النميري أنه بعد أن هزم اليمين واليسار وأطفأ نار الحرب ولكنه تفاجا في 1/9/73.. بعصبة من الملاكمين .. تقتحم الحلبة .. ترتدي شعارات الحركة الاسلامية .. فأشبعته .. صفعاً وركلاً .. في الرأس .. وتحت الحزام .. وكاد أن يسقط ميتاً لولا أن تداركه أهله العسكريون .. واستطاع أن يسترد عافيته .. ويعود لحلبة الملاكمة في 5/9/75 .. أي بعد عامين . ونازل متحدياً جديداً .. صعد الحلبة من الجهة الغربية .. ليسحقه بالضربة القاضية في الثواني الأولى .. من الجولة الأولى ..!!
ولا يحسبن القارئ الكريم .. ان الأحداث الجسام .. التي حدثت في مارس 70 .. ويوليو 71 .. وسبتمبر 73 .. وسبتمبر 75 .. هي كل صراعات النميري من اجل البقاء .. ولكن كل حدث كان بمثابة رأس جبل الجليد .. وقد شهدت الساحة السودانية أحداثاً أخرى لا حصر لها .. يضيق المجال عن ذكرها .. كما لا يحسبن القارئ .. ان هذه الأحداث التي وقعت في الثلث الأول من عمر مايو .. هي كل شيء لأن لياليها كانت حبلى تلد كل جديد .. وقد (لاوز) النميري .. بعد هذه الأحداث .. وبدأ يشعر بالخوف .. من السقوط .. وفقدان تاج بطولة الملاكمة السياسية الذي ناله عن جدارة .. بعد أن صرع أفذاذاً من الوزن الثقيل .. كالإمام الهادي المهدي .. والسيدين النقيضين محمد صالح عمر .. وعبد الخالق محجوب .. وأحس أن كل جهوده في استقطاب الجماهير بالعمل السياسي والتنمية .. والانفتاح على الريف وتحقيق السلام بإنهاء الحرب التي قد أرهقت البلاد قرابة العشرين عاماً .. لم تنس الجماهير .. انتماءاتها الحزبية والطائفية .. وتعاطفها مع الجبهة الوطنية .. التي أوجدت لنفسها موطأ قدم في كثير من البلاد .. ودول الجوار على رأسها .. الجماهيرية الليبية .. بعد أن (باظت) العلاقات بين النميري والقذافي وأصبح صوت الشريف حسين الهندي عبر الإذاعات .. يقض مضجع الرجل .. ومع ذلك سرى في الشارع حديث بأن أحد أذرع مايو .. أسرَّ للنميري وقال له بأنه يستطيع تصفية الشريف حسين والتخلص من (وجع رأسه) .. ولكن النميري .. انتفض ورفض وقال للرجل .. والله الهندي ده .. يموت موت الله .. أنا ما أخليك !!.. على كل حال .. إن صح هذا القول أو لم يصح .. فإنه يشبه النميري الذي كان سودانياً .. حتى النخاع .
في اليوم المحدد لافتتاح مصنع الصداقة للغزل والنسيج بالحصاحيصا كُلفتُ وقتها وأنا برتبة النقيب .. ومعي الملازم أول مبارك شيخ أدريس لتغطية .. الشارع برجال المرور .. في المنطقة جنوب سوق الخرطوم المركزي .. قبل منعطف الشارع إلى سوبا .. وكان موكب الرئيس النميري .. سيتحرك إلى هناك في تمام الساعة الثامنة صباحاً .. وبالطبع .. كان الجنود وكنا هناك قبل ساعة من الموعد المضروب .. ولكن .. دون إبداء الأسباب .. تأخر موكب الرئيس حتى الساعة العاشرة .. فأخذت معي مبارك وذهبنا لأحد البقالات لشراء .. حاجة باردة .. وقد بلغ منا الظمأ مبلغاً .. ولكن مبارك أخذني من يدي إلى منزل مجاور وقال.. هذا منزل خالي .. نخُش .. نشرب .. بارد.. وشاي.. ودخل هو إلى جناح الأسرة.. ودخلت الصالون.. لأفاجأ بجمع من الناس يقارب العشرين.. وكنت أرتدي الزي الشرطي الأبيض لضباط المرور.. وأحسست أن الجميع قد اندهشوا لمقدمي.. ولكن الأستاذ علي محمود حسنين الذي كان بينهم .. والذي تربطني به صلة القربى .. والانتماء لمدينة أرقو .. قام .. وجاءني وسلم على بالأحضان .. الأمر الذي أراح الجميع وطمأنهم .. بعد ذلك جاء آخر (بجك) ليمون بارد فاضطرب لما رآني.. وظل يدفق الليمون في الكوب تارة.. وخارجه تارات.. وظلت كل أعين الجميع ترمقني وتنظر إلي بريبة .. حتى جاء مبارك من الداخل .. وأخذني.. لنلحق بالشارع.. وقد علت أصوات (السايرينا) معلنة قرب وصول النميري وما إن خرجنا.. حتى تفرق الجمع في لحظات وسألت مبارك عن الحاصل.. فقال لي إن ابن صاحب البيت كان معتقلاً وأطلق سراحه بالأمس .. وأن الحضور في الصالون جاءوا يهنئونه بسلامة الخروج .. فقلت له.. هو ذاك.. ولكنه اجتماع سياسي استغل الظرف بذكاء .. وأن من بين الحضور.. الأستاذ علي محمود حسنين وهو من المناوئين للنظام.. والرجل الذي كان يجلس إلى جواره.. هو في اعتقادي الشريف حسين الهندي أو رجل من أسرته قريب الشبه به.. وإنه يتحتم علينا.. أن نتعاهد على الله.. بكتمان هذا السر وعدم البوح به.. حتى لا يضار خالك وأسرته التي أكرمتنا.. ولا يضار الأستاذ علي محمود.. وأنا في مقام خاله وقلت له محذراً.. أعمل حسابك يا مبارك.. فإن هذا الاجتماع سيكون له ما بعده وربنا يستر!!.. وذات يوم.. بعد أسبوع أو أسبوعين من الحدث.. جاءني مبارك شيخ إدريس.. وهو من أبناء منطقة كرمة.. جاءني غاضباً.. وقا لي لقد كشفت السر.. وأبلغت جهاز الأمن.. لأن الجهاز قد استدعاني وأنا ذاهب إليه الآن.. وحيستدعوك إنت كمان!!
فقلت له.. ثق تماماً بأني لم أفعل.. وعليك أن تذهب وأنت ثابت الجنان وسيكون الأمر مختلفاً جداً.... وذهب مبارك وجاء وهو يضحك وقال تصور.. إن جماعة الجهاز فتشوا نفس المنزل بالأمس ولم يجدوا شيئاً سوى كرتونة مكتوب عليها الملازم أول مبارك شيخ إدريس.. وسألوني عن ذلك.. فقلت لهم إن صاحب المنزل خالي.. وإن الأهل أرسلوا لي كرتونة بلح.. بواسطته.. ولكني تنازلت عنها لأسرته.. وانتهى الأمر.. ثم اعتذر لي عن سوء ظنه بي!!
لقد صحت توقعاتنا.. بأن التجمع الذي اقتحمناه.. بزي ضباط المرور الأبيض.. كسلامة نوايانا.. كان اجتماعاً مهماً جداً.. لشيء مهما سيحدث بدليل.. أن أجهزة الأمن.. قد قامت بتفتيش مقر الاجتماع بعد فوات الأوان.. وقد سرت في الشارع العام أقاويل.. وإشاعات.. وتخرصات كثيرة تنذر.. بوقوع حدث.. جلل.. غداً أو بعد غدٍ.. ونشطت أجهزة الأمن والاستخبارات تلتقط كل شاردة وواردة.. وتجمع كل الخيوط.. وتراقب كل البيوت.. وتستجوب.. وتعتقل وتصل في رأيي.. إلى نصف الحقيقة.. وقد علموا.. شيئاً.. وغابت عنهم أشياء والحقيقة.. كلها.. قد يجليها الله إلى بعض عباده.. ولكن أحداً.. لن يفهمها إلاّ بعد وقوعها.. وقد كنت رئيساً لقسم مرور بحري.. وكان هناك رجل حبشي مسلم.. يدعى إبراهيم.. يحسبه البعض مختلاً.. وكنت أحسبه من الصالحين لما رأيت.. ورأى كل رجال شرطة المرور من كراماته.. لقد كان المرحوم إبراهيم.. لا يحادث احداً.. إلا نادراً.. يظل يتمتم.. بعبارات هامسة.. لا نفهمها.. ويقوم أحياناً.. برسم مربعات على الجدران.. ويكتب فيها أرقاماً ويمضي عنها.. مشغولاً بتمتماته.. ورغم أن عمره.. كان قد ناهز السبعين إلا أن مجرماً من المعتادين.. حاول مضايقته.. فصفعه صفعة كان لها صوت (الكومبرشن).. جعلت المجرم يجري هارباً.. مذهولاً.. وكان إبراهيم.. بعد (حوامته).. يعود إلى القسم.. وبين (كراكيب) وبراميل وصفائح وغيرها.. يفترش الأرض.. وينام عليها حتى الصباح.. دون ان يمسه سوء.. من عقرب أو حتى نملة.. هذا الرجل الصالح.. انتابته حالة هياج رءاها الجميع.. فظل يقف بالساعات الطوال محدقاً في اتجاه الغرب.. وكأنه يرى شيئاً ما.. فيتمتم.. ويرمي بالحصى.. والحجارة الصغيرة في الاتجاه.. فطلبت من رجال القسم.. أن يتركوه على حاله.. ولا يتدخلوا.. إلا اذا أفرط في الهياج واستمر الشيخ إبراهيم.. يبدأ نشاطه اليومي بالوقوف في نفس المكان.. ومحدقاً في اتجاه الغرب.. ويتحدث وكأنه يخاطب مخلوقات.. لا نراها.. ويقذف نحوها بالحصى.. وكان الرجل رغم حالة الانجذاب التي يعيشها.. يدنو مني ويسعد.. بمداعباتي له.. فجئت ووقفت إلى جواره.. وحدقت كما يحدق في الأفق عسى أن أرى شيئاً.. وقلت له يا حاج إبراهيم.. إن شاء الله خير؟!
فقال.. ما خير.. القبلة من الشرق.. بقت غرب.. القبلة بقت غرب.. وظل بعد ذلك يكررها كل يوم جديد.. حتى وقع الحدث الجلل في 2/7/1976.. وهو الذي شاع بين الناس.. بالغزو الليبي وانصرف من بعده الشيخ إبراهيم.. نحو رسم المربعات.. والتمتمات.. غير مهتم بالأحداث.. وقعقعات السلاح.. ورائحة الموت وكأنه يقول أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر القوم جراها ويختصم.



ونواصل









التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 16-09-2019, 11:17 PM   #[34]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


كلام ساكت
أيـــــام النمـــيري «22»
لواء «م»/ محيى الدين محمد علي

تشكلت الجبهة الوطنية لأول مرة في المملكة العربية السعودية .. من أحزاب الاتحادي الديمقراطي ... والأمة .. والإخوان المسلمين .. إلاّ أنها ضعفت جراء الضربات التي تلقتها من نظام النميري .. بعد أحداث شعبان والجزيرة أبا .. ولكنها عادت وتكونت من جديد في 14 /11 /1974م بإثيوبيا برئاسة الشريف حسين الهندي .. وعضوية د. عمر نور الدائم .. وعثمان خالد مضوي .. وآخرين .. وحدث ما لم تكن تحلم به هذه الجبهة .. من قطيعة بين النميري والقذافي ، فتمكنت على اثرها من فتح معسكرات التدريب في الكفرة والعوينات .. وكان قوام المتدربين من شباب الانصار والاخوان المسلمين .. وكان الصادق المهدي .. الذي جاء إلى هناك يرى أن يفتح الباب امام القوى السياسية الصغيرة الاخرى لتشارك ، ولكن رأيه لم يرضِ الاخوان ..
وبعد أن تجمعت القوة الكافية .. وتوافر التسليح المناسب .. كان لابد .. من قائد عسكري .. ذي كفاءة عالية تمكنه من غزو الخرطوم .. والسيطرة علي مقدراتها الأمنية والعسكرية .. وقلب النظام لصالح الجبهة لتحكم البلاد لفترة انتقالية .. عمرها خمس سنوات يتم خلالها تصفية مايو وآثارها ومحوها من ذاكرة الجماهير.. وتدور من بعدها عجلة تداول السلطة ديمقراطياً .. ووقع الاختيار على العميد م. محمد نور سعد المشهود له بالذكاء والكفاءة وهو الحاقد على النظام المايوي .. كما قيل بسبب طردهـ من القوات المسلحة .. وعزله بقص رتبته العسكرية بالمقص إمعاناً في التشفي .. وعند الاتصال به .. رحب ووافق وباشر مهامه في الإعداد والتخطيط والتنسيق والاستعداد للتنفيذ ، وكانت اجهزة الامن والاستخبارات والشرطة كلها تطارد المجهول وتجري وراء كل خيط وتتسقط كل الاخبار .. وتراقب الدور والعناصر المناوئة .. وتلقى حينها الرائد ابو القاسم محمد ابراهيم اول معلومة .. من مصدر ما .. مغزاها أن جماعة كبيرة ستأتي إلى مقابر شرفي .. وكأنها تحمل جنازة ولكنها جماعة مسلحة .. ستنطلق من هناك لقلب نظام الحكم .. وقد كشف المصدر ذاته أسماء كثيرة كان لها دورها الخارجي والداخلي وتم اعتقال معظمها ومن بينهم الأستاذ علي محمود حسنين .. كما أن مجموعة من عناصر الجبهة الوطنية القادمة من معسكرات الحبشة قد وصلت إلى منطقة كبكابية وكتم والفاشر وتم الاشتباهـ فيهم واحتجازهم وعددهم حوالي 216 فرداً .. فأرسل المقدم أمن وقتها محمد الفاتح عبد الملك .. وكمال علي مختار ونصار للتحقيق معهم .. وقد توصلوا إلى حقيقة هامة هي أن تحركاً سيحدث في الخرطوم .. وهو ما يعضد الأقوال التي بلغت الرائد أبو القاسم ويؤكد صلة الاجتماع الذي اقتحمناهـ دون قصد .. كما ذكرت في المقال السابق مع ما وقع وسيقع من أحداث .. وكما يقول المثل السوداني .. وقوع البلاء ولا انتظارهـ .. فإن السلطة بأجهزتها الأمنية مجتمعة كانت تملك الأدلة ... على احتمال وقوع الحدث الجلل وتتساءل بقلق متى سيقع وكيف سيقع وهل سيجيء من الشرق أو الغرب .. من السماء .. أو الأرض .. من الجيش أو من غيرهـ ؟ ولا احد كان يملك الاجابة القاطعة على هذهـ الاسئلة .. فوضعت كل قوات الشعب المسلحة .. والشرطة والأمن تحسباً .. في حالة الاستنفار القصوى 100% غير إن استنفار القوات المسلحة في خطوة مثيرة للدهشة خفض الى 50% .. والاقاويل في هذهـ «الحتة» مختلفة جدا .. بعضها يشير باصابع الاتهام .. نحو قيادات نافذة .. في جهازي الامن والاستخبارات «عليها جميعا رحمة الله» بحسبانها متواطئة مع الجبهة الوطنية .. وبعضها يزعم بان محمد نور سعد كان قد تصرف بذكاء شديد واتصل تلفونياً بالفريق محمد عثمان هاشم .. رئيس هيئة الأركان وقتها وقال له : أنا حأستلم البلاد اليوم .. والقوة التي أعتمد عليها .. هي القوة التي حولك في حالة استعداد .. وبكرة تشوف !!
وأن السيد رئيس هيئة الاركان .. قلب امر هذه المكالمة وعلى حكمة نصفك عاقل ونصفك مجنون .. امر بتخفيض استعداد الجيش الى 50% وكما تشاء الاقدار .. دائما .. ان تكون لي صلة بالكثير من الاحداث ايام النميري .. فان صلتي هذه المرة طريفة مخيفة .. وكان من ورائها .. صديقي النقيب وقتها سعد عابدون .. شقيق اللواء طيار«م» الفاتح عابدون وهو خرطومي المولد والمنشأ .. وكان اكثر ما يضياقه في العمل الشرطي ان يكلف بعمل الضابط .. المناوب .. وبالاخص يوم الجمعة .. الذي يمارس خلاله نشاطات اجتماعية كثيرة وكنت على عكسه افضل العمل مناوبا يوم الجمعة .. فدخل معي في مفاوضات طويلة .. انتهت بان اقوم بسد مناوبة يوم الجمعة عنه .. مقابل .. عشرة جنيهات .. يتم دفعها يوم الخميس .. واستمر الحال وشاع بين الزملاء .. وكنت سعيدا به .. لأنه يكفيني شر «جوطة» يوم الجمعة في المنزل .. ولأن الجنيهات العشرة كانت تكفي لشحنه الثلاجة باللحوم والدجاج والاسماك .. وحق السجائر .. وكنت أحرص على مناوبة سعد اكثر من حرصي على مناوبتي الاصلية .. فأتهيأ واتوجه الى مقر الضباط المناوب برئاسة شرطة المديرية .. لتسديد فاتورة الدفع المقدم ..!!
وفي يوم الخميس الفاتح من يوليو .. استلمت المبلغ المتفق عليه بيننا» .. وكانت قوات الشرطة كلها في حالة استنفار قصوى في انتظار «بشرى» وهو الاسم الحركي لمحمد نور سعد .. كما اتضح لاحقا .. وسمح لي وحدي بالانصراف حتى اتمكن من «سد النوبتجية» صباح يوم الجمعة .. وبالفعل صحوت باكرا وتهيأت .. وارتديت زي ضباط المرور الابيض .. وتحركت بالعربة البوكس الصفراء .. المزينة .. باجهزة «السابرين» الحمراء على راسها .. ولم اكد اخرج من دائرة المنزل حتى احاطت بي مجموعة من رجال ونساء حي الاملاك يمنعونني من الخروج .. ويوضحون لي ان البلد فيها انقلاب .. فوعدتهم بالذهاب الى قسم المرور بحري .. ولكني وما إن تخلصت منهم .. حتي انطلقت الى الخرطوم .. عبر كبري النيل الازرق .. وعندما دخلت منتصف الكبري .. هز قصف الراجمات .. الكبري حتى تخيلته سيسقط وينهار .. وارتسمت ورقة العشرة جنيهات «العابدونية» امامي وايقنت بانها ستكون سبب هلاكي .. فعبرت الكبري وواصلت السير .. في طريق الجامعة متجها إلى رئاسة شرطة المديرية التي كان مقرها مجلس الوزراء الحالي .. وحرصت علي ان لا تتعدى سرعة العربة التي اقودها بنفسي الخمسة اميال في الساعة . تحسباً لموتة هادية .. طلقة تخُمَّنا !!
وعلى جانبي الطريق .. كانت مجموعات من الرجال ذوي السحنات السوداء والسمراء .. المجللة بالتراب والعرق التي يطل من عيونها العناء والسهاد والرهق .. وكانوا جميعا .. في قمصان ومنطلونات مدنية .. يحملون الكلاشنكوفات وانواعاً اخرى من الاسلحة التي لم ارها من قبل .. كما كانوا جميعهم مزودين بالسلاح الأفريقي الدفاعي .. ماركة Hijabat «حجابات» تطوق اذرعهم .. وتتدلى كالنياشين على صدورهم وطلبت مني اول مجموعة ان أتوقف .. ففعلت ولم اترجل من السيارة .. فاقتربوا مني .. فلاحظت في عيونهم دهشة من هذا البوكس الاصفر ذي العرف الاحمر .. والضابط «الحمريطي» الذي يقودهـ .. في زيه العسكري الابيض وغطاء راسه الازرق .. فسالوني بتهذيب عن وجهتي .. فتعمدت ان اجيبهم بحزم ورباطة جاش .. انا ماشي استلم المناوبة في رئاسة المديرية ... فسمحوا لي بالمرور .. فواصلت سيري وتوقفت عند المجموعة الثانية وقلت لهم .. أنا ماشي أستلم عمل الضابط المناوب في رئاسة شرطة المديرية .. فاذنوا لي بالسير .. فسرت ثم توقفت .. ثم سرت .. وتوقفت وكانوا يسالونني نفس السؤال ولايزيدون واجيبهم .. بنفس الجواب ونفس الحزم .. حتى وصلت المديرية .. فاحاط بي الضباط الموجودون بها منذ الخميس .. يسالون عن الحاصل ... وكيف وصلت اليهم من الخرطوم بحري .. وجوانب الخرطوم تهتز باصوات المدافع .. والقوات الغازية .. تنتشر في كل المواقع وحكيت لهم بالتفصيل .. مارايت وتعامل الجماعات المسلحة معي وسماحها لي مواصلة السير .. فعلق احد الضباط ساخرا وقال ..الجماعة افتكروك الملحق العسكري الليبي .. وقال اخر .. جايز .. فاكرنك .. قريب غازي صلاح الدين الذي كان يحتل دار الهاتف مع عبدالاله خوجلي .. شقيق حسين - وقد صرع ولاقى ربه وهو يدافع عن موقعه !!
وثم توليت مهمة مناوبة الدفع المقدم .. و«توهطت» وجلست وبدات .. اكتب .. واكتب بلا توقف والانباء والاقاويل تنتشر والتعليمات تتوالى .. وتتضارب احيانا والاخبار .. تجيء من كل صوب وناحية .. والطلقات وهدير المدافع لا يتوقف .. والموتى يتساقطون هنا وهناك والجثث على الطرقات ولا احد يجروء على بلوغها .. وظللت اكتب واكتب .. علي مدي ثلاثة ايام .. فسودت ثلاثة دفاتر احوال .. ولم اتنفس الصعداء .. حتى انقضى الأمر .. وعاد النميري يلعلع من جديد !!
فقد نجح العميد م. محمد نور سعد .. في تنفيذ خطته .. واستطاع الاستيلاء على الاذاعة والتلفزيون والقيادة العامة وسلاح الاسلحة ... والمهندسين ودار الهاتف وقد دخلت قواته الخرطوم وأمدرمان بحيلة ذكية .. في عربات كبيرة .. مكتوب عليها هيئة توفير المياهـ .. والتي اعتاد الناس على رؤيتها تدخل العاصمة وتخرج منها .. ومع كل هذا النصر الذي حققته قوات الجبهة الوطنية بقيادة العميد م.محمد نور .. الا أنها في النهاية ... أي بعد ثلاثة ايام بالتقريب .. هزمت شر هزيمة .. واستعاد النميري قبضته على مقاليد الامور .. ودفعت الجبهة الوطنية ثمنا غالياً .. أفلت منه قادتها بالهرب .. ودفن المئات تحت الثرى .. قتلا واعداماً .. واكتظت السجون والمعتقلات .. ولكن لماذا هزمت قوات الجبهة الوطنية .. بعد الفوز الكاسح الذي حققته ؟!
لقد كانت الاسباب عديدة .. بعضها مسؤولية الجبهة .. وبعضها من تصاريف القدر ومنها :-
1/ ان الخيوط التي تجمعت بايدي السلطة واجهزتها الامنية .. والتي كانت تشير بقوة الى وقوع حدث ما .. هيأتها نفسياً .. ولم تؤخذ على حين غرة .. ثم ان الاعتقالات التي تمت على ضوء هذه الخيوط .. قد أضعفت قوة الجبهة الداخلية المساندة للغرور وأربكتها ..
2/ ان المجموعة التي كلفت باحتلال .. دار الاذاعة والتلفزيون .. الحقت اضرارا بالجهازين .. ولم يكن من بينها فنيون .. وقد تمكن مهندسو هذه الاجهزة .. من الفرار وبذا عجزت .. قيادة الجبهة الوطنية من اذاعة بيانها ومخاطبة الجماهير والافصاح عن نفسها وهويتها .
3/ نجاح السلطة .. في مخاطبة الجماهير بلسان اللواء الباقر .. عبر اذاعة بثت برامجها من سلاح الاشارة . سمت قوات الجبهة «بالمرتزقة الغزاة» وحرضت الجماهير على مصادمتهم ومقاومتهم .
4/ فشل الجهات المنوط بها .. توفير احتياجات القوة .. من مأكل ومشرب ووسائل نقل وإتصال .. في مهمامها .. كما فشلت في توفير الزي العسكري للمحاربين والذي كان سيخلط الحابل بالنابل ويقلب الموازين .
5/ وصول طائرة النميري .. الى مطار الخرطوم قبل نصف ساعة من الموعد المضروب لها .. فغادر المطار .. قبل وصول القوة المكلفة بتدميرها .. بمن فيها .. فور هبوطها..
6/اخطأت قوات الجبهة في الاتي :-
آ - عدم تامين منطقة بحري والقيادات العسكرية فيها .
ب - عدم الاستيلاء على مواقع الامن والشرطة والاستهانة بقدراتها مما جعلها تساهم بفعالية في افشال الغزو .
ج - استفزاز القوات المسلحة .. باحتلال القيادة العامة .. وبعض القيادات الاخرى .
د - تفلت بعض أفرادها .. واطلاقهم النار بلا مبرر .. على المواطنين الابرياء .. فازهقت العديد من الارواح وأستعدت المواطنين عليهم
7/لقد كان قادة الجبهة في عجلة من امرهم وفي شوق عارم لكراسي السلطة .. شوق العرسان لـ«الكوشة الزفاف»، ولولا ذلك لما جاءوا غزاة عبر الحدود ودهـ الكلام البجنن «بوبي» السوادني .. ولو انهم صبروا وحشدوا قواتهم بالداخل .. ثم انقضوا على السلطة لانتهي العهد المايوي عام 1976م .. وهبت ثورة الانقاذ الوطني في اي شهر من شهور 1989م .. وانا ماشي نيالا ..!





ونواصل





التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-12-2020, 07:29 AM   #[35]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن : الثلاثاء 11 ربيع الثانى 1430هـ - 7 ابريل 2009م
كلام ساكت - أيـــــام النمــــــيري (23)

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
كنت فى المقال الفائت قد قلت إننى تحركت من منزلى فى الاملاك بالخرطوم بحرى فجر الجمعة 2 يوليو 1976م لإستلام مهامى كضابط مناوب برئاسة شرطة المديرية لأنى كنت قد عاهدت الزميل النقيب سعد عابدون على القيام بها نيابة عنه مقابل عشرة جنيهات إستلمتها وبعزقتها ، وفى الطريق أستوقفنى شاب فى سنى يرتدى الملابس المدنية وعرفنى بأنه ضابط فى وحدة نظامية اخرى ، وطلب أن يرافقنى الخرطوم فسمحت له ، وركب الى جوارى وعند مدخل كبرى النيل الازرق أحاط بى عدد من رجال شرطة المرور أعرفهم وحاولوا إثنائى عن التقدم ، لأن الخرطوم ’’جايطة‘‘ ولكنى واصلت لأن فاتورة الدفع المقدم ، كانت تستفزنى لتسديدها ، ومشيت نحو الهدف ، وفى منتصف الكبرى دوت عشرات المدافع ، فى منتصف الخرطوم ، حتى إهتز لها الكبرى وإرتج إرتجاجاً عنيفاً وأحسست بالضابط الذى كان الى جوارى يرتعد ، ثم يفتح باب العربة ويقفز ، وهو يردد .. دهـ مجنون !! ويجرى عائداً من حيث أتى الى الخرطوم بحرى ، ولكنى واصلت مشوارى فى طريق الجامعة ’’مجبر أخاكم لابطل‘‘ حتى وصلت الى رئاسة شرطة المديرية ، وتسلمت أعباء أطول مناوبة فى التأريخ ، وذلك لأن القوات التى كانت فى حالة أستعداد بالرئاسة ، جميعها من الرتب العليا ، ولم يكن بينهم من هو فى رتبتى ، ليحل محلى ، ثم إن الاحداث بالخرطوم وامدرمان على وجه الخصوص حظرت التحركات فيها تلقائياً ، واصبح كما يقولون ’’الجوة جوة والبرة برة‘‘ بل إن الكثير من الرتب العليا فى مختلف القوات النظامية كانوا التحقوا بأقرب مواقع الشرطة من منازلهم لإستحالة التحرك الى أماكن عملهم ، وكان من الطريف جداً أن تجد فى نقطة شرطة الحلفايا مثلاً عدداً من العمداء والعقداء وأهل الدار يقومون على ضيافتهم ، بإمكاناتهم المتواضعة !!
تسلمت أعباء المناوبة ، وكانت هناك فرية أو شائعة كبرى لا يعرف مصدرها تقول : بإن ما يحدث فى أنحاء العاصمة هو من فعل الاثيوبيين .. مما دفع المواطنين على التحرش بهم ، وتسبيب الاذى والضرر للكثيرين منهم ، وقد حاولت بحكم المشاهدة التى أتاحتها لى الرحلة من بحرى الى الخرطوم ، وتحدث الجماعات المسلحة معي أن أقنع قيادات الشرطة العليا الموجودة برئاسة المديرية بأن العناصر على جانبي الطريق لا علاقة لها بالاثيوبيين ، سحن ولا لهجة وبدأت الامور تتجلى وتتضح الرؤية ، بأن الجبهة الوطنية قد غزت البلاد من ليبيا بواسطة قوات من المرتزقة وبدأت القوات المسلحة والشرطة والامن تتعامل معها وتحاصر جيوبها ، وتستعيد القيادات المواقع من قبضتها ، وتحسم المعركة لصالح النميرى وتتفرق قوات الجبهة الوطنية أيدى سبأ ، بين هارب ومعتقل وقتيل .. وتمكن العميد ’’م‘‘ محمد نور سعد القائد العسكرى لعملية الغزو من الفرار والهروب من ساحة المعركة التى آلت إليه ..
ثم إنقلبت عليه ، وكنت بحكم واجبى ’’الضابط المناوب المقيم‘‘ أكتب كل شئ ، وكل شاردة وواردة ، وكل تحرك يحدث ليلاً أو نهاراً وأسجل كل عمليات الدهم والمطاردات والتحقيقات والاعتقالات التى قامت بها قوات الامن والشرطة والاستخبارات وارصد اسماء الجرحى والقتلى وحجم التدمير والاضرار الذى حاق بالمرافق والوحدات ، وذلك طبعاً وفق التقارير التى تأتينا شفاهة أو كتابة أو هاتفياً عبر الخطوط الداخلية ، إذ أن الاتصالات التلفونية المباشرة كان قد تم تعطيلها بإحتلال دار الهاتف ، ولم تكن وقتها ثمة موبايلات فضعف أو إنعدم إتصال القيادات بوحداتها ودفع حركة الغزو نفسه ثمن ذلك وعجز عن الاتصال برجاله ففضل الهرب ، ويضيق المجال هنا عن حصر شهداء القوات المسلحة والشرطة الذين لقوا مصرعهم اثناء هذهـ الاحداث ، ولكن كان من بينهم العميد يحي منور مدير الاستخبارات وقائد السلاح الطبى الفريق الشلالى ، والذى يقال : إن احد قادة المؤتمر الشعبى الحاليين قد قام بتصفيته جسدياً ، بعد إحتجازهـ جوار كبرى شمبات .. والله اعلم .
كما ان البلاد قد فقدت نجماً لامعاً جراء هذهـ الاحداث بمصرع النجم الرياضى الشهير ، ولاعب كرة السلة العالمى الذى قاد فريق السودان القومى الى انتصارات باهرة ومرموقة .. وهو الفنان وليام اندريا ، الذى ظل يعطر ليالى الخرطوم بأغانيه العذبة وينداح صوته مع النسمات يردد ضمن إحدى اغنياته الشهيرة ’’بدور ارتاح بدور ارتاح‘‘ حتى كتب له القدر الراحة الابدية ، بطلقة طائشة ، من طائش ، دون ذنب ، فأضاعه ، وهو لايدرى اي رجل أضاع !!
وكان طبيعياً أن تحدث اضرار بليغة وخسارات كبيرة تحت وطأة الصراع المرير بين القادمين ، والمقاومين وقد استعملت الاسلحة الفتاكة والثقيلة مما الحق الضرر بوسائل الاتصالات وتعطيل اجهزة البث الاذاعى والتلفزيونى ، والطريف فى هذا الامر إن تلفزيون السودان كان ابيضاً واسود ، لايميز بين الكابلى وعبدالعزيز داؤود ، وانه كان هدية مهداة من المانيا ، وعندما تعطل بفعل قوات الجبهة الوطنية ، ارسل الاسبير المطلوب الى المانيا لإستبداله ، وعلم اهل السودان عندها بأن تلفزيونهم ، يمكن ان يكون ملوناً وقد كان . ورب ضارة نافعة .. لقد سمعت ذلك كثيراً ، وراق لى .. ولكنى لا أجزم بصحته .!!
لقد كانت ساعات المناوبة ’’التأريخية‘‘ التى تحملتها مضنية وقاسية ، ولكن الله اكرمنى بها كرماً عظيماً يلازمنى حتى اليوم ، ويبقى حياً .. وقد دخلت الاحداث كلها فى ذمة التاريخ ، وذلك بسبب ما إنتابنى من حزن وغبن وانا اعيش هذهـ اللحظات من بداياتها الى نهاياتها واقوم بتسجيلها وما سرى فى اعماقى من شعور وطنى عميق . وغضب عارم على غزو المرتزقة للبلاد أو هكذا قيل .. وإشاعة الفوضى والخراب فيها ، فاستيقظ الشاعر فى دواخلى إنفعالاً وتأثراً ، فإختلست هدأة الليل وقد خلد الجميع حولى من الضباط لسلطان النوم ، وأنا مساهر فى عز الليل مع دفاتر الاحوال .
فأخذت قلماً وورقاً ، وكتبت بنفس واحد ، وكأن هاتفاً يملى عليّ أبيات قصيدة سميتها ’’الغازى البنغازى‘‘ وارسلتها لصحيفة الايام الغراء .. فنشرتها على صفحاتها بصورة مميزة .. واصبحت القصيدة التى يقرأها الناس فى كل محفل ، ومنتدى وطنى .
وقد كنت فى زيارة لدولة الامارات مرة وساقنى احد الاصدقاء ، الى ساحة احتفال بمناسبة وطنية ، لا أذكرها ، وقام احد المشاركين بإلقاء القصيدة بصورة رائعة جداً .. وأسبغ على شاعرها من الاوصاف ، وهو لا يعلم بوجودى ، فهمست الى صديقى بنكتة كاتب العرضحالات .. انا ما كنت قائل نفسى مهم للدرجة دي !!
المهم ظللت منذ ولادة القصيدة فى يوليو 1976م ، وحتى يومنا هذا ، لا أتورع من اسقاط ابيات منها أو تعديلها أو أن أضيف لها ابياتاً أخرى . لتواكب الاحداث الوطنية . قديمها وجديدها ، والتى خص الله بها السودان وأهله دون غيرهـ ولا ارى حرجاً فى ذلك لآن الهدف الاساسى للقصيدة هو الهاب الشعور الوطنى ، وتعميق روح الانتماء للارض ، ثم إن القصيدة قصيدتى ، ومن حقى التصرف فيها ، وقد التقى بي يوماً سعادة الفريق أول ابراهيم احمد عبدالكريم عليه رحمة الله وانا احد تلاميذهـ تعليماً وعملاً ، وأدهشنى برغبته الاكيدة فى تسجيل القصيدة بصوته فى جهازي الاعلام ’’الاذاعة والتلفزيون‘‘ فقلت له هذا شرف عظيم ، ان يقرأ الفريق أول شعر العقيد .. واوضحت ، بأن القصيدة فى الاصل كان اسمها ’’الغازى البنغازى‘‘ ولكثرة ما اضفت اليها من ابيات عملت لها ’’سماية‘‘ جديدة وسميتها عيال مهيرة ، فضحك الرجل ضحكته المجلجلة ، وقال وانا كمان أسقطت منها بيتين احس بأنهما سيغضبان رجلاً يحبك كثيراً ، فوافقت ، والمادة بالتأكيد محفوظة بارشيف الجهتين ان لم يكن قد قرضها الفأر شعراً !!
وعندما كنت اكتب لصحيفة الحرية بدون اجراس .. زرت الاستاذة الصحفية آمال عباس ، وقد كانت رمزاً باهراً من رموز ايام النميرى فأشادت بالقصيدة وعاتبتنى على التعديلات التى ادخلتها عليها ، وفتحت حقيبة يدها ، وأخرجتها لى ، وقالت : انا أحتفظ بها فى حقيبتى حوالى ثلاثين سنة ، ولأن الاستاذة آمال عباس كانت رمزاً سامقاً من رموز مايو وأصبحت الان رمزاً عظيماً للوفاء والاخلاص بالقدر الذى يجعلها تحتفظ بقصيدة ’’مايوية‘‘ لثلاثة عقود ، ورغم تغيير الحال وقد صار أعداء الامس اصدقاء اليوم ، يزورون النميرى ويزورهم ، وياهو دهـ السودان .. فإننى أنشر القصيدة الاصل كاملة كما اعطتنى لها آمال عباس على علاتها أو ’’بضبانتها‘‘ كما يقولون ..



نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 28-12-2020, 09:41 PM   #[36]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 18 ربيع الثانى 1430هـ - 14 ابريل 2009م
كلام ساكت - أيــــام النمــيري«24»

لواء «م» محيى الدين محمد علي
خلصنا في الحلقة الماضية الى أن الغزو المسلح الذي أعد له ونفذته الجبهة الوطنية بقيادة العميد«م» محمد نور سعد .. قد هزم تماماً .. وتفرقت عناصرهـ .. بين هارب أو قتيل .. أو معتقل .. وتعد قادة الجبهة الوطنية جميعهم «وبسلامتهم» بجلودهم ولم يمت او يعتقل منهم احد .. وتلفت القائد العسكري الهمام .. يمينا ويسارا .. ولم يجد حوله الا جنديا واحدا .. وسائق عربته .. فانطلق بهما هاربا .. في اتجاهـ الدويم ولعله .. كان ينوى الانحراف غرباً .. املاً في بلوغ معسكرات الجبهة بليبيا مرة اخرى .. فاخطأ للمرة الثانية .. ولم يتوخَ الحيطة والحذر .. واتصل ببعض المواطنين ربما بحثاً عن مأكل او مشرب او وقود فشكوا في امرهـ .. وابلغوا .. قوة من قوات المطاردة المشتركة .. من الجيش والشرطة والأمن .. فاقتفت اثرهـ .. واعتقلته .. في ضواحي .. الدويم الشمالية ودون مقاومة .. وجئ به يرسف في الاغلال .. واجهزة الاعلام تضج بالتهافات .. احتفالاً بالنصر المبين وتشكلت المحاكم العسكرية في جبل الاولياء وامدرمان .. والخرطوم بحري وغيرها للبت في مصائر قرابة الاربعمائة معتقل .. رماهم الحظ العاثر .. في يد من لا يرحم .. ودفن المئات تحت الثرى .. قتلا واعداما في ساحات المعارك .. وساحات المحاكم ودارت عجلة الزمن .. ونسيهم الناس ونسيهم حتى القادة الذين غرروا بهم وساقوهم دون وعي منهم .. الى الموت الزؤام . ومن ضمن المحاكم العسكرية التي تشكلت كانت المحكمة .. التي نظرت .. قضية العميد .. محمد نور سعد .. وعدد «22» متهماً آخرين .. بالخرطوم بحري .. وباشرت عملها يوم 26 /7 /1976م .. وقد حرصت كل الحرص على حضور جلسات هذهـ المحكمة رغبة مني في معرفة «الحاصل بالضبط» .. والتعلم وقد تجبرني الظروف ان اقف في مثلها مدعياً .. او قاضياً .. او ربما لا قدر الله متهماً .. ولما جئ بالمتهمين وعلى رأسهم العميد «م» .. محمد نور .. بهرني باتزانه ورباطة جأشه .. وقد جلس والاغلال في يديه يحمل قلماً واوراقاً .. يكتب .. ويسجل فيها ما يقال .. ويدون فيها ما يود ان يقول وكان أنيقاً جداً في زيه السوداني .. بالجلباب الابيض والعمامة .. وابتسامته الناصعة البياض .. والتي ظلت مرسومة في فيه .. على امتداد الجلسات .. ومع هذا .. فقد غشيتني حالة من الحزن وخنقتني العبرة من اجل المتهمين الآخرين الذين كانوا حوله وآثار اللكمات .. والكدمات .. بادية على وجوههم .. وعيونهم .. وعناء السهر والتحقيقات .. والاعتقال تنضح به .. اجسادهم المتهالكة .. الخائرة فخروا جلوساً على كنبات المحكمة .. ولما ضربهم هواء المكيفات البارد.. راحوا جميعاً .. في سبات عميق .. وشخروا وفندقوا خشومهم اليابسة في اتجاهات شتى كلوحة سريالية تعبر عن اليأس والشقاء .. ولم يكن يعنيهم .. ما ستفعله المحكمة بهم .. او كأنهم اكتفوا من الدنيا بهذهـ «الصقطة الواقفة» حولهم بفضل المراوح والمكيفات .. والماء البارد .. لمن أراد .. ولم اتصور مطلقاً .. بانهم لم يكونوا على علم بجسامة .. الجريمة .. التي يحاكمون بموجبها والتي غالباً ما تقود للمشنقة .. او الدروة .. ظللت اتابع جلسات المحكمة .. ويزداد اعجابي .. بثبات .. محمد نور .. وحرصه على الاستماع .. والتهيؤ للدفاع عن نفسه ويزداد حزني .. على اليائسين من حوله الذين «قنعوا من خير فيها» .. وفضلوا قضاء ما تبقى من اعمارهم .. نوماً .
وخلال احدى الجلسات .. ادخلت ورقة لرئيس المحكمة فاطلع عليها .. وقال ترفع الجلسة .. ويسمح للمتهم .. العميد «م» محمد نور سعد .. بالخروج لمقابلة والدته .. وأخيه اللذين ينتظرانه خارج المحكمة .. وخرج محمد نور مصحوباً بحراسته .. والاغلال في يديه وخرج كل جمهور المحكمة ليشهد اللحظات الانسانية المفعمة بشتى المعاني بين الام والابن في مثل هذهـ الظروف الاستثنائية .. وجاءت الام تمشي نحو ابنها .. نحيلة ... هزيلة . آثار المعاناة والشقاء .. ومكابدة شظف العيش بادية عليها .. وظاهرة ظهوراً غير مختلق او مفتعل .. وكانت ترتدي ثوب زراق «من الطِرقة» مهترئ .. وتنتعل سفنجة .. مقطوعة .. وموصولة بسير بلاسيتك .. تظهر فيها قدمان .. جافتان مشققتان جراء السعي والعمل .. وكان الاخ .. يرتدي قميصاً .. ومنطلوناً .. عليها آثار اتربة .. وجير وبوهيات .. اقتربا . من المتهم .. ومدا يديهما إليه بالسلام والتحية .. دون حرارة ودون انفعال .. لم يحتضنه احد ولم تصرخ والدته او تبكِ .. بل ولم تدمع .. ووقف الشقيق جامداً يرنو إليه .. ولم يتدخل احد من المحكمة لإنهاء هذا اللقاء ولكنها الوالدة هي التي فعلت .. فأمسكت بيدهـ .. واعتصرتها وهي تقول أها .. ودعتك الله ياوليدي . شد حيلك .. واخذت بيد اخيه او شقيقه .. لست ادري .. وقفلا عائدين وعاد محمد نور .. الى قاعة المحكمة .. وتواصل الاستماع .. الى شهود الاتهام ، ظللت واقفاً خارج المحكمة .. وقد غامت الدنيا في وجهي .. واهتزت الصورة التي رسمتها للمتهم في خيالي .. وسمعت صوتا في داخلي يقول .. لقد تمت المحاكمة الفعلية .. خارج المحكمة .. وقررت الذهاب وعدم متابعة اجراءات المحكمة ... او حتى الاهتمام بالعقوبات الباطشة التي وقعتها عليهم جميعاً وآثرت البقاء في قسم مرور الخرطوم بحري الذي اديرهـ .. واشرف على قوة الشرطة الموجودة في حالة استعداد استمر .. لقرابة الشهرين .. وعبر رجال من اهالي شرق النيل .. عن فرحتهم بانتصار الرئيس «ابو عاج» على اعدائه .. فتبرعوا لقوة الاستعداد .. بقطيع من الخراف .. وظل رجالنا .. ينحرون بعضها كل صباح .. ويطبخونها .. في «قيزانات» اي حلل كبيرة «اكس لارج».. وكان الرقيب اول حسن سعد عليه رحمة الله .. يشرف على هذا العمل .. ويضبط توزيعها على العاملين بعدالة .. وحتى لا ينفرد البعض .. بالدوش والمطايب ويترك للآخرين .. الكوارع والعكو ورأس النيفة .. وصادف ذلك .. ان جاءت مجموعة من الجعليين الى القسم اثر حادث حركة .. فنظر شيخهم الى المرحوم حسن سعد ... وقاله له .. الجنا جعلي ؟! فرد عليه .. احمد الله !!.. فقال الشيخ .. علي بالطلاق . جدك عبدالله ود سعد لو حضرك .. وانت مباري القيزانات والحلل كان .. ضبحك .. قبال الخرفان !! فضحك المرحوم حسن سعد .. وقال ياشيخنا علي الحرام .. جدنا عبدالله ود سعد.. لو حضر الزمن دهـ .. كان حش البصل .. ودقّ التوم !!
المهم .. وبعد ان «خلّص» النميري على كل المتهمين .. الذين تم اعتقالهم من عناصر الجبهة الوطنية .. لم «تبرد بطنه» والاحكام على قسوتها .. لم تشفِ غليله .. وقد أفلت جميع قادة الجبهة من القبض والموت .. فأمر بمحكمة سياسية لمحاكمتهم غيابياً .. ترأسها .. عبدالله الحسن الخضر.. وكان ادارياً ودبلوماسياً .. وكلف بحقيبة الداخلية من بعد ذلك .. ومثل القوات النظامية الراحل الفريق اسماعيل عطية .. وعن المزارعين حسن مصطفى .. وعن العمال جماع شاور .. كما مثل الرأسمالية الوطنية فؤاد مكي عبدهـ .. اي ان المحكمة كانت تمثل تحالف قوى الشعب العامل .. في منظومة الاتحاد الاشتراكي السوداني .. ومثل امام هذهـ المحكمة الغيابية على «الهواء مباشرة» الصادق المهدي .. والشريف حسين الهندي .. وإبراهيم السنوسي .. والفاضل ومبارك عبدالله الفاضل .. الصادق يعقوب .. ميرغني ضيف الله .. احمد سعد عمر .. والدكتور زكريا بشير امام .. قريب الله خليل .. حسن دندش .. عبدالدائم ابوبكر .. نصر الدين الهادي .. محمد عبدالجواد .. عبدالحميد صالح .. محمد صالح عثمان صالح .. عثمان خالد مضوي .. بابكر كرار .. عمر نورالدايم .. توفيق عثمان صالح .. الصادق بله .. ناصر الدين السيد .. وقد اصدرت حكماً بالإعدام والتجريد من الممتلكات على المتهمين الثمانية الاوائل .. واحكاماً اخرى بالسجن على باقي المتهمين ..!
وكما يقول المصريون .. ظل النميري خلال النصف الأول .. من حكمه المديد « يطلع من حفرة ليقع في ضحديرهـ» .. او بالسوداني .. يقوم ويقع .. فقبل بعد كل العناد .. ان يستمع للناصحين من العقلاء حوله .. وفهم بان «الاحزاب البائدة» لن تتركه يهنأ بالسلطة .. وقد خبرتها وذاقت حلاوتها من قبله .. والحل الوحيد هو اشراكها في السلطة لتستمتع بنصيبها من «ويكة» وليس «كيكة» السلطة .. فاستجاب واعطى .. الضوء الاخضر .. بذلك .. فتحركت سيارات المصالحة ..!!
وقبل ان يكتمل الحول .. على الجبهة الوطنية .. بعد هزيمتها في يوليو 1976م .. تحرك عراب المصالحة الوطنية الاداري المشهود له بالكفاءة .. ورجل الاعمال الناجح الراحل فتح الرحمن البشير .. واستطاع ان يفاتح الصادق المهدي خارج الحدود في فبراير 1977م ... ثم كان لقاء الصادق .. مع النميري في يوليو 1977م بمدينة بورتسودان والاتفاق فيه على اصدار عفو عام .. وإلغاء المصادرات واطلاق سراح المعتقلين .. ومن ثم تنفيذ برنامج اصلاحي وطني .. عبر فترة انتقالية .. غير ان الشريف حسين .. والاخوان المسلمين لم يرفضوا الفكرة .. ولكنهم رفضوا اسلوب الصادق المهدي .. وعلى نظرية وجوب طرق الحديد ساخناً .. سافر عمر محمد الطيب .. وابو القاسم .. الى لندن .. حيث التقيا بالشريف حسين .. وجاءا منه بخطاب شهير للنميري وعد فيه بالعودة الى السودان .. ودخلت المصالحة الوطنية .. طور التنفيذ .. وعين الصادق المهدي .. والسيد احمد الميرغني .. احمد عبدالرحمن المهدي .. عبدالحميد صالح .. حسن الترابي .. احمد السيد حمد .. جميعاً اعضاء في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي .. الحزب الحاكم .. كما عين بكري عديل محافظاً .. ويسن عمر الامام عضواً في مجلس الشعب وآخرون في مواقع تنفيذية ... وبقي الشريف حسين كالسيف وحدهـ ولم يصالح ولم يعد للبلاد الا جثمانه الطاهر.. وتعثرت خطوات المصالحة الوطنية .. وقد تنبه الحزبان .. الاتحادي .. والامة بأنهما قد خسرا كل شئ .. وان النظام المايوي قد ازداد منعة وراحة بال بهما . فانسلخا وجمدا نشاطهما .. وبقي الترابي وجماعته يجوسون بين المايويين .. ليس اقتناعاً بفكرهم .. ولكنهم ..«كانوا راقدين فوق راي» .. وقد ظفروا بالفعل . بمايو كلها .. وتسربوا في مفاصلها. . وعلى رأي المثل السوداني.. «جداد برهـ .. طرد جداد جوهـ».. فإن عناصر الجبهة الاسلامية قد زاحمت الحرس المايوي القديم وحجمته .. وعلا صوتها .. بالحديث عن الشريعة الاسلامية السمحاء ..وعن أشواق اهل السودان لها.. واستطاعوا في نهاية المطاف .. ان يحولوا .. النميري .. الى صفهم .. فطبق قوانين سبتمبر 1983م المستمدة من الشريعة تطبيقاً .. ما حصلش قبل كدهـ ..!


نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-01-2021, 06:55 PM   #[37]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 25 ربيع الثانى 1430هـ - 21 ابريل 2009م

كلام ساكت - أيــــــــام النمــيري (25)

لواء «م» محيى الدين محمد علي
بعد انتقالي من عطبرة .. إلى إدارة المرور بمديرية الخرطوم .. ظللت رئيساً لقسم مرور الخرطوم بحري .. من بدايات العام 1974م وحتى نهايات العام 1976م .. وعاصرت كثيراً من الأحداث في العهد المايوي .. وقد استعرضت معظمها في الحلقات الماضية .. وتبقت في الذاكرة بعض الأحداث أو المواقف الطريفة .. والتي لا يربط بينها رابط .. إلا حدوثها .. أثناء قيامي بواجباتي .. كضابط مرور .. ومنها بالتحديد حادثة تلقي ظلالاً من الضوء على شخصية الرئيس الأسبق النميري .. وحرمه السيدة الفضلى بثينة خليل .. لقد كان هناك مؤتمراً .. أو مهرجاناً ضخماً يقيمه .. اتحاد نساء السودان وقد حشدت له جموعهن حشداً .. وشد الشريط التقليدي ووقفت الصبيات الجميلات يحملن الورود .. والمقص .. في انتظار وصول الرئيس .. لقص الشريط .. ايذاناً بافتتاح المهرجان .. والدخول في فقرات البرنامج .. وكنت الضابط المسؤول عن ضبط حركة المرور في النقطة الأخيرة المؤدية إلى سرادق المهرجان .. وكانت التعليمات المستدامة في مثل هذهـ التغطيات .. أن تجئ إحدى دراجات المرور البخارية .. وهي «تولول» لتعلن لرجال المرور وغيرهم بأن موكب الرئيس سيتحرك فوراً .. وعلينا نحن رجال المرور .. أن نغلق كل التقاطعات ونخلي الشارع .. وأن لا نسمح بدخول أي شخص .. راجلاً كان أم راكباً .. مهما كانت مكانته السياسية أو الاجتماعية ولا يستثنى من ذلك .. إلا قادة معروفين من الأمن والشرطة .. محددة أدوارهم في برنامج المناسبة الصادر .. ونفذت الأمر بحذافيرهـ بعد مرور الموتر الأول وتوقفت الحركة تماماً في انتظار الموكب .. ولكني رأيت عربة السيدة بثينة حرم الرئيس .. وقد أوقفها رجال المرور ومنعوها من بلوغ سرادق المهرجان فلم أتدخل .. باعتبار .. أن الأوامر يجب أن تنفذ وأن على السيدة الفضلى أن تتحمل مسؤولية تأخرها عن الحضور في الموعد المحدد .. ولكن السيدة تصرفت بذكاء .. فتركت عربتها وجاءتني «راجلة» وصافحتني وقالت : يا ولدي .. أنا اتأخرت فعلاً .. وهذا المهرجان للمرأة .. يخصني جداً .. فإن سمحت لي بالدخول .. فلك الشكر .. وإن لم تسمح فهذا من حقك .. ولكن ثق تماماً بأنك ستخلق مشكلة بيني وبين الرئيس .. وإنت عارفه كويس !!
تأثرت جداً لحديث السيدة الفضلى المهذب وسمحت لها بالدخول .. وما أن فعلت .. حتى وصل موكب الرئيس فحمدت الله على ذلك كثيراً .. وقصصت ما حدث لمدير المرور وقتها .. فابتسم وقال : جات سليمة .. ولم أفهم شيئاً .. هل كان راضياً عن تصرفي أم غاضباً على .. عدم تمسكي بالأوامر .!!
لقد كان اللواء الطيب محمود بخاري .. عليه رحمة الله .. طيباً .. اسماً على مسمى .. وقد قضيت تحت إدارته سنوات ذاخرة بالعمل والبذل والعطاء .. وهو يقود دفة العمل بإدارة المرور على مستوى ولاية الخرطوم .. وكان بيننا ود واحترام متبادل .. يحتد معنا .. أحياناً حتى يخرجنا عن طور الانضباط .. ولكنه لا يخلط بين العمل والعلاقات الشخصية .. فما أن تنتهي جولة العمل .. حتى يهدأ .. ويروق .. ويبتسم في وجه الجميع .. وكأن شيئاً لم يكن .. ولما كانت المناسبات في القصر الجمهوري إبان العهد المايوي لا تتوقف درجت إدارة المرور على اصدار كشف أسبوعي .. يحدد المناسبة والضابط المسؤول .. عن تنظيم حركة المرور بشارع النيل .. أمام القصر .. مهمته الأساسية .. هي استقبال عربات الضيوف وتنظيم وقوفها .. حتى وصول موكب الرئيس ومن بعد ذلك لا يسمح لأحد بالوقوف أو حتى المرور .. أمام القصر وبعد انتهاء المناسبة .. أو العشاء غالباً .. يعزف السلام الجمهوري .. وينصرف الجميع .. وهنا تتجلى كفاءة الضابط ورجاله .. في تصريف جميع السيارات بأسرع ما يمكن حتى لا يتصل .. أي من المسؤولين .. بالمدير العام .. أو مدير المرور .. ويقول : الضابط دهـ جبتوهـ من وين .. دهـ عرقل الحركة ولخبطها .. وأنا قعدت ملطوع في عربيتي .. نص ساعة .. حتى قدرت أطلع .. غيروهـ طوالي !!
مثل هذهـ الشكاوى من بعض السادة الذين «يدعون الأهمية» ويحسبون .. أنهم مميزون أكثر من النميري ذات نفسه .. كانت تزعجنا كضباط صغار .. وتجعلنا لا نرغب في العمل في هذهـ المنطقة الحساسة والبتجيب الهوا .. كما يقولون .. وذات يوم كنت قد برمجت فيه برنامجاً للأسرة فوق العادة .. أخطرت بأن السيد المدير .. قد منح الضابط المكلف إذناً .. وأمر بأن أحل محله في تنظيم المرور .. حول القصر حتى ينتهي الاحتفال منتصف الليل .. فأخذت أرنيكاً مرضياً .. فكظم اللواء الطيب غضبه وعالج الأمر بنفسه وتحت إشرافه .. وعندما عاودت عملي بعد الراحه من المرض المفتعل .. شعرت بالخجل من نفسي .. وحزنت لأن مدير الإدارة الطيب .. لم يعاتبني أو يسألني .. وساورني شك .. بأن الرجل .. «سيكشني» بتقرير« يكسرني دنيا وأخرى» كما كان يقول أحد الزملاء الظرفاء .. وفي نهاية الأسبوع جاءني الساعي يحمل مظروفاً سرياً .. ومعنوناً لشخصي وباسمي .. فتوجست خيفة .. وحسبته .. استيضاحاً .. أو مجلس تحقيق .. فما بدر مني يبدو .. تافهاً ولكنه .. في حقيقته أمر خطير .. يهدم كل قواعد الانضباط .. ويهزم الأوامر والتعليمات التي هي عصب العمل الشرطي وفتحت الخطاب .. وفوجئت بمضمونه .. وكما يقول النحويون .. المدح في صيغة الذم .. فقد كان الخطاب عقاباً .. في صيغة الاشادة .. إذ جاء فيه : نسبة للأداء المتميز الذي ظل يقوم به النقيب ـ اللي هو أنا ـ في تنظيم وتصريف حركة المرور في مناسبات القصر الجمهوري جمعيها .. فقد تقرر الآتي :-
- على النقيب محي الدين محمد علي .. أن يكون مسؤولاً عن تنظيم وتصريف المرور .. في كل مناسبات رئاسة الجمهورية .. بالقصر .. بصفة مستديمة
- لا يجوز .. أن يحل محله ضابط آخر إلا بموافقتي .
- يستمر العمل بهذا الأمر .. إلا إذا تم الغاؤهـ ..
واستمر العمل بهذا الأمر وباءت كل محاولات إلغائه بالفشل .. مع اصرار اللواء الطيب بخاري عليه .. وأحسب أن الرجل قد لقنني درساً بليغاً .. علمني تقدير المسؤولية .. ودفعني لتطبيق دروس من هذا القبيل على العديد من الضباط .. وصف الضباط الذين عملوا معي .. وكانت النتائج باهرة .. وطيبة جداً ..
وقد قيض لي هذا الوضع «الاستثنائي» .. بالوجود قريباً .. من القصر الجمهوري .. في كل المناسبات .. أن أسمع .. وأرى .. ما لم يرهـ أو يسمعه أحد .. فقد كنت وبعد أن يكتمل حضور المدعوين في كل مناسبة وتنظيم سياراتهم .. أجلس في عربة المرور .. المزودة بالاجهزة .. لاكون على الاتصال بالرئاسة وغيرها والترفيه بالاستماع لبعض شرائط الكاسيت .. وبينما كنت يوماً على هذا الحال .. رأيت رتبة عسكرية رفيعة جداً .. أوقف عربته بعيداً وجاء راجلاً .. وهو يرتدي ما يعرف بزي السهرة .. بدلة عسكرية كاملة بكرافتة .. وعلى رأسه .. غطاء .. يشبه ما يرتديه الضباط العراقيون .. ولما كان لي شرف العمل مع هذا الرجل .. في منطقة ما .. كان هو قائدها .. وكنت ضابط الشرطة فيها .. اسرعت بالنزول ولحقت به للتحية .. فحياني .. وسأل عن أحوالي .. ثم نظر إلى بعيد وصاح .. صيحة العسكر .. أمشي تمشي بطنك .. ونظرت فاذا هي حرمه المصون وهي تمشي بصعوبة «كالمخرطة» وقد دخلها الما بداوي .. ولما علم ما يدور في رأسي قال : يا ولدي .. دهـ حكم ابتكرو جعفر النميري .. قال نلبس كدهـ .. وكل واحد يجيب مراته معاهـ .. لأن السادهـ الضيوف جايبين «مرتاتهم» معاهم .!!
وكان أخطر ما رأيت .. وأنا كالكاميرا الخفية داخل سيارة المرور .. والقصر يحتفل برئيس جمهورية الهند فخر الدين والوفد المرافق له .. وهو رجل مسلم .. وبدأت مراسم الاحتفال والعشاء .. ولم يمض وقت طويل حتى جاء النميري مسرعاً وحدهـ ووقف في الشارع أمام مدخل القصر .. فوضع شيئاً في فمه ثم نفض يديه بعصبية .. ولحق به رجل جاء يجري .. ووقف أمامه كمن يقول أي خدمة يا ريس .. فقال له : امشي نادي فلان .. الحيوان دهـ ... فذهب الرجل وجاء «فلان» فثار النميري في وجهه .. وقال له : أنا مليون مرة قلت ليكم .. في حالة الضيوف المسلمين .. ما تقدموا خمرة .. ما تقدموا خمرة .. قدمتها ليه .. أنا بهظر معاكم .. أمشي بيتكم طوالي .. وافتح الراديو .. وعاد النميري إلى داخل القصر .. وظل الرجل .. يجري يسرة ويمنة بحثاً عن سيارته .. حتى وجدها وتحرك بها .. بجنون وقمنا في عربة المرور .. بفتح إذاعة هنا أمدرمان التي لم تلبث وقطعت إرسالها لتقول : جاءنا الآن ما يلي .. أصدر السيد رئيس الجمهورية قرار باعفاء «فلان الفلاني» من جميع مناصبه .. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .. والحوقلة دي .. مني أنا .



نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 14-02-2021, 06:14 PM   #[38]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 2 جمادى الاول 1430هـ - 28 ابريل 2009م
كلام ساكت - أيـــام النمـــيري«26»

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
في 25 مايو 1969م ... قلب النميري الطاولة على الأحزاب التقليدية .. التي كانت .. ولا زالت هي محور الحركة السياسية في السودان .. وتربع على كرسي الرئاسة والقيادة وبدا يدخل في قلوب الناس .. من اتجاهات عديدة .. كان أولها .. الضيق والتبرم من الأحزاب السياسية .. وانشغالها عن قضايا الشعب وانصرافها .. للمكايدات السياسية .. وكثرة الحديث .. والخطب الجوفاء .. كما دخل إلى قلوب الناس بشخصيته العسكرية القوية وشجاعته التي رويت عبر ماضيه العسكري .. والتي عكستها مواقفه .. وهو يدير شؤون البلاد .. ودخلها أيضاً .. بوطنيته الصادقة الخالصة التي أجمع الناس عليها .. ولم يختلفوا حولها .. وأكدتها مواقفه المختلفة .. ولكن النميري .. في تصوري .. قد دخل قلوب الناس .. وتربع فيها .. بشخصيته السودانية الأصيلة .. وبساطته .. وشعبيته .. التي لم يكن يفتعلها .. وقد بلغ الناس .. أن النميري لما دخل القصر الجمهوري لأول مرة .. رئيساً .. ورأى الأطباق الفاخرة تنوء بما تحمل من اللوز والبندق والفستق وعين الجمل .. وغيرها من الحلويات والفواكه القادمة للبلاد عبر المحيطات من شتى أنحاء الدنيا .. لم يتمالك نفسه فأطاح بها وقلبها رأساً على عقب وأمر باستبدالها الفوري بالمنتجات السودانية من القنقليز والتمور.. وفول الحاجات .. وأن تستبدل عصائر التفاح والكمثري .. بأخرى من العرديب والكركدي .. والقريب .. وغيرها من فاكهة الوطن .. ومن اللطائف .. أن لقاء جماهيرياً ضخماً عقد .. بالخرطوم .. في ساحة عامة .. وكانت المنصة دائرة في قلب الجماهير يجلس عليها .. النميري وسط .. أعضاء مجلس قيادة الثورة .. بتشكيلته الأولى .. ومن على البعد .. لمح النميري .. عمنا الرقيب شرطة ... أبو خضرة يضع سفة السعوط في فمه ثم يقفل الحقة .. ويضربها كما يفعل الكييفون .. عادة .. ثم يدخلها جيبه فوقف النميري .. وأشار إليه وطلب منه الحضور إلى المنصة .. فتخلص أبو خضرة من السفة بحرفنة واخترق الجماهير حتى وقف أمام النميري فقال له : ساعوطك البتشكر فيهو دهـ وين؟! فاضطرب أبو خضرة .. وقال : والله العظيم ما شكرته !! فقال النميري: طيب جيب الحقة .. فأخذها .. ودردم منها سفة قوية .. وضعها في فمه وأعاد الحقة إلى صاحبها في لقطة نادرة بين رئيس .. ورقيب تعبر بقوة عن تواضع النميري .. وبساطته وانتمائه القوي .. لعامة الناس .. وتمردهـ على البرتكولات .. والاتيكيتات التي لا تتواءم في كثير من الحالات .. مع سلوك المواطن السوداني بصفة عامة ..
لقد كان النميري مزيجاً .. سودانياً خالصاً يمكن أن ينسب لأي جهة من السودان شكلاً ومسلكاً .. ورغم سنوات الحكم والسلطة والأضواء والهتافات والأناشيد .. فقد ظل النميري على حاله .. يصل أرحامه ويزور أصدقاءهـ .. ويرتاد بيوت الأفراح مهنئاً ومباركاً ومشاركاً .. ولا يتخلف عن المآتم .. مواسياً ومعزياً ومجاملاً .. وقد رأهـ الناس يبكي ويدمع ويجأر بالبكاء عند رحيل الزعيم جمال عبد الناصر .. ورأيته كما رويت في مقال سابق وهو يرتمي على جذع نخلة في ود نميري .. ويجعر بالبكاء من فرط تأثرهـ بمشاعر الحب التي أحاطه بها أهله .. وكثيراً ما رأيناهـ .. يضحك من أعماقه .. ويحزن ويغضب ويطرب .. ويرقص وقد شهدته عن قرب في مدينة جوبا .. وهو يشارك الجميع في حفلات «الترم ترم» والرقص على ايقاعات .. «كيري كيري أفريكا» وأغاني شرق إفريقيا .. بالسواحلي .. وسعدت برؤيته أثناء حفل أقامته فرقة الفنون الشعبية بالمسرح القومي عندما قدمت إحدى قبائل الجنوب المغمورة رقصة نادرة على ايقاع نادر هز مشاعر ... الجميع ولكن النميري لم يتمالك نفسه فقفز بقوة وصعد المسرح وشاركهم .. الرقص بصورة أدهشت الجميع .. وأذهلت ناس القبيلة ذاتهم .. لأن الرئيس كان يرقص ببراعة وكأنه نشأ وترعرع وسط هذهـ القبيلة !!
وللنميري مواقف كثيرة .. تكشف عن معدنه .. السوداني الأصيل .. وتواضعه الذي ظل يلازمه .. على امتداد سنوات حكمه .. وبعدها .. وقد رأيته مرة يشارك في .. مناسبة دينية بدار الأدارسة في أم درمان .. ولما خرج الناس من داخل الصالون .. إلى خارجه كما اقتضت ظروف الاحتفال .. خرج النميري .. يحمل كرسيه بنفسه .. ولم ينتظر أن يقوم أحد بذلك نيابة عنه .. باعتبارهـ رئيساً سابقاً للبلاد .. مع رغبة الكثيرين في حمل الكرسي عنه .. وقد شهدته إبان حكمه .. وفي معيته .. «مظاريف» كثيرة بها .. عطايا من المال .. كان يوزعها بنفسه .. على رجال ونساء عرفهم وعاشرهم إبان عمله بدارفور .. في بدايات عمله بالقوات المسلحة .. وقد حدث أن جاءت امراة عجوز من دارفور إلى الخرطوم بغرض .. اكمال اجراءات سفرها للمملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج .. ولما كانت التصديقات بالخروج والسفر بالنسبة للنساء معقدة .. لمسائل عديدة تتصل بالعمر .. والمرافق .. والفحص فإن هذهـ العجوز قد رفض طلبها ولما كانت تعرف النميري قبل عقود من الزمان عمل فيها .. بدارفور .. سعت لمقابلته .. ولكنها لم توفق .. فاختارت بذكاء .. أن تقف بشارع النيل .. قريباً من القصر .. عسى أن يبصرها .. النميري فتفاجأت .. عندما أوقف النميري موكبه .. وترجل عن سيارته وجاء إلى السيدة العجوز وحياها بالأحضان ثم أخذ بيدها .. ومشى معها راجلاً حتى أدخلها القصر .. وأكرمها واستمع إليها .. ثم اتصل بالجهات المسؤولة .. وكلفها باكمال اجراءاتها وحتى ركوبها الطائرة إلى الأراضي المقدسة .. ومما يروى في هذا الجانب الشخصي من النميري .. أنه ذهب لزيارة مصلحة ما .. بعربة خاصة .. في زيه القومي .. فاعترضه خفير المصلحة .. فقال له النميري : إنت عرفتني .. فقال الخفير وهو «من عندنا» : طبعاً عرفتك .. إنت النميري .. رئيس السودان .. بس الأوامر من المدير العام ما حدش يخش !! وحسم رجال الأمن المرافقون الأمر .. ودخل الرئيس المصلحة .. وأدخل «الخفير» حراسة الأمن .. وبعد يوم أو يومين .. سأل عنه الرئيس .. وأمر باحضارهـ أمامه .. وطيب خاطرهـ .. ووضع في يدهـ مظروفاً مريحاً .. فقبضه الخفير اللي من عندنا .. ووضعه في جيبه .. ولم يسكت بل زود الرئيس بنصيحة غالية : شوف يا ريس إنت ما تشوف الفيل .. وتطعن في ضله ..!
وعلى امتداد الزيارات المتبادلة بين مصر والسودان .. فقد كان الكتاب .. والصحفيون المصريون .. لا يصدقون ما يرونه ماثلاً أمام أعينهم .. والرئيس يجوب القصر .. يداعب العمال والجناينية .. ويتطلف مع المراسلات والسعاة .. وكانوا يعكسون ذلك على صفحات الجرائد والمجلات المصرية .. بدهشة بالغة .. وقد حكى لي أحد موترجية تشريفة موكب النميري بأن الرجل .. إذا ما أحس بأن العمل كان مرهقاً .. جاءهم بنفسه يحمل إليهم بعض المأكولات والحلوى والكيك .. ويوزعها عليهم .. ولا نكاد نذكر .. أن النميري على امتداد سنوات عمله . كان يهرب من جحيم العمل المتواصل إلى منتجعات العالم السياحية ليتزود بقسط من الراحة والاستجمام .. وعمل chek كما يفعل رؤساء الدول عادة .. بما فيهم الدول النائمة التي لا تملك قوت يومها .. ولكن النميري كان يقتل العمل بمزيد من العمل .. ويجد متعته وراحته النفسية في زيارة مناحي السودان المختلفة والاختلاط بأهلها .. يأكل من أكلها .. ويشرب على القذى من مائها .. وقد شكا له .. أحد المواطنين في منطقة ما جاء يحمل قرعة ملأى بالماء الأخضر .. وقال دي مويتنا يا ريس .. فامسك بها «وقرطعها» .. ولم يبق منها سوى القليل .. أعطاهـ لزوجته فشربته .. حال خادم الفكي !! ولعل المنتجع السوداني الذي كان يركن إليه .. هو قصر متواضع شيدهـ في أرض أجدادهـ .. بود نميري .. وكان يأتيه في كل عام مرة في شكل رحلة ترفيهية .. يرافقه فيها من يختارهم من الأصدقاء والأقرباء .. وبعض الظرفاء والشعراء .. ومداح الرسول صلى الله عليه وسلم .. كما كان يحرص على برنامج .. صباحي للرياضة .. وضرب النار .. وكان ينصب أمام قصرهـ المتواضع .. خيمة ضخمة مهيأة بالمفاريش والكراسي .. مفتوحة للجميع يدخلونها بدون فرز يجلسون حيث شاءوا .. يأكلون من أطباق البلح .. ويشربون الماء المثلج .. والشاي الذي يطوف على الناس بلا توقف .. مثنى وثلاث ورباع .. وأكثر لمن يرغب .. وكان الرئيس يجلس بين الناس يستمع إلى تعليقاتهم وأحاديثهم وقفشاتهم .. ويتحدث كثيراً .. في مواضيع شتى .. بعضها سياسي .. وبعضها أي كلام .. وقد استرسل مرة في الحديث عن أمريكا .. وقال .. إنها قادرة على تغيير أنظمة الحكم في العالم الثالث بالتلفون .. بواسطة عملائها في الداخل .. وهسع أنا .. قاعد معاكم هنا .. جايز واحد ينط فوقها .. فهاج الحضور وقالوا : والله أبو أمريكا .. ما يقدر يشيلك .. واللي ينط فوقها .. والله نقطعوا .. حتت حتت .. ضحك النميري .. وارتاح لحديث ضيوفه .. وقال : على كل حال .. البجي بعدي ودي سنة الحياة .. أنا عملت ليهو خوازيق .. لا بقدر يتحملها .. ولا بقدر يغيرها .. أولها الحكم الذاتي لجنوب السودان .. تاني زول بهبشوا ما في .. والحكم الاقليمي في الولايات الشمالية .. أداهم سلطات .. ومن يحاول انتزاعها منهم .. حيتمردوا عليه .. وتطبيق الشريعة ما يقدر راجل تاني يلغيها .. والبحكم بعدنا حيمشي في نفس سكتنا .. ودهـ المطلوب .. فهل صدق النميري ؟!
يبدو أن النميري .. قد فكر في «خازوق» جديد .. لمن يحكم بعدهـ .. فأراد أن يستن سنة .. تلزم كل رئيس بالصلاة .. ولو جمعة واحدة في العمر .. في الجامع الأثري .. الذي شيدهـ المسلمون .. على عهد القائد عبدالله بن أبي السرح في منطقة دنقلا العجوز .. وهو أقدم مسجد في السودان بلا منازع .. وكعادته قرر أن يصلي الجمعة .. مع المواطنين الذين هرعوا إلى هناك في انتظارهـ .. فنحروا الذبائح .. وهيأوا المسجد .. النائئ .. عن مناطق العمران والسكن .. وصلى النميري الفجر في ود نميري وتحرك ومن معه .. علي ظهر«اللنش عروس» وكان يقودهـ بنفسه .. وكانت الرحلة عكس التيار .. الذي قوياً وعاتياً .. بفعل «الدميرة» .. وظل «اللنش» يمشي خطوة اتنين مستحيل .. أو صار كالطائر الطنان .. الذي يظل يرفرف ثابتاً ليتمص رحيق الزهور .. «فاللنش» كان ثابتاً .. وكذلك الشطئان .. والنيل يجري وحدهـ في اتجاهـ الشمال .. وعندما وصل النميري .. إلى جامع دنقلا العجوز .. كانت الشمس .. تختفي خلف ذؤابات النخيل ولم يبق .. إلا بضعة رجال .. ظلوا في الانتظار فصلى .. معهم صلاة المغرب .. وعاد .. من طيبة أول جمعة .. للدار .. منكسف ..!!

نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-03-2021, 06:34 AM   #[39]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 9 جمادى الاول 1430هـ - 5 مايو 2009م

كلام ساكت أيـــام النمـــيري «27»

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
بناءً على طلبي .. نقلني اللواء حسين عثمان أبوعفان .. مدير الجوازات وقتها إلى دارفور .. ونفذت أمر النقل بالفعل وعدت للخرطوم .. لمعالجة مشاكل قسم الجوازات والجنسية مع الرئاسة .. فصدر أمر آخر بإلحاقي وتكليفي بفتح مكتب للجنسية بالخرطوم بحري ففعلت .. وبدأت العمل في كشك من أكشاك توتو كورة .. بشارع الزعيم الأزهري .. ثم انتقل العمل إلى مكاتب بالإيجار .. جوار مستشفى الخرطوم بحري .. وظللت ملحقاً هكذا لأكثر من عام .. حتى صدر كشف أخير عام 1978م .. تم فيه نقلي مرة أخرى إلى جنوب دارفور .. ولكن في وظيفة الرجل الثاني .. لمدير شرطة محافظة جنوب دارفور .. ولحرصي الأكيد على الخروج من الخرطوم .. كنت أول من نفذ أمر النقل .. مصحوباً بأسرتي وطفلين صغيرين .. وآخر هو الملازم الربيع الآن .. وكان عمرهـ وقتها ثمانية وعشرين يوماً .. فقط لا غير ..؟!
وكانت رحلة المعاناة .. مع قطار نيالا الذي .. يتلوي ويتوقف ويحبو حبواً ليقطع الرحلة .. في ثمانية ايام .. ليلها كنهارها .. ونفد الماء والزاد .. من الركاب .. وكان القطار يدخل المحطات .. حسب التساهيل وبلا مواعيد .. فلا نجد فيها من يبيع طعاماً او شراباً .. فصبرنا وتحملنا وسررنا لما علمنا .. باننا على مشارف الضعين .. حاضرة الرزيقات ولكن أصواتاً غريبة .. صكت مسامعنا .. وقبل أن نتيقن منها .. تهاوت على رؤوسنا الحقائب والكراتين .. وسقطت عربتنا على الأرض .. والقطار «يكرها كراً ..» ونحن في هذهـ المحنة .. كان أطفالي ينططون ويصفقون .. ظناً منهم بان الحكاية لعبة مسلية ويا لبراءة الاطفال .. ولما توقف القطار «الحمار» باصرنا النزول الأكروباتي .. وذهلنا لما رأينا عربات أخرى كانت قد خرجت عن القضيب .. ومن حولها موتى ومرضرضين ومجرحين ونجونا نحن بفضل الله .. ربما إكراماً لشفعي الصغار .. ولبسالة أمهم .. التي حمتهم بنفسها .. دخل القطار عصر اليوم الثامن مدينة نيالا الجميلة .. وكنا جميعاً في غاية الرهق والعطش والجوع .. والقرف والندم .. على طلب النقل من الخرطوم .. في عربة نوم .. أحسب انه النوم الملاقي النوم ..!!.
ودخل علينا «القمرة» رجل أسمر طويل مشلخ مية وحداشر .. يرتدي جلابية وطاقية وعلى كتفه عمامة .. وصافحنا جميعاً بنبرات تفيض مودة .. وطيبة .. وطفق يحمل أمتعتنا ويخرجها من القطار .. ثم يعتلها إلى عربة حمراء .. فورد بوكس ثم يعود ثانية ليأخذ قطعة أخرى .. حتى نقل كل أمتعتنا وحمل الصغيرين عبير .. وزهير .. معاً وخرجنا جميعاً وركبنا الفورد .. وتحركت بنا يقودها .. بنفسه إلى داخل المدينة وعند بيت جميل .. يقف كالقصر مطلا على وادي نيالا .. نزلنا ودخلنا الصالون .. وقلبي يلهج بالود .. لهذا الرجل الذي حسبته «سواق» القومندان ... ولكني لما حدقت في الصورة التي كانت تزين الجدار .. برسم ضابط عظيم في زيه الرسمي .. علمت أن الرجل «زولي زاتو» وانه رئيسي الذي تعامل معي بلطف .. قلما يفعله رئيس لمرؤوس ..
إنه العميد هاشم محمد هاشم « اشكوندي» كما يلقبه اصدقاؤهـ .. الحلفاوي المفعم بالطيبة والمودة .. والتواضع والكرم وحسن الخلق .. وطهارة اليد واللسان .. أحب دارفور حباً .. جعله يخدم فيها في كل الرتب .. التي تقلدها .. بل تكاد أن تكون هي جل خدمته حتى رتبة العميد .. وقد تعلق أهل دارفور وتمسكوا به وبادلوهـ .. حباً بحب .. ووفاءً بوفاء .. وقد عملت .. تحت ادارته .. أجمل سنوات العمر .. لأنها كانت مفعمة بالثقة والمحبة والأخوة والتعاون .. والإحترام .. خالية من المكايدات والمضايقات والمنغصات «والكلتشات» .. والناس على دين ملوكهم ..!!
ولما كنت أعمل برئاسة الشرطة .. وهاشم سادر في حبه لدارفور .. علمت أن المدير العام .. وقتها .. يسعى لإحالته للصالح العام .. فكسرت كل قواعد الإنضباط .. ودخلت عليه وقلت له أرجوك .. أشطب .. اسم هاشم من هذا الكشف .. فضحك الرجل وقال .. نشطبوا ليه علشان صاحبك ..!؟
وتقبل الرجل قرار إحالته بروح المؤمن وظل يكابد قسوة الحياة .. حتى داهمه المرض وغادر دنيانا التي كان زاهداً فيها وفي نفسه غصة .. لأنه لم يتمكن من بناء بيت يأوي أهله من بعدهـ ..!!
رحم الله .. الحلفاوي الطيب .. البسيط هاشم .. وأدخله الجنة مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ..
باشرت عملي رئيساً لشرطة نيالا ونائباً لمدير شرطة محافظة جنوب دارفور بعد تقسيم دارفور الكبرى إلى محافظتين وكان محافظ .. المحافظة وقتها .. اللواء الركن محمد عبدالقادر عمر .. وهو رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الأسبق .. وكان رجلاً ورعاً متديناً مثقفاً .. كبحر زاخر بعلوم الدين والدنيا .. يملك ناصية الحديث في كل ما يثار من مواضيع .. عرفه الناس .. محافظاً على محافظة .. كسلا بشرق السودان التي بادر فيها بتطبيق .. قيم الشريعة وحارب الرذيلة .. في شتى أشكالها .. وسار على نفس النهج عندما تولى مهام المحافظ بجنوب دارفور .. فأغلق البارات .. وأصدر القرارات الرامية لأسلمة الحياة .. واستئصال المظاهر السالبة والتي تجافي الشريعة فيها . وسعى .. لإغلاق المواخير والأنادي .. و«طلمبات» العرقي ولاقى ما لاقى في سبيل ذلك .. من «صعاليك» المدينة الذين كانوا يقذفون بيته وسيارته بزجاجات الخمر .. وجركانات المريسة و«موية الكسرة» .. ومن المضحكات المبكيات أن المحافظ محمد عبدالقادر وهو في خضم معاركه لأسلمة سلوك الناس .. واستئصال شافة الإنحرافات السلوكية المجافية للشريعة الاسلامية .. فاذا بكارثة لم يحسب لها أي حساب .. تحط أمامه .. في شكل .. عربة شحن .. من عربات السكة الحديد التي تترنح بحمولتها .. من الخمور« الحرة» جوني ووكر وبلاك ليبل وغيرها من جماعة أبوبت وبيرة أبوجمل .. مرسلة لعنايته بإعتبارها البضاعة المزجاة التي طلبها سلفه ودفع قيمتها من خزينة المحافظة .. وذلك للخدمات الفندقية التابعة للمحافظة وإكرام ضيوفها وفتح شهيتهم لأكل الخراف .. وإدخال البهجة والفرفشة .. في نفوسهم وعصلج محمد عبدالقادر ورفض استلامها فأقترح البعض تكسيرها وأراقتها على الثرى .. فقال ومن يعوض الخزينة ما دفعت ؟! وتقدمت محافظة مجاورة وطالبت بتحويل الشحنة «المسكرة» إليها وإلتزمت بتسديد قيمتها .. فرفض وقال نحن لا نحرّض اخواننا على السكر ..!!
وأحسب أن الإتفاق قد تم على إعادتها إلى الجهة التي أرسلتها .. واسترداد قيمتها ..«مشرومة» ..!!.
وسرت في المدينة طرفة .. ظل يتناقلها الناس .. عندما اتصل السيد محمد عبدالقادر المحافظ .. برئيس شرطة نيالا .. وكان رجلا لطيفاً .. فحسب أن المتصل هو أحد زملائه او أصدقاءهـ فأجابه قائلاً : أيوهـ معاك حكمدار بوليس مكه !!.
كان اللواء الركن محمد عبدالقادر عليه رحمة الله مهموماً بأسلمة المجتمع .. وأحسب أن ما فعله في محافظتي كسلا وجنوب دارفور.. كان هو« قيدومة» تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان .. وأن مبادراته كانت جس نبض واستفتاء للناس .. لاقى القبول وشجع النميري على تطبيق قوانين سبتمبر .. وقد تحاور معنا مرة بشأن الكثير من النساء اللائي امتهن البغاء وصناعة الخمور بسبب ظروف قاهرة وتساءل عن أنجع السبل لتوفير الحياة الكريمة لهن وألمح الى التجربة الناجحة التي أقدم عليها اللواء الراحل روبن ماك .. مدير شرطة الاقليم الجنوبي .. بعد اتفاقية أديس أبابا وقام بتجنيد العديد من أمثالهن .. وتم تدريبهن على تنظيم حركة المرور في مدن الجنوب الرئيسية فاستطعنا إقناعه .. بان الاختلافات الجوهرية بين أهل الجنوب .. وأهل دارفور لا تشجع على تكرار التجربة في أية محافظة من المحافظات الشمالية وقصصت عليه التجربة التي خاضتها مديرية الخرطوم .. على عهد محافظها مهدي مصطفى الهادي .. فاستوعبت عدداً كبيراً من المومسات الشابات اللائي أبدين رغبتهن في عمل شريف ولقمة حلال .. وأفردت لهن معسكراً خاصاً لتدريبهن عسكرياً .. وتنويرهن بالقوانين التي تحكم مهنتهن الجديدة ووعظهن وإرشادهن لطريق الفضيلة والمثل العليا .. والزامهن .. بالتطهر وأداء الصلوات في مواقيتها .. ولكن معلومات تواترت عن أعمال فاضحة ترتكبها المجندات « المومسات» داخل المعسكر .. فتمت المداهمة وضبط الجميع بدون فرز في قعدة حالمة يدخنون السجائر «ماتيني» .. ويشربون البيرة ويغنون .. سنة يا ولد .. الحكومة سوت غلد «دي لزوم القافية» والطريف في الأمر.. أن بعض البنات كن يرتدين زي الرجال .. ويجلس كل واحد من هؤلاء الرجال «التبوان» .. مع فتاة حقيقية ولكنها يا هسارهـ .. سكوند هاند ..!.
وتم فصل المجندات جميعاً وثبت بالدليل القاطع .. والتجربة .. أن الشرطة والمومسات على طرفي نقيض .. وأن المومس لا تصلح للعمل كشرطية ولو أن التجربة مرت .. ولا أقول نجحت .. لأصاب الشرطة أذى كبير .. وتكاثرت فيها بذرة الفساد حتى غطت وجهها الجميل .. أضحكت هذهـ القصة .. المحافظ محمد عبدالقادر .. وصرفت نظرهـ تماماً عن معالجة مشاكل .. المومسات وغيرهن على حساب الشرطة .. أنبل المهن .. وأطهرها ..

«ونواصل»


نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24-04-2021, 07:17 PM   #[40]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 16 جمادى الاول 1430هـ - 12 مايو 2009م

كلام ساكت أيــــام النمـــيري (28)

لواء «م» محيى الدين محمد علي
كان اليسار هو قبيلة مايو وقبلتها عند اندلاعها .. وسرعان ما توطدت علاقاتها .. بالاتحاد السوفيتي الذي كان .. والصين التي يتعاظم أمرها .. كل يوم .. ودول المعسكر الاشتراكي .. كلها والتي تنكرت الآن لماضيها .. وكان عادياً .. أن تجد صور النميري .. تزين شوارع تلك الدول وصحفها .. سيما بعد أن فجر قنبلته الدبلوماسية واعترف بألمانيا الشرقية .. ولكن بحر السياسة في السودان .. اضطرب بفعل .. الصراع المرير .. بين اليسار واليمين وغيرها على كراسي السلطة .. فجرى قارب مايو في كل الاتجاهات .. وفق إملاءات ونصائح مساعدي (الريس) .. وسدنته .. وكان الإعجاز المايوي .. الذي لم يسبقها عليه أحد .. فاحتفظت بشعرة معاوية مع المعسكر الاشتراكي .. ومدت أياديها مستنجدة بأمريكا وأوربا .. وفتحت صدرها لكل العرب .. وتعاملت (بحرفنة) مع كل التناقضات الإفريقية .
خرجت مايو .. بعد معركتها مع الشيوعيين وقد خلعت رداء .. المواقف العقائدية .. والمبادئ التحررية .. وانتهجت خطأ في سياستها الخارجية .. يقوم على المصلحة .. ولا شيء غيرها .. وقد أرضى ذلك الكثيرين .. الذين يفضلون (الإستفادة) بأي ثمن .. ولم يرضَ بالطبع صفوة المثقفين والسياسة من أصحاب المبادئ .. والقيم .. والمواقف ..
لقد استطاعت مايو .. بانتهاجها .. السياسة الخارجية (المصلحية) .. ان تستفيد من روسيا والصين .. وكوريا .. وألمانيا .. ورومانيا وأوربا .. وأمريكا وسائر الدول العربية .. وعلى رأسها دول النفط .. وتمكنت من تسليح الجيش .. وتطوير الشرطة .. وان تشيد قاعة الصداقة .. وقصر الصداقة .. ومصنع الصداقة وقصر الشباب والاطفال .. وكبري القوات المسلحة .. وأن ترفع كفاءة السكة الحديد .. وتبني دار المجلس الوطني (البرلمان) .. وان تعبّد آلاف الكيلومترات من الشوارع والطرق ... بل .. واكتشاف البترول واستخراجه .. واستطاعت ان تفتح ابواب الجامعات العالمية .. لطلاب السودان .. فنالوا ارفع الدرجات .. في سائر التخصصات العلمية .. وقائمة (الاستفادة) طويلة جداً .. في شتى المجالات .. واحسب ان مايو في تعاونها المطلق نحو التكامل مع مصر بخبراتها وخبرائها .. وليبيا بمالها ورأسمالها .. والسودان بأرضه وامطارهـ وانهارهـ كانت ستحقق (الاستفادة القصوى) ..غير ان الرياح لم تأتِ .. كما تشتهي سفن مايو .. لأن ليبيا ومصر .. (على ما أظن) قد ضربا هذا التكامل .. واكتشفا .. ان السودان .. سيكون (المستفيد) الأكبر .. من العملية .. (فزاغا) منها .. وكانت يا عرب !!
إن علاقات مايو الخارجية مع (القطبين) وما بينهما .. ظلت علاقات (مصلحية) عجيبة .. خرج السودان مستفيداً منها .. كالمنشار .. طالع يأكل .. نازل يأكل .. ولا أدل على ذلك من مليارات الدولارات التي خلفتها مايو .. ديوناً على عاتق اهل السودان .. ولكن هنالك .. قائمة اخرى (خفية) من الفوائد .. خدمتها علاقات مايو الخارجية وكانت سبباً اساسياً في كل الهزائم التي لحقت بمسلسل الانقلابات والانتفاضات التي كانت من ورائها .. الاحزاب المعارضة والمتطلعة لكراسي السلطة .. ويكفي مثالاً على ذلك .. مشاركة مصر .. في إخماد التمرد بالجزيرة أبا .. وقيام ليبيا .. باعتقال بعض قادة الانقلاب الشيوعي .. وتسليمهم للنميري .. والطائرة القادمة .. وعلى متنها البعثيون .. من العراق وتفجرت بمن فيها .. والفاعل مجهول .
لقد تجلت براعة مايو (وشيطنتها) في علاقاتها الخارجية .. مع المتناقضات الافريقية ودول الجوار منها على وجه الخصوص .. لأنها .. كانت علاقات في ظاهرها .. تجارية واقتصادية وثقافية .. ولكنها كانت (في ضمير مايو) علاقات ... مصلحة أمنية ترمي لمحاصرة التمرد الذي اشتعل في الجنوب مع ارهاصات الاستقلال واستشرى كالنار في الهشيم .. يحرق الحرث والنسل .. ويرهق كاهل الحزبية العامة المرهق اصلاً .. ويهدد بسقوط عواصم الجنوب في ايدي المتمردين .. وينذر بانفصاله عن الشمال .. ونجحت مايو .. في الاحتفاظ دائماً .. برئيس مايوي في تشاد .. وعلاقات .. ودية وحميمة مع يوغندا .. وتنزانيا .. وكينيا .. والكنغو .. ولكنها حرصت على علاقات متينة وقوية .. ومتميزة مع إثيوبيا .. وامبراطورها العجوز .. هيلا سلاسي ومع افريقيا الوسطى .. ورئيسها (الغريب) بوكاسا .. وقد استطاعت مايو بهذهـ العلاقة الفريدة بين الدولتين الجارتين .. ان تنهك التمرد وتضعفه وتكسر عظم الظهر منه .. فاثيوبيا .. نظير (التجنيات المايوية الخطيرة) على الثورة الاريترية .. قلبت ظهر المجن .. لحركة الانانيا .. وحدت من نشاطها على اراضيها .. وفتحت افريقيا الوسطى ابوابها .. لقوات الامن السودانية .. فلاحقت قادة التمرد .. واقضت مضاجعهم .. و(فرزعتهم) .. وحسم الامر في النهاية .. عندما قام هيلا سلاسي بالتعاون مع مجلس الكنائس العالمي . الذي يوقرهـ ويحترمه ويقدسه .. وعدد من الدول الاوربية بتحقيق اتفاقية اديس ابابا بين مايو .. والانانيا .. ووقع النميري عليها مع جوزيف لاقو .. في وقت كانت حركة التمرد .. تلفظ أنفاسها الاخيرة .. بسبب الضربات التي تلقتها من الداخل والخارج .. وساد السلام في الجنوب بعد عقدين من الحرب الضروس بين ابناء الوطن الواحد .. وسكت صوت المدافع .. وانصرف الناس جميعاً للتنمية .. غير ان (الود الحبشي السوداني) مدفوع الاجر استمر .. وربما كان هو .. الذي قاد النميري لارتكاب اكبر هفواته واسوأ (طبزاته) .. عندما قام بترحيل الفلاشا من اثيوبيا .. الى اسرائيل .. وعبر السودان الطاهر .. الذي لم يدنسه اليهود من قبل .. أما علاقة الصداقة والمودة التي ربطت بين النميري .. وبوكاسا .. فتوطدت ولم تنفصم .. لان سياسة مايو الخارجية (المصلحية) كانت توصي لصداقة بوكاسا .. لان بلادهـ .. جارة لغرب الاستوائية .. واهلها متداخلون مع الزاندي .. ويقال ان بوكاسا نفسه (زانداوي) .. كما ان لإفريقيا الوسطى .. حدوداً مشتركة مع جنوب دارفور .. وتبادل تجاري عبر نقطة ام دافوق الجمركية .. وان اهل السودان من قبيلة التعايشة .. يرعون قطعانهم داخل اراضي افريقيا الوسطى .. ويبقون فيها لأكثر من ستة اشهر كل عام .. ثم يعودون .. لمناطقهم في رهيد البردي .. وقد ادت هذهـ العلاقات عبر السنين الى تداخلات عميقة في مجالات عديدة .. تلزم البلدين بعلاقات حسن الجوار .. وقبول صداقة بوكاسا على علاتها ..!!
ظل بوكاسا .. يزور السودان .. كلما (هفّت) له .. ويبقى فيه اياماً طويلة .. تعطل دولاب العمل في البلاد .. ومن طرائف بوكاسا انه بعد .. ان قضى .. قرابة الاسبوع في السودان .. وازمع مغادرة البلاد .. وودعه النميري وداعاً حاراً .. وركب الطائرة التي بدأت .. تتحرك على المدرج .. للإقلاع .. وغادر النميري عائداً إلى مكتبه في القيادة العامة .
إلا ان بوكاسا لما تبين له ان اليوم خميس .. امر الكابتن بالتوقف .. ونزل مرة أخرى .. ومدد الزيارة يومين آخرين ولسان حاله يقول .. هو احنا ورانا حاجة ؟!
ان بوكاسا كان على علاقة غرامية بإحدى بنات الهوى المقيمات في الخرطوم .. وكان يزورها .. بلا خجل ولا حياء .. وعينك عينك .. ويبقى معها ساعات الليل وبعض ساعات النهار .. وكانت الاجهزة الامنية .. مضطرة .. الى مراقبته وحمايته من طرف خفي .. فالرجل رئيس دولة مهما كان يعني ..!!.. وقد حكى لي صديق .. رافق الرئيس النميري في زيارة الى افريقيا الوسطى .. ان بوكاسا .. رحب بالوفد السوداني ترحيباً كبيراً ورائعاً ولكنه .. كان بين الفينة والاخرى .. يقترب من احد اعضاء الوفد .. الذي تربطه به .. مودة خاصة .. ويسأله عن احوال عشيقته .. فقال له .. خلاص كشوها .. فاندهش بوكاسا .. وقال .. زي دي .. بكشوها ؟! أحسب ان هذا القول من قبيل الشمارات .. والله أعلم .
ولما كان السودان يعتمد على الهبات والعطايا والقروض .. ودعومات الوفود .. لتسيير أمورهـ .. فإن النميري .. بأنفة السوداني .. كان (يبيض) وجهه .. بالهدايا والعطايا .. من خيرات السودان .. وقد رأيت بعيني رأسي هدايا النميري .. من الغزلان والفهود والزراف .. ونحوها .. وقد صارت الآن حدائق للحيوان .. في كثير من البلدان تشد إليها الرحال .. وشهدت في دولة من دول الخليج .. هدية من آلاف الخراف الحمرية .. بعث بها النميري .. والناس يتدافعون بالمناكب لرؤيها .. ثم يعودون .. وهم يرددون .. والله النميري رجال زين .. وخرفانة مليحة .. وقد اهدى الرئيس ملكاً من ملوك العرب .. عدة جوالات من الكركدي .. درجة اولى ونشر الظلال في موقف عرفات .. بزراعة الآلاف من اشجار النيم .. واستضاف رئيس جمهورية اليمن .. المرحوم الحمري وظل .. يطوف به .. وبنفسه ويفسحه حيث شاء نزولاً عند رغبته .. بل وختم زيارته بحفل ساهر .
ومن طرائف الرئيس الراحل بوكاسا .. انه طلب من النميري .. بعضاً من الخراف .. فخاطب .. محافظ جنوب دارفور .. وكلفه بشراء ألف خروف فاخر (خمسة شنكل) وإرسالها لعربات القوات المسلحة .. الى افريقيا الوسطى وتسليمها .. للرئيس بوكاسا شخصياً .. وقام المحافظ بإعداد هذهـ الكمية المهولة من الخراف النقاوة التي تتطابق اشكالها .. وتجر أذيالها .. ويسر الناظرين حالها ويمتع الآكلين .. لحمها .. واوصالها .. وتحركت بطوف من عربات الجيش .. الى بانقي وتم تسليم الهدية لصاحبها .. فسر بها سروراً عظيماً .. وسعد سعادة غامرة .. واكرم ضيوفه .. وسلمهم خطاب شكر وعرفان لمحافظ جنوب دارفور .. ولما فتح الخطاب .. وضح انه مكتوب باللغة الفرنسية .. فاستعان المحافظ بأحد معلمي البعثة التعليمية المصرية وكان متخصصاً في اللغة الفرنسية .. وبدأ يترجم الخطاب .. وفجأة برقت عينا الاستاذ المصري .. ودخل في هستيريا من الضحك حتى سرت عدواها لمن كانوا حوله .. ثم تمالك نفسه وقال .. يظهر ان الريس بوكاسا عاوز يعمل (قوازهـ) جماعية .. دهـ بقول لكم شكراً على الخراف .. والتفضل بإرسال ألف نعجة .. فوراً .. وضحك المحافظ ضحكاً كالبكاء .. واحتفظ بالخطاب !!



نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 11-06-2021, 12:07 PM   #[41]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 23 جمادى الاول 1430هـ - 19 مايو 2009م
كلام ساكت أيــــام النمـــيري (29)

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
لقد كان جهاز الامن العام .. الفرع الاصيل .. في شجرة وزارة الداخلية .. والذي لم اتشرف .. بالإنتماء إليه طوال خدمتي بالشرطة والذي لم ألتحق به .. حتى بعد فصله من الوزارة .. كان جهازاً قوياً .. يتمتع بكفاءة عالية في الأداء .. وقد صقلته كل الاحداث والحوادث .. ابان العهد المايوي .. واكسبته خبرة .. ومعرفة .. ودربة .. ولا أود الإسترسال في هذا الجانب باكمله .. ولكنني .. اسلط الضوء فقط .. على المقدرات التي كان يتميز بها الجهاز .. في كبح جماح .. الوسائط الاعلامية .. بالقدر الذي .. لا تضر به أمن البلاد ومصالحها أو تكشف أسرارها لاعداء البلاد .. كما أن هذا الجهاز كان يعمل في تناسق وتعاون وإنسجام مع أجهزة أُخرى في الشرطة والقوات المسلحة .. فلا تفلت من قبضته شائعة .. أو تتسرب أي معلومة يمكن إستغلالها .. في الداخل أو الخارج للإضرار بمصالح البلاد .. وسيتجلى ذلك بوضوح وقد حدث بدارفور .. حدث جلل .. وخطير كان يمكن أن يغير مسيرة الحياة السودانية في السودان بصورة جذرية .. ولكن الحدث مر .. مرور الكرام .. ولم تتناقله الأجهزة.. «جوه.. أو بره».. وكثيرون عاصروا مايو.. ولازالوا على قيد الحياة أو غادروها.. وكانوا من قياداتها.. في مجالات شتى .. ولم يسمعوا بهذا الحدث وربما اندهش البعض .. وفندقوا خشومهم .. وهم يقرأون .. ما اكتب اليوم .. ويستغربون .. كيف استطاعت .. أجهزة .. مايو الأمنية والتي كانت شهوداً عليه برموزها .. ومن بينهم أخي وصديقي العميد أمن «م» .. محمد الفاتح عبدالملك .. كيف إستطاعت أن تتكتم على هذا الحدث .. و«تكفي على الخبر ماجور» بلغة أهلنا الصاعيدة ؟!.
كانت البلاد .. تحتفل في فبراير من كل عام .. بعيد التعليم .. الذي اصر النميري أن يسميه .. عيد العلم .. وكان يتم الإحتفال به .. متنقلاً في مدن السودان المختلفة .. وتزينت مدينة نيالا ولبست ابهى حللها .. عام 1979م .. للإحتفال بهذا العيد .. وإستطاعت محافظة جنوب دارفور .. بقيادة .. الراحل اللواء .. محمد عبدالقادر عمر .. أن يعد برنامجاً رائعاً .. لهذهـ المناسبة .. وحلقت طائرتا النميري .. اللتان جاءتا به .. والوفد المرافق له .. وكان الإستقبال في المطار .. هائلاً وخرافياً .. يعج بالآلاف من البشر .. ولما اعتلى النميري .. العربة الاسكاوت العسكرية (حَرَنت) .. ورفضت .. أن تفهم بأن على رأسها رئيس البلاد .. فتصرف المقدم أمن محمد الفاتح .. فقاد عربة صديقه .. كعيكاتي .. وهي عربة (صيد مجيهة) فركبها الرئيس .. وطاف بها على الجماهير .. ومن ثم .. واصل الرئيس برنامج الزيارة .. فافتتح القرية التراثية التي تعبر عن ثقافات دارفور المختلفة .. ثم حضر حفلاً ساهراً.. بكلية المعلمات .. كما حضر كرنفالا .. وتلقى التحية من مواكب الاندية وفعاليات المجتمع .. وطوابير الشباب وقام بتوزيع الشهادات على المكرمين من رموز المعلمين .. والمهتمين بقضايا التعليم .. ومن الطرائف .. أن رجلاً (جهامه) يرتدي بدلة فول سوت . شق الصفوف اثناء استدعاء المكرمين .. ووصل إلى النميري وصافحه .. ولكن النميري غضب وزجرهـ لما علم بأن الرجل .. لاعلاقة له .. بالتكريم وأنه أراد فقط .. أن يصافح النميري .. على مرأى من أهل نيالا جميعهم ويحظى بلقطة فوتغرافية .. وحدث أيضاً واثناء مرور طوابير الشباب .. أن انفلت من بينهم .. شاب وجرى نحو المنصه .. وصعدها .. وسلم النميري .. مكتوباً .. (حمدهـ في بطنه).. وكلا الحالتين كانتا .. ملحوظتين امنيتين سالبتين .. وعلى غرارهما قتل رئيس هندي .. وقتل السادات .. بفدائية الإسلامبولي وكان يمكن أن يقتل الشاب .. وهو يجري نحو الرئيس !!.
بعد عناء اليوم الأول من الزيارة .. خلد النميري للراحة .. في غرفة على شكل قطية تقع في اقصى فناء منزل .. قائد المنطقة ومنها يستطيع النميري .. أن يشاهد المنطقة العسكرية .. ويلحظ حركة الجند فيها .. واختار أن يبدأ يومه الختامي .. بمخاطبه الحشد الجماهيري بمناسبة عيد (العلم).. بأن طلب تجهيز .. ثلاثة خيول .. وإعدادها بصورة جيدة .. لتكون رهن إشارته . فجر يوم عيد العلم .. ولا أحد يدري من سيكونا .. رفيقيه الفارسين .. وهل كان ينوي أن يأتي للساحة .. حيث الحشد الجماهيري .. ومعه من معه .. على ظهور الجياد .. أم أنه .. كما .. قال .. ناس الأمن .. كان يرغب .. في سياحة .. يستشرف فيها فلق الصباح .. ويستنشق عبيرهـ الفواح ويستمتع بجمال الطبيعة الخلابة في وأدي نيالا الساحر .. أم أن الأمر كما يزعم عامة الناس من قول يدخل في الرأس .. لأنه مبني على أساس .. بأن النميري كان ينوي .. أن يسجل زيارة صباحية مفاجئة للمنطقة العسكرية .. وأن يدخلها فارساً على ظهر جواد .. برفقة.. اللواء الركن«م» محمد عبدالقادر عمر محافظ جنوب دارفور.. والدكتور حسن الترابي المشرف السياسي عليها .. وإن كنت غير واثق .. من قدرة الأخير .. على امتطاء الصافنات الجياد !!.
المهم .. تم الإتصال بالسلطات البيطرية المحلية .. فبذلت أقصى الجهد حتى احضرت ثلاثة من الخيول الماصلة المفصلة حتى أن السائس قال : «دي خيول احر مني .. لانو جدها السابع معروف .. وانا واقف في الجد الثاني».. كذلك فقد احضرت معها السروج الفاخرة .. وركائبها الأنيقة .. واعنتها اللائقة .. وعلفت قريباً جداً من محل إقامة الرئيس .. طوع بنانه !!.
وكان داري .. قريباً من المنطقة العسكرية .. لا يفصله عنها .. إلَّا ميدان صغير يمارس فيه الاطفال كرة القدم .. عادة .. وقررت يومها أن أنام مبكراً .. لاصحو باكراً .. إستعداداً للعمل المضني الذي يصاحب نشاط الرئيس ولقائه الجماهيري .. ومن ثم مغادرته إلى الخرطوم .. وقبل أن اخلد للنوم قرأت .. بعض السور القرآنية الكريمة .. منها سورة الطارق .. وسورة الإنشقاق وسورة الإنفطار .. وتوقفت كثيراً عند معانيها .. والصورة المذهلة التي رسمتها لنهاية الكون .. أو يوم البعث والنشور .. ولما تمكن مني سلطان النوم .. كُنت احلم .. بالنجم الطارق بطرق الأرض ويثقبها .. وأرى السماء تنشق .. وتنفطر .. وتنتثر كواكبها .. مثل كرات النار .. وبينما كُنت .. غارقاً.. في هذا الحلم المرعب .. وعند الساعات الأولى .. من الفجر.. شعرت بأن الأرض تميد بي .. ثم تهتز وترتج .. وأن قوة غريبة مجهولة .. تنتزعني من مرقدي .. وترفعني .. وترمي بي .. واقفاً مرتعداً في منتصف الغرفة .. واصوات مدوية قوية تصم الآذان .. لم اسمع بها من قبل .. في الخيال أو حتى افلام الرعب .. فخرجت من الغرفة .. ونظرت إلى السماء .. فكانت كتلة من اللهب الأحمر تضئ الأرض وتكشف تفاصيلها .. ويتوالى الدوي .. وتتقاطع اصوات الإنفجار .. ويتفاقم الإشتعال .. وكأن براكين عدة تقذف حممها نحو سماء .. نيالا .. فايقنت أن السماء انفطرت .. وأن النجم الثاقب .. قد بدأ يثقب الأرض .. فهرعت إلى الداخل .. وتوضأت .. وشرعت اصلي .. عسى .. أن تكون صلاتي .. هي الخاتمة .. ولكن ومع كل ركعة .. كانت الأرض تهتز من تحتي .. بإنفجار أقوى يتردد صداهـ .. في اركان المدينة .. يتضاءل أمامه .. قصف الرعود .. فأجد نفسي اقفز من مكان .. إلى مكان واصر .. الحاحاً .. على مواصلة الصلاة .. وتجمع اطفالي في حضن أُمهم .. يرتعشون ويصرخون .. ويزداد صراخهم مع كل إنفجار .. يشتعل في السماء .. وإستمرت ثورة الجحيم هذهـ لغرابة الساعة من الزمن .. ثم بدأت السماء .. تصفو .. إلَّا من اعمدة الدخان .. وإستمرت اصوات إنفجارات صغيرة كثيفة وكأنها الموسيقى التصويرية لهذا الإنفجار العظيم .. وكان أول من طرق بابي .. هو المقدم أمن .. محمد الفاتح عبدالملك .. الذي جاء في معية الرئيس .. فأطمان علي وعلى أُسرتي .. واطمان على نفسه بوجودهـ .. معنا .. ونحن .. صديقين .. واولاد دفعة .. وعلمت منه .. أن ما حدث هو إنفجار مخازن الأسلحة والذخائر في المنطقة العسكرية المجاورة لبيتي .. وهذهـ المخازن عادة ما تكون بناءً مسلحاً .. تحت الأرض .. يحفظ بداخله سائر الذخائر .. والقذائف .. والقنابل الضخمة .. وبعضها من بقايا الحرب العالمية الثانية !!.
وبعد أن خمدت النيران .. وسكنت اصوات الإنفجارات .. هرع الناس نحو (قطية) الرئيس .. فوجدوهـ .. قد صلى صلاة الصبح .. وجلس على كرسيه .. خارج غرفته وهو في جلابيته .. يداعب حبات مسبحته .. وكان هو الذي يطمئن من جاءوا للاطمئنان عليه .. ويقول لهم : ما في حاجة .. عوجة مافي !!.
التقارير الرسمية والأمنية .. تقول .. إنه إنفجار خطير .. واخطر ما فيه هو تزامنه مع .. وجود الرئيس .. في نيالا .. وفي غرفته التي .. كانت الاقرب من موقع الإنفجار .. أما حديث المدينة فكان الأمر .. خطة مدبرة بليل لتصفية ثلاثي اضواء المسرح السياسي النميري .. ومحمد عبدالقادر .. والترابي .. عندما يدخلون المنطقة العسكري على ظهور الخيول ولكن الحكاية (فرقت بنط) .. ووقع الإنفجار قبل ساعة الصفر .. بخطأ من المدبرين وبفضل من مدبر الأمور !.
إن كلماتي بالتأكيد .. قد عجزت عن وصف هذا الحدث الجلل .. ولكن .. وحتى يستطيع القارئ أن يتصور جسامته .. فإن الكتل .. الخرسانية .. التي كانت سقفاً لمخزن السلاح .. قد طارت مسافة عدة كيلو مترات خارج المدينة .. وأن جنوداً كانوا .. يحرسون الموقع .. لم يعثر لهم على أثر .. فبعض الاقاويل ترجح .. هروبهم .. أو احتراقهم بالكامل .. وأُخرى تنفي كل ذلك .. وتقول لا خسائر في الارواح .. ولا أدري كيف .. وقد تكسرت اقفال كل المخازن والغرف المغلقة في المدينة .. وتحطم زجاج النوافذ في كل بيت بل وطال حتى زجاج بعض السيارات .. وتصدعت جدران الكثير من المواقع .. بل أن اقفال وطبل المتاجر كلها تحطمت .. وفتحت ابوابها على مصاريعها .. ولكن ليس ثمة لصوص وقتها .. والخزن الحديدية المتينة كلها .. انفتحت من تلقاء نفسها والقت ما فيها وتخلت .. وسقطت مراوح السقف في كل بيت ومؤسسة .. بعد أن تعوجت وتكعوجت بفعل الفراغ الذي احدثته نيران هذا الإنفجار .. والطريف في الأمر أن سكان المدينة .. اصحاب المنازل المشيدة بالقش والمواد المحلية .. هم الذين .. ناموا .. وقاموا .. وحاموا .. ولم يسمعوا بما حدث !!.
دعوت مرة .. عدداً من ضباط حامية نيالا .. للطعام في منزلي .. وما أن دخلوا .. حتى وضعوا اياديهم على رؤوسهم .. وقالوا : ما هذهـ .. التي يلعب بها طفلك .. فقلت لهم : هي طلقة (انيرجا) مكضبة .. سقطت في داري زمن الإنفجار .. قبل عدة اشهر .. وتركتها للاطفال يلعبون بها .. فاجروا إتصالاً عاجلاً وجاءت قوة من الحامية .. فأمروها .. بأخذ الطلقة الرهيبة .. وتفجيرها خارج المدينة .. وقال لي اللواء كمال أبشر عليه رحمة الله .. انت عليك كرامتين .. لأن الطلقة عندما سقطت في منزلك لم تنفجر .. وأنها ظلت طوال هذهـ المدة صابرة ولم تنفجر .. ولما شرعنا في تناول الطعام .. دوى صوت الإنفجار .. واهتزت نوافذ المنزل .. وضحك الجميع .. وقالوا : دي طلقتك المكضبة !!.



نقلا عن جريدة الوطن


اقتباس:
** ملحوظة :
العقلية العسكرية تري في الصحافة ’’ناشرة قوالات‘‘ وتحشر انفها في ما لا يعنيها .
وتلك هي العقلية التي تربت علي إطاعة التعليمات .
ولكن نفس هذهـ العقلية لاتتحرج من ان تتداول من الاحداث والمواقف ما تحرم علي نشرهـ في الصحف ..
*** إشارة اللمز الي قدرة الترابي الي ركوب الصافنات الجياد ... شئ لا يمت بصلة ...
**** إشارة إن الرئيس جاء يطمئن عليه ، فيه نظر ... خاصة وهو يعود ويقول ان الناس عندما جاؤوا يطمنون عليه ، فيطمئنهم هو !!!
هل هذا ’’من الحب ما قتل؟؟؟‘‘ ...



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 27-07-2021, 10:09 PM   #[42]
elmhasi
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


جريدة الوطن - الثلاثاء 8 جمادى الاخر 1430هـ - 2 يوليو 2009م
كلام ساكت - أيـــــام النمــــــيري (30)

لواء «م»/ محيى الدين محمد علي
كما إن أبغض الحلال عند الله الطلاق ، فإن ابغض الحلال عند الوطن ، هو الانحياز للقبيلة على حساب امن الوطن ، وخصماً على استقرارهـ ، وقد كنت شاهداً إبان عملى بمركز شرطة جوبا على مشاجرة بين مجموعتين قبليتين كانوا فى البداية يرقصون ويغنون سوياً ، وقد تلونوا بشتى الالوان و’’جلبطوا‘‘ وجوههم وأجسادهم بمواد جيرية وغيرها ، فحدث إحتكاك بين الطرفين ، تطور الى معركة دامية ، جاءت بهم جيمعاً الى القسم ’’مفلقين‘‘ ومجرحين ، ومعتدين ، ومعتدى عليهم وكان المتحرى شاباً ذكياً من ابناء الجنوب ، فجمع كل الاطراف بالقرب من صنبور المياهـ ، وأمرهم بالاغتسال وإزالة الالوان الجيرية ، التى وزعت بتشكيل سريالى على وجوههم وأجسادهم ، حتى غطتها فأخفت ملامحهم ، وشخصياتهم فأصبح مستحيلاً التعرف عليها ، وكانت المفاجأة المذهلة بعد الغسل ، وإختفاء الوان التنكر أن تكشف العديد من المتشاجرين عن رتب عسكرية شتى من رتب صف ضباط فى القوات النظامية المختلفة ، وقد اثار ضحكى أن بعضهم ، كان يعرف نفسه ، بلفظة ’’زميل‘‘ لعلها تعينه فى ورطته !!
لقد كانت الاستوائية هي أول عهدى بالعمل الشرطى ، وقد ظننت إن ما رأيته من ’’جنون القبيلة‘‘ قاصر على اهل الجنوب وحدهم ، سيما ، وقد كنت المتحرى من قبل فى قضية بين قبيلتين ، مات فيها أكثر من مائة ضحية ، دون سبب ، غير التعصب الاعمى للقبيلة ، وأن الحراب من فصيلة ’’الكوكاب‘‘ البشعة قد استلت عشرات الاجنة من بطون النساء الحوامل ، فى محاولة لقطع نسل القبيلة العدو ، ولم أكن أحسب أن فى ولايات الشمال تعصب أقوى للقبيلة إلا عندما عملت زهاء الاربع سنوات بشرطة جنوب دارفور !!
لقد كانت سنوات من العمل المرهق ، والمحزن قضيناها فى خدمة شرطة جنوب دارفور ، عشناها على اعصابنا ، فقبل أن تهدأ معركة بين قبيلة عربية وأخرى غير عربية ، حتى تشتعل نار الفتنة بين قبيلتين غير عربيتين ، وأخرى بين قبيلتين عربيتين .. وأخيرة بين خليط من هذهـ القبائل . والضحايا يتساقطون ’’سمبلا ساكت‘‘ والنساء يترملن والاطفال يتشردون ، ويحترق الزرع ويجف الضرع ، ويتنامى أوار العداوات فى نفوس الجميع ، والاسباب جميعها تافه . وصغيرة جداً ولا تبرر قتل نملة .
والامثلة كثيرة أستدل منها بواحدة عندما كان الناس مجتمعون ، وطلب أحدهم من الاخر أن يناوله ورقة كانت الى جوارهـ .. فقال : أنا ود القبيلة ’’الجعيصة‘‘ ما بتخدم زولاً زيك ولا بنديك الورقة !!
فقال الرجل أنا قبيلتى أجعص من قبيلتك وهجم على ود الجعيصة وقتله ، فقام أهله بقتل عشرة من القبيلة الاجعص ، وهكذا حتى تجاوز عدد الضحايا المئات من خيرة شباب القبيلتين ، ورسمت الدماء الحمراء التى سالت خطاً احمر يفصل بين القبيلتين ويمنعها من التداخل والتماذج والتصالح ، وتطورت الاحداث هكذا آلت دارفور الى ما آلت إليه الان ..
وكلما رتق الخيرون رتقاً فى نسيجها الاجتماعى حتى أطل شيطان من شياطين الانس واحدث فيها خرقاً جديداً .. وكما يقولون فتش عن المرأة .. كنا نفتش عن القبيلة والمرأة ، والمرأة فى دارفور هي ’’الحكامة‘‘ بلا منازع !!
وكان المؤسف والمحزن حقاً أن كل حادثة تحدث بين أفراد قبيلة واحدة أو قبيلتين تجلعنا فى الشرطة نعانى الامرين ، فى إختيار عناصر لا علاقة لها باي طرف من الطرفين ، لتكليفها بمهمة التعامل والتحقيق فى الامر ، وقد اثبتت التجارب بأن رجال الشرطة الذين كلفوا بمهمة ما إنحازوا إنحيازاً سافراً لقبيلتهم ، وحاربوا الى جانبها ، ومن لم يستطيع أعطاها سلاحه وذخيرته ، وعاد يزعم بانها سرقت منه !!
لقد اقلق هذا الوضع كل القيادات التى تعاقبت على ادارة جنوب دارفور ، فدرست الامر دراسة عميقة ، وخلصت فى النهاية الى ضرورة الاعتماد على قوات شرطة لا علاقة لها بقبائل دارفور ، فعملت على تنفيذ هذهـ الفكرة ، بإرسال ضباطها الى كردفان لتجنيد افراد يعملون ضمن شرطتها ، ونجحت الخطة وصار عدد من رجال الشرطة ’’الكردفانيين‘‘ عدداً مقدراً فى جنوب دارفور ، ومن ثم كان لهم دورهم المؤثر والواضح فى بسط الامن والتحقيق فى شتى الصراعات والجرائم بكفاءة عالية وشفافية وتجرد ، وقد ساعد على تحقيق هذا النجاح بكل تأكيد ، أن مدير الشرطة وأركان حربه جميعاً كانوا من اقاليم السودان الاخرى !!
ورغم هذا التشظى القبلى المخيف ، فإن بعض المتفائلين من ابناء دارفور وكردفان المثقفين كانوا يحركون نشاطاً سياسياً ملموساً ، يخطط لكيان سياسى يجمع أهل غرب السودان .. دارفوريين وكردفانيين فى صيغة واحدة بحسبان أن اهل هاتين المنطقتين يجمع بينهما رباط ثقافى واحد ، وتمازج عرقى واضح وتاريخ مشترك ، يؤهلهما للتجمع ، فى صيغة فدرالية أو كونفدرالية تحت مظلة السودان الكبير ، وقد قيض الله لى أن اكون جاراً ملاصقاً لأحد الناشطين فى هذا المجال ، وكنا نقضى الساعات الطوال فى الحوار . ومناقشة الفكرة وأخالفه الرأي بقوة وأقول له .. إن أهل الغرب هم كأهل الوسط والشرق والشمال .. قبائل شتى .. من مصاهرة زنجية عربية تتحدث لغة القرآن بألسنة متعددة .
يوحدها الاسلام بقيمه العظيمة ويجمعهم السودان بتأريخه وارثه العريق .. وأن علاقات أهل السودان المتداخلة ومصالحه المترابطة وانسابه المتشعبة يجب ان تشدهم نحو الوحدة .. ولا احسب أن عاقلاً يسعى لكيان جغرافى ، بعيد عن نهر النيل العظيم ، وكان صديقى يصر على فكرة الاقليم الغربى ، على غرار الاقليم الجنوبى ، رغم الاختلاف الجوهرى بين الاقليم الجنوبى وغيرهـ من اقاليم الشمال ، ولما أصدر النميرى قرارات جعلت من دارفور إقليماً ومن كردفان إقليماً آخر .. إبتهج دعاة الاقليم الغربى ، وحسبوا أن الامور تمشى كما يتمنون فى اتجاهـ دمج الاقليمين ، تحت مسمى الاقليم الغربى ، ولكن تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن .. فقد تهاوت الطموحات فى اقليم الغرب ، وذبلت احلام الناشطين الوردية ، لما قام ’’ولي الله‘‘ جعفر النميرى بإصدار قرار عفوى عيّن بموجبه صديقه العسكرى الطيب المرضى ، حاكما لإقليم دارفور .
والطيب كما هو معروف من اسرة عريقة فى شمال كردفان ، وقامت القيامة وخرجت دارفور عن بكرة ابيها ، تشجب وتدين وتستنكر وترفض القرار ، فى مظاهرات عارمة ، لم تشهدها دارفور من قبل ، وهتف المتظاهرون يطالبون بحاكم من ابناء دارفور ، وتجاوزت بعض الهتافات كل الخطوط الحمراء ، ورددت ميه قطر لاولاد البحر ، والف قندران لاولاد كردفان ، بل حاولت بعض العناصر المخربة والمدفوعة من قبل جهات ما ، أن تستغل غضبة الجماهير وتجرها للتخريب أو توظيفها لصدامات عنصرية وعرقية وتؤلبها على الاقليات غير الدارفورية التى تعيش بينها ، وتوجس بعضهم خيفة وغادر دارفور ، بل إن كل رجال الشرطة الذين تم تجنيدهم من كردفان وسهرت عليهم السلطة ودرستهم وأهلتهم عبر سنوات عديدة ، ودرجت على الاستعانة بهم فى مجابهة القضايا ذات النعرات العنصرية والقبلية ، كلهم تجمعوا بليل ، اثناء التظاهرات الاحتجاجية العنيفة ، وغادروا دفعة واحدة بقطار نيالا مخلفين وراءهم فراغاً شرطياً هائلاً . أربك حساباتنا وكاد أن يؤدى لإنهيار تام ومريع فى الاداء الشرطى !!
وفى غمرة الاحداث المحزنة ، فإن المرء لايعدم الابتسامة ، وقد كان سائق عربتى الرقيب العجب ، رجلاً طيباً ولطيفاً ، ومضحكاً ، ولكنه جاءنى صباح هذهـ الاحداث مكفهر الوجه وقال لى : (الامور بايظة خالص .. أنا جهزت العربية والتنك ’’فل‘‘ وجركانتين فى الضهرية ، جهز نفسك .. وجهز العيال ، وأنا طالع بيكم الخرطوم طويل)!! .
ضحكت من تصرفه وقلت له : انا الليلة مسؤول الشرطة الاول بالانابة .. عاوزنى أهرب ؟! بالغت يا العجب !!.
أحس العجب بخطئه .. فصمت وخرج ، وجاء بعد برهة يحمل ’’قاشا‘‘ مزوداً بالعديد من ’’الحجبات‘‘ وقال لي : وكت أبيت السفر أمسك دهـ ، أكربه فى وسطك ، تانى اي سلاح ما بيأكلك !! فقلت له : وإنت حتعمل إيه ؟! فقال : أنا الشئ دهـ شاربه عديل كدهـ .
ومن المضحكات المبكيات .. إنه لما إحتدمت المظاهرات فى مدينة نيالا ، تكدس عشرات الالاف من الرجال والنساء والاطفال على شارع الزلط الوحيد فى المدينة ، والذى كان يشقها من اقصاها الى اقصاها ، وكنا نسمى هذا الشارع تندراً بـ’’الكرفته‘‘ فادرت القوة بنفسى ، ولعبت بخطة دفاعية مية المية ، فحرست المواقع الاستراتيجية ، ومكاتب الدولة وسوق المدينة ، وسوق ام دفسو ، ونبهت رجال الشرطة بعدم التعرض للجماهير الثائرة أوإستفزازها أو الاستجابة لإستفزازتها ، وكان قائد المنطقة العسكرية يوافقنى الراي ، ولكن المحافظ بالانابة جاء يقود عربته بنفسه ، ولم يابه لتحرشات الجماهير ، فقمت بتنويرهـ ، بما حدث ويحدث وبالخطة التى قررت التعامل بها مع التظاهرات الصاخبة ، ولكنه إعترض على خطتى وطالبنى بالتدخل فوراً وتفريق التظاهرة بالقوة ، فأوضحت له بأن خطتنا سلمية وأن التدخل بالقوة سيتم إذا حاول المتظاهرون التخريب ، وأن استعمال القوة والسلاح النارى إذا دعت الضرورة ، فى هذا الحيز الضيق قد يخلف عشرات القتلى والجرحى ، ثم إن رجل الشرطة ، وكلهم من ابناء دارفور ، غير متحمسين لمجابهة أهلهم وذويهم ، ولكن المحافظ بالانابة أصر على التدخل ، والتصدى للمظاهرات بالقوة ، فأردت أن أثنى الرجل عن قرارهـ فقلت له : أكتب لي أمراً بذلك ، فلم يتردد الرجل ’’الشجاع‘‘ فأخرج ورقة وقلماً واستند على حائط قسم الشرطة ، وكتب الامر بلهجة قوية وواضحة ، ومهرهـ بتوقيعه ، ولم ينسى أن يوضح اليوم والساعة والدقيقة التى أصدر فيها أمرهـ ، فأخذته منه ووضعته فى جيبى ووعدته بالتنفيذ بعد حضور القاضى المقيم ، فانصرف الرجل سعيداً الى دارهـ ، ولم يأبه للمرة الثانية لتحرشات الجماهير به ، ولم أنفذ الامر بالطبع ، وظلت المظاهرات تجوب المدينة وتبلغ هتافاتها عنان السماء ، ولكنها تحاشت كل المواقع التى تمركزت فيها قوات الشرطة ، كما سبق وأن اشرت ، وعندما إنتصف النهار ’’والنار ولعت‘‘ وأرتفعت الحرارة ، بدأت المظاهرات تتفرق رويداً رويداً ، حتى تلاشت تماماً . ومع ذلك ظل المحافظ بالانابة غير راضى عنى ، ولا ادرى ما كان سيحل بنا لو أننى ’’جبنت‘‘ ونفذت الامر ، وأزهقت الارواح ، وكان فى مقدورنا أن نتحاشى ذلك ؟! .
لقد سعدت كثيراً ، وقد تجاوزت شرطة جنوب دارفور المحنة دون اراقة دماء أو حتى بلاغات جنائية ضد المتظاهرين الذين إنتصروا فى النهاية ، وتراجع النميرى فأعفى الطيب المرضى ، وعيّن الدكتور احمد ابراهيم دريج ، حاكماً لدارفور ، فقامت القيامة مرة أخرى ولكن هذهـ المرة فى حماية الشرطة ، لأنها كانت تظاهرات الابتهاج والفرح العارم ، وقد الت السلطة أخيراً لأحد ابناء دارفور ، وسلطة عضم شيطان ولا مال خنقاً !!.



نقلا عن جريدة الوطن



التوقيع:
اقتباس:
متعتي في الحياة أن أقول الحقيقة
جورج برنارد شو
elmhasi غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 10:48 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.