اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو جعفر
تحياتي د. عايد
وشكراً على فتح هذه النافذة الهامة والتي تفتح الباب واسعاً للسؤال عن غياب أهم عنصر لقيادة ثروات الشعوب من الأدب والفن وهو عنصر الفلسفة الذي يزن الأفكار والدعوات بميزانه الثلاثي (المنطق والأخلاق والجمال) ... علماً بأن الأدب والفن ثروات لا تقدر بثمن وضياعها قد يقود لخسارة مضاعفة ... فنفقدها وتعمل ضدنا.
وصدقني غياب عنصر الفلسفة وعدم قيام الفلاسفة ودارسي الفلسفة بواجهم في أي بلد يجعل من بعض أهم النخب السياسية (براقش) تلك الغنماية التي سعت لحتفها بظلفها. ويجعل من الأدب والفن سلاح بيد العدو ... فالأديب والشاعر والفنان تقودهم العاطفة التي يمكن إثارتها بالوعود البراقة والشعارات الطنانة ... وهنا يأتي دور الفلاسفة المخلصين في كشف حقيقة الوعود والشعارات ... وتوجيه مركزية الشعب وعقله الجمعي نحو عاطفة صحيحة تبني ولا تهدم ...
فشعار فلسفة ما بعد الحداثة بحسب ما فهمت من مناصريها، لا يأبه بالمصدر: دين، فكر، مستشفى الأمراض العقلية ... لكنه يشترط الخطاب المفهوم في الفضاء العام ... أي عندما تتحدث في السياسة - وأي كانت وسيلة خطابك (شعر فن أدب دين) - يجب أن يكون خطابك مفهوماً ومنطقي وقابل للنقد. وهذا بالضبط ما أفتقده خطاب الأحزاب الشمولية في السودان فكانت مايو ومن بعدها الإنقاذ وحالنا يغني عن الشرح والطرح.
فهل نحلم بأن يقوم أهل الفلسفة في السودان وجمعيتهم القائمة بواجبهم؟.
|
تحياتى أستاذ أبو جعفر
مداخلتك محفزة دائماً للسعى وراء
القضايا التى تطرحها . .
قرأنا أدب الواقعية الإشتراكية،
بعضه كان فجاً ويشبه النشرات
الرسمية لحكومة أو حزب ،ولكن
بعضه عبر عن تلك الفترة بصدق
وأبدع فى طرح همومها ومشاكلها ،
لكننا ظللنا نفكر فى ماهية هذه
الأشياء التى نقرأها أو نشاهدها
أو نسمعها . .
تساءلنا عن سر الجاذبية التى
تجعلنا ندور حولها أو داخلها .
إنحزنا لما ظنناه أدباً أو فناً
صادقاً . . إكتفينا بما تفعله
فينا القصيدة أو القصة أو
الرواية أو الفيلم أو المسرحية
أو الأغنية أو اللوحة . . وإذا
كانت ستوصلنا إلى حالة
الإمتلاء البهيج .
لم أهتم بنظريات النقد الأدبى
والفنى وما خطرت ببالى فكرة
دور الفكر فى الأدب والفن ،
والعلاقة بينهما .
أستعنت بقوقل فوجدت ما
أخذنى ليومين متتالين .
أدناه جزء من مقال فيه
تلخيص لهذه العلاقة المعقدة .
الواقعي والمتخيل
تعتقد الفيلسوفة الأميركية مارتا نسباوم (Martha Nussbaum) أن الرواية الأدبية يمكنها أن تهذب الإنسان وتعزز فيه حسه الأخلاقي. فالسرد الروائي المبني على الخيال الإبداعي يهز الوجدان هزاً خلاصياً على غير ما يستنهضه التحليل الفلسفي المحض. لا يستطيع الفيلسوف، بحسب نسباوم، أن يستجلي كل لطائف الحب في استقصاءاته النظرية، في حين أن السرد الروائي يستكشف في اختبارات الحب، الواقعية والمتخيلة، أبعاداً جليلة لا يفطن إليها الناس في المألوف من تصوراتهم.
خلاصة القول، إن الأدب يسحر بعصيانه وتفلته وتهوره، في حين أن الفلسفة تهذب بانضباطها ودقتها ورصانتها، ولو أن بعض التيارات الفلسفية المعاصرة كفرت بالانضباطية والمنهجية والمنطقية. فمن مهمة الفيلسوف أن يترصد ابتكارات الأدباء والشعراء حتى يستجلي سمات العالم الخيالي الذي ينشئونه، وقد غمروه بفائض من المعنى. من وظيفته أيضاً أن يتجنب السقوط في المتاهات السحيقة التي يحفرها الأدب في معترك الاختبار الوجداني. فالشاعر الذي يتخيل نفسه مقتحماً أسوار التسامي المطلق، وقد أذابت جناحيه النار الإلهية التي كان يطمع في اختلاسها، لا يملك إلا أن يضاعف في الفيلسوف حس الخفر والحذر والحيطة، ويدفعه إلى الاعتصام بوعيه الناقد وبصيرته النافذة. أمام الجنات الغناء التي يبتدعها المخيال الأدبي، تظهر حديقة التأمل الفلسفي في مظهر الصحراء القاحلة والأرض القفر. في ذلك تنعقد رسالة الزهد والتقشف الطوعي في الفلسفة. لا يركن الفيلسوف إلى شطحات الشاعر الإغريقي المغناء أورفيوس (Orphée)، بل يعتصم برغبة البحث المضني التي كانت تضرم عقل البطل الهوميروسي الإغريقي وملك إيتاكا أوليسيوس (Ulysse)، وقد استرشد بفطنته الذهنية الخارقة لينعتق من إغواءات الحوريات المنبعثة من بحيرات الحياة.
دعماً للتماسك المنطقي الخاص بالتعبير الأدبي، يستحضر الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871-1945) الأبعاد الفلسفية التي تكتنز بها قصائد الشعر: "كل شاعر حقيقي يستطيع، بقدرة تتخطى ما نعرفه عنه على وجه العموم، أن يفكر تفكير المنطق السليم والتجريد النظري. بيد أنه يجب علينا ألا نبحث عن فلسفته الفعلية في ما يسوقه من قول تتباين مقاديره الفلسفية. أعتقد أن الفلسفة الأشد أصالة لا تتجلى في أغراض تفكيرنا على قدر ما تتجلى في فعل الفكر عينه وفي اشتغالاته" ("الفلسفة والفكر المجرد"، الأعمال الكاملة، الجزء الأول، 1957، ص 1335-1336). ديدن الفيلسوف أن يدرك حقيقة الوجود ويستجلي عمق المشاكل الإنسانية. أما الأديب، فسعادته في الاختبار الذي يتخطى الإدراك. لذلك سيظل الأدب امتحاناً عسيراً أمام الفيلسوف الساعي إلى الاقتصاد والتحوط والتفحص. ولكن التفكر الفلسفي يجب أن يبقى بمنزلة الضمانة العليا التي تحصن الوعي الإنساني، وتعصمه من الاستغراق في عوالم التوهم الجذاب. الأدب تفنن وبراعة وتأنق، فترسل وتدفق وشطح. أما الفلسفة، فنظر وتبصر وتفحص، فتدبر وإمساك ونقد.