رؤية مغايرة لحادثة شق صدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
عادل عسوم
https://www.sudaninet.net/17238
كم ترتاح نفسي لسورة الانشراح يا أحباب.
هذه السورة المكية من سُور المفصَّل القصيرة، والتي يبلغُ عدد آياتها ثمانِ آياتٍ كريمات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8).
لقد ورد في سبب نزول هذه السورة، عن عبدالله بن عباس رضي الله قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سَأَلْتُ ربِّي مسألةً وودِدْتُ أَنِّي لمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: يا رَبِّ! كانَتْ قَبلي رسلٌ منهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لهُ الرِّياحَ، ومِنْهُمْ مَنْ كان يُحيي المَوْتَى، وكلمْتُ موسى قال: أَلمْ أَجِدْكَ يتيمًا فَآوَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ ضالًا فَهَدَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ أَلمْ أَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ، ووضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قال: فقُلْتُ بلى يارَبُّ؛ فَوَدِدْتُ أنْ لمْ أَسْأَلْهُ"
وهو حديث صحيح عند الألباني.
هذه السورة يلهج بها لساني كلما اعتراني هم، أو أَلَمَّ بصدري ضيق، أقرأها دوما في ثنايا ركعتين ما لم يكن الوقت وقت نهى عن صلاة النافلة، ولعل السبب في حضور هذه السورة عندي؛ (رسوخ) قصة شق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم في وجداني، فقد كانت الوالدة أطال الله عمرها - وهي أُمِّيّة- تحكيها لنا دوما خلال طفولتنا، وأذكر أنها كانت تهدهد شقيقي الذي يليني وتحكيها، فما كان مني إلا أن بكيت غاضبا باعتبار أن هذه السورة خاصة بي، وطلبت منها أن تحكي لشقيقي قصة أخرى سوى قصتي🙂
ثم إذا بي أعتاد مشاهدة تفاصيل القصة خلال رؤاي وأحلامي، وعندما كبرت وقرأت تفاصيل شق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم (في الصحاح)؛ دهشت حقا بكون كل التفاصيل التي اعتدت رؤيتها خلال أحلامي مطابقة تماما للذي أتى في الصحاح!، وسبب دهشتي أنني عندما طلبت من الوالدة إعادة سرد تفاصيل القصة لم أجدها بذات الضبط الذي طابقت فيه رؤاي تفاصيل القصة في الصحاح!
في ثنايا هذه السورة (لطيفة) لايتبينها العديد منا، فقد قال ابن القيم رحمه الله:
قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فالعسر - وإن تكرر مرتين - فإن التكرار عندما يكون بلفظ المعرفة فذاك يعني أن الموصوف (العسر) واحد، أما اليسر فقد تكرر بلفظ النكرة، لذلك فإنه يسران!، وبذلك فإن العسر محفوف بيسرين، يسرٌ قبله ويسر بعده، لذلك لن يغلب عسرٌ يسرين!.
انتهى قول ابن القيم.
وقد أورد الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي في التلخيص بأن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه بلغه أن أبا عبيدة حصر بالشام، وقد تألب عليه القوم، فكتب إليه عمر: سلام عليك، أما بعد: فإنه ما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة إلا يجعل الله له بعدها فرجا، ولن يغلب عسر يسرين، و{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} قال: فكتب إليه أبو عبيدة: سلام عليك. وأما بعد: فإن الله يقول في كتابه: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} إلى آخرها. قال: فخرج عمر بكتابه فقعد على المنبر فقرأ على أهل المدينة ثم قال: يا أهل المدينة! إنما يعرض بكم أبو عبيدة أن ارغبوا في الجهاد).
وبالطبع فإن السورة تحكي عن قصة (حقيقية) لحادثة شق الصدر التي وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم خلال طفولته، سأسعي إلى أيرادها واصلا مابين شهودي اياها خلال رؤاي المنامية وصلا بالصحاح من كتب السيرة النبوية المشرفة،
فقد صحت الروايات بأن الحبيب صلوات الله وسلامه عليه قد شُقّ صدره والأدلة على ذلك ثابتة.
ومسرح الحادثة كان مضارب بني سعد:
لكأني بأطفالٌ يلعبون، وأمامهم أغنامٌ ترعى في خلاء قريب من خيمة حليمة السعدية مرضعة نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وإذا برجلين يأتيان عليهما ثيابٌ بيض، فيتخيران أوسم الأطفال وأكثرهم وضاءة، إنه طفلٌ يبلغُ من العمر أربع سنوات وبضعة أشهر.
ظل الطفل ينظر إليهما بعينين ملؤهما البراءة وإحسان الظن بكل الناس، فقد كان يتيما يفقد حنان الأب منذ أن اكتحلت عيناه بنور الدنيا، يربت الرجلان على كتف الصبي ثم يرقداه على ظهره؛ ويبدآن في شق صدره على مرأى من رصفائه من الأطفال!
وما إن يرى الأطفال مآل رفيقهم حتى ينطلقوا في أثر أخيه من الرضاعة مذهولين، ويصل أخوه وهو يصيح مذهولا من هول مارأى:
-أمي حليمة، أمي حليمة...
لقد جاء رجلان عليهما ثياب بيض، وقتلا أخي القرشي.
تذهل حليمة، وتنطلق إلى حيث يشير ابنها ومن خلفها زوجها الحارث بن عبدالعزى، فإذا به تجده ممتقع اللون، وما إن رآها حتى أجهش بكاء وارتمى في حضنها، هذا هو المشهد الذي اعتدت رؤيته خلال الكثير من رؤاي المنامية منذ طفولتي.
صلى عليك الله يانبي الهدى ماهبت النسائم وماناحت على الأيك الحمائم.
لقد أجمع أهل السيرة النبوية على أن حادثة شق صدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ارهاصات النبوة، وقد قال جلهم بأن حادثة الشق تدل على تطهيره من حظ الشيطان (عصمة له من الشرور والآثام وعبادة غير الله فلا يحل في قلبه شيء إلا التوحيد)، وبالفعل فإن نبينا لم يقترف إثماً، ولم يسجد لصنم بالرغم من شيوع ذلك في قومه صلى الله عليه وسلم.
الحق أقول إنني لم أجد هذا التفسير والتبرير مقنعا، فحادثة الشق (مادية)، بينما التفسير والتبرير الذي يقوله المفسرون (معنوي)!
لنقرأ سياق القصة كما أوردها مسلم رحمه الله في صحيحه:
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل علية السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه عليه الصلاة السلام فشق قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذه حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره).
انتهى.
لقد ذكر البوطي في سيرته الآتي:
(يبدو أن الحكمة في ذلك اعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتهيّؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية؛ ليكون ذلك أقرب الى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته. إنها إذن عملية تطهير معنوي ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين اسماع الناس وأبصارهم. ان اخراج العلقة منه تطهير للرسول صلى الله عليه وسلم من حالات الصبا العابثة والمستهترة واتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة. كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له وانه ليس للشيطان عليه سبيل).
انتهى قول البوطي.
لكن حديث الشيخ البوطي هذا-أثابه الله- لم يروي ظمأي.
فمنذ أول عهد لي بحادثة شق الصدر، إنداح إلى خاطري تفسير لها مختلف، وذلك بعد أن قرأت وصف نبينا صلوات الله وسلامه عليه لهيئة جبريل عليه السلام عندما رآه، وهو وصفٌ ينبي عن قدرة (خارقة) للرؤية لدى حبيبنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
قالت عائشة رضي الله عنها إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عِظَم خِلْقِه ما بين السماء والأرض".
وذات القدرة على الإبصار وهبها الله للحبيب عند عروجه إلى السموات العُليا، وأبرزها تظهر عند توقف جبريل عليه السلام عند نقطة بعينها (دون سدرة المنتهى) ليقول لنبينا صلوات الله وسلامه عليه بأنه لاقدرة له على التقدم والمواصلة فوق تلك النقطة!...
فيتقدم الحبيب وحيدا، ويرى سدرة المنتهى بأم عينيه الشريفتين، وهي رؤية لاتتأتّى لعيني بشر سوى رسول الله.
سؤالي:
ألا يحتاج كل ذلك تهيئة قَبْليّة (مادية) لنبينا صلى الله عليه وسلم؟!
فقد رأى نبينا صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى ووصفها كما جاء في سورة النجم:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} النجم 17،16.
فالبصر ما زاغ ولا طغى
وماذا إلا لأن الله قد هيأه -من قبل-لذلك!
لعمري إنها التهيئة (المادية) التي مكّنت الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه من رؤية وإدراك، وكذلك (إحتمال) مالا طاقة للبشر على رؤيته وإدراكه واحتماله!.
فالعين البشرية محدودة القدرة على الرؤية مهما كانت حدة الإبصار فيها، والرؤية لاتتم الاّ بعد سقوط الضوء من مصدر ما على جسم ثم ينعكس إلى العين لتتم الرؤية، والضوء في ذاته هو عبارة عن أمواج الكترومغناطيسية قوامها الإليكترونيات الخارجية التي تدول حول أنوية الذرات، وتسير هذه الأمواج في مجالات مختلفة من الأطوال الموجية المقاسة بوحدة تسمى (النانو ميتر nm)،
والضوء -الذي خلق لنا الله القدرة على رؤيته- ينحصر في طول موجي (من 380 الى 780 نانوميتر)، وتنتهي قدرتنا كبشر على الإبصار في المدى الأطول أو الأقصر من الطول الموجي المذكور أعلاه.
وفي حالة زيادة الطول الموجي عن ذلك يتحول الضوء من (مرئي) الى أشعة تحت حمراء (غير مرئية)، ثم إلى أشعة ميكروويف، ثم الى أشعة رايوويف، وهي ذات طول موجي يزيد عن 3 سنتمتر.
وفي حالة انقاصنا للطول الموجي، تنعدم -ايضا- قدرتنا على الابصار، حيث يتحول الضوء من مرئي الى أشعة فوق بنفسجية قريبة وبعيدة (غير مرئية)، ثم أشعة سينية، وأخيرا أشعة جاما بمجال طول موجة يقل عن 0.01 نانوميتر، وتكون طبيعة الأنتقالات المحددة في المادة في الأشعة فوق البنفسجية القريبة والبعيدة هي ذات الالكترونات الخارجية لذرة أو جزئ المادة كما هو في الطيف المرئي، ولكن بمجالات طاقة تختلف عن الضوء المرئي.
ثم تكون الأنتقالات في حالة الأشعة السينية من الإلكترونيات الداخلية لذرة المادة، وأخيرا في حالة أشعة جاما تتحول الأنتقالات الى انتقالات نووية.
وبذلك فإن العين البشرية ترى في حدود طول موجي محدد للضوء وهو (من 380 الى 780 نانوميتر) ...
وقد أصطلح على تسمية هذه المساحة من الضوء ب(الضوء المرئي) ، ويعني ذلك أن العين البشرية لا يمكنها الرؤية فيما عدا هذا الطول الموجي برغم وجود الضوء!
فالضوء -دون وفوق- ذاك الطول الموجي المذكور يكون (موجودا)، ولكنه في صور أخرى كما أوضحت في المداخلة السابقة.
فهل خلق الله عينا لمخلوق آخر تستطيع الرؤية خلال طول موجي أعلى أو أقل عن المدى المذكور أعلاه؟
نعم هناك أعين أخرى.
فقد ثبت علميا بأن (النحلة) تحتمل أشعة ذات طول موجي يتراوح مابين( 10 الى 200 نانوميتر ) وهي الاشعة المسماة ب(الأشعة فوق البنفسجية البعيدة) للرؤية، والمعلوم أن الطول الموجي للضوء كلما كان أقصر، فإن الرؤيا تتم بشكل اسرع مما هو في حالة الضوء المرئي!
وبذلك فان النحلة تستطيع أن ترى الاشياء بدقة أكثر وبسرعة أكبر من الأنسان!
ولعل الحكمة الإلهية من ذلك أن المساحات التي تطير فيها النحلة أصغر أبعادا وأكثف موجودات، فهناك تشكيلات الزهور العديدة وأجزاء النباتات الأخرى، وهي تحتاج إلى سرعة الرؤية وتحديد الإتجاه أثناء طيرانها في تلك الأمكنة الضيقة.
وبذلك فإن النحلة إن عرض لها مقطع متحرك (فيديو)، فإنها تستطيع مشاهدة كل لقطات الصور المتحركة كصور ثابتة!، وللعلم فإن صور الفيديو المتحركة هذه ليست سوى صور ثابتة لكنها متتالية، ونراها نحن صورا متحركة نسبة لطول الموجة التي نرى من خلالها نحن كبشر، بينما تستطيع النحلة رؤية تلك الصور (صورة صورة) وذلك لقدرتها على النظر من خلال طول موجي مختلف عنا.
فالصور التي تنقل إلى العين الرائية ان كانت في مدى موجي أقصر -كما في حالة الأشعة فوق البنفسجية (كمثال النحلة)- يكون فيها زخم كبير من التفاصيل، بحيث تحتاج إلى عمليات حسابية ضخمة في المخ، كي تتمكن العين من رؤيتها وتمييزها، وقد وجد العلماء بأن النحلة تقوم بمليون مليون - أي مليار- عملية حسابية في الثانية الواحدة كي تتمكن من معرفة كنه (لقطة) نظر واحدة!!
وهناك أيضا دراسات قامت بها شركة كوداك على عين الديك، فوجدوا بأن الطول الموجي للشعاع الضوئي الذي يمكن بعين الديك استقباله والتعامل معه هو مابين (200 الى 380 نانوميتر)، وهي الأشعة الفوق بنفسجية (القريبة) إلى الضوء المرئي، ويعني ذلك أن الديك يرى أسرع من الأنسان، وأبطأ من النحلة.
وقد ورد في مجلة (باييت مقازين) عدد 1992أكتوبر، بأنه قد أجريت دراسات عديدة على عين الحمار، فوجدوا في تقنية الإبصار لديه قدرة على إستقبال والتعامل مع الأطوال الموجية الأطول التي تنحصر مابين (0.780 و400 أنجشتروم)، وهو المدى الموجي الذي يميز الاشعة تحت الحمراء، حيث تكون الانتقالات اهتزازية ودورانية في المادة.
ويعني ذلك أن الحمار بطئ جدا في القدرة على رؤية الأشياء دون الأنسان، لكنه يمكنه كذلك الرؤية في الظلام الدامس!.
يقول الله جل وعلا في محكم تنزيله:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} التين 4.
قد يقول قائل؛ لأن كان الأمر كذلك لماذا لم يخلق الله العين البشرية قادرة على الرؤية من خلال كامل الضوء (مرئيّهِ وغير مَرئيّهِ)؟!.
ولماذا تتفوق عين النحلة عين الديك على العين البشرية؟!
للإجابة على هذه الأسئلة اقول:
المعلوم أن تمام الأمر وجودة الشئ لا يرتبط بالفوت في صفة أو مَلكة ما؛ بقدر ارتباطه بتناسق كامل المَلَكات أوالصفات،
فال (خفّاش) كمثال يستطيع السمع في درجة التي دون درجة الصوت المسموع!
فالصوت أيضا حاله كحال الضوء له مجالات (فوق) و (أسفل) المدى الصوتي الذي تسمعه الأذن البشرية.
لنتخيل أن الله قد جعل للأذن البشرية القدرة على سماع الأصوات الأدني، فكيف يكون حال الانسان إن أعطاه الله القدرة على السمع مثل الخفاش؟.
بالقطع لن يستطيع أحد منّا النوم ولا الراحة بسبب الضجيج العجيب وغير المحتمل الذي ستلتقطه أذنه!
ولأن قدر الله لنا بأن يتسع مجال الرؤية لدينا لنرى من خلال الأشعة فوق البنفسجية أو تحت الحمراء، تخيلوا كم وكثافة الصور وحراك الأشياء أمام أعيننا ونحن نصوب إلى واقع محدود يتصل بأكلنا وشربنا وسياقات حياتنا المعلومة!...
الا يعدُّ ذلك (طفرة) لن تفيد الأنسان بقدر ما تضره؟! ...
فالانسان يحتاج الى مجال رؤية، ومجال ذوق، ومجال سمع، ومجال شم، ومجال حس، ومجال تفكير، يتناسب مع الذي بين يديه مما يتصل ويفيد الحياة، فالكلٌّ ميسّرٌ ِلما خُلِق له في خلقه وقدراته.
كما أسلفت لقد أجمع علماء التفسير على أن الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم رأى عيانا جبريل عليه السلام مرّتان، وأنه أيضا راى عيانا سدرة المنتهى.
ففي الحديث الثابت في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت في تفسير الآيتين:
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} التكوير23، ثم الآية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} النجم 13 قالت رضي الله عنها:
أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض.
وقد حدثت الرؤية الأولى من بعد بدئ الوحي عندما كان يعتكف في أجياد، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في رواية أخرى بأنه له ستمائة جناح، وكان من الضخامة بحيث أنه قد سد كامل خط الافق بجسمه !!...
والرؤية الثانية لجبريل عليه السلام -على هيئته الأصلية- كان عند سدرة المنتهى، عندما عُرِجَ به صلى الله عليه وسلم الى السماء!...
ثم أجمع العلماء ايضا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى عيانا سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى...
وقد ورد في وصف جبريل عليه السلام وفي وصف سدرة المنتهى أوصافا يتأكد من خلالها عجز العين البشرية بتفاصيلها التشريحية الحالية عن أستيعاب كامل صورتي جبريل عليه السلام -على هيئته الحقيقية- وصورة سدرة المنتهى ...
الخلاصة:
أقول والله أعلم بأن الله قد أعطى لعيني رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعقله قدرات اضافية؛ بحيث أمكن لعينيه الشريفتين أن تستقبلا (كامل) الطول الموجي المميز للأشعة فوق البنفسجية بعيدها وقريبها، وقدر الله كذلك لعقله صلى الله عليه وسلم بأن يتعامل مع سرعة ذلك الطول الموجي القصير جدا احاطة بكل التفاصيل بتوفيق الله، ولنا هنا أن نتوقف بين يدي الآية الكريمة {مازاغ البصر وما طغى} مستصحبين حادثة حادثة شق صدر رسولنا صلى الله عليه وسلم في صباه عندما كان يرعى الغنم في ديار بني سعد وفي الخاطر والبال مانقلته لنا السنة المطهرة والسيرة المشرفة عن الكثير من التمييز الرباني لرسولنا عن باقي البشر في القدرات والحواس، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق خِلْقَةً وخُلُقا.
والله قد قرن البصر والعقل بالقلب - وإن كان المعنى هنا مجازيا- حيث قال جل في علاه:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} الحج 46.
صلى عليك الله يانبي الهدى ماهبت النسائم وماناحت على الأيك الحمائم.
adilassoom@gmail.com
مواكب الأحزان في سيرة سيد الأكوان، الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم
عادل عسوم
(1)
مولده صلوات الله وسلامه عليه يتيم الأب
صلى عليك الله ياعلم الهدى ما هبّت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم
الأحزان دوما تجلو القلوب وتسكب على النفس رقة تزيل بها كل قسوة وجفاء...
وتّرهف المشاعر لتسمو بها وتستعلي عن الشنآن...
وتصهر النفوس فتخلصها من أدران القسوة والكِبر والغرور وتجعلها أكثر تواضعا...
كم من مواكب أحزان اكتنفت حياتك ياحبيبي يارسول الله!
كم من محنٍ أرخت بسدولها عليك -بأبي أنت وأمي-كالليل البهيم!
كم من ظلامات لبشر تلقيتها بابتسامة وضيئة فما دعوت لهم الاّ بخير!
وصدق حسان ابن ثابت حين قال:
وأحسن منك لم تر قطُّ عيني
وأجمل منك لم تلد النساء
خُلقت مبرءا من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
وقفتي الأولى كانت ولم تزل أمام (موكب حزن) يُتمِهِ صلوات الله وسلامه عليه وهو في بطن أمه!...
فقد ظللت ولم أفتأ أسائل نفسي ما الحكمة في أن يولد المصطفى فاقدا لحنان الأب وصحبته؟!
وتساؤلي ذاك ليس من باب التحرج من قضاء لله لا والله...
فالله يأمرنا بأن لايكون في أنفسنا حرج من قضاء له...
وقضاء الله كله خير (وان بدا لنا ظاهره بغير ذلك أحيانا)!
اذا لماذا يُحرم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم من نعمة التمتع بحنان الأبوة؟!
لا أخفيكم بأنني قد قرأت عن ذلك في سيرة ابن هشام فلم يشف غليلي ولم أجد لدى الذهبي أو ابن كثير مايجيب على تساؤلي ثم عرّجت الى كتابات الغزالي الصغير والبوطي والغضبان والسباعي والصلاّتي ثم المباركفوري في الرحيق المختوم فلم أجد ضالتي لديهم جميعا...
ولكن...
قدّر لي أن أتلّمس خلال استماعي الى الراحل الشعرواي -في أحدى حلقات برنامجه الذاخر ذاك- (خيطا) أفضى بي الى رؤيتي هذه:
الأب -دوما-هو المشكّلُ لوجدان ابنه (فكريا) و(ثقافيا) و(دينيا)...
وذاك أمر تسنده الكثير من الأحاديث الشريفة والأقوال والأمثال:
1-حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء).
2-بيت الشعر القائل:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه
3-المقولة:
من شابه أباه فما ظلم.
تلك أمثلة وهناك الكثير والعديد من الأقوال والأمثال الأخرى التي تشي بذلك...
فلنأتِ الى الذي بين يدينا:
عندما تزوج عبدالله بن عبدالمطلب -والد نبينا-من آمنة بنت وهب-والدة نبينا-ما كان الاسلام قد تنزل بعد...
أي أن الوالدان كانا على دين آبائهما من أهل قريش...
فان ولد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في كنف أبيه عبدالله لتأثر بالكثير من (رواسب) الفكر والثقافة والدين التي كانت تسود مجتمع قريش من خلال حراك حنان ورفقة أبيه (ان كان قد عاش)!...
لكن قد يقول قائل ان نبينا يمكنه أن يتأثر أيضا ببقية أهله ومجتمعه بذات الفكر والثقافة والدين؟!
لكن يكون الرد:
ان أمر الأخذ من الأب لا يقارن البتّة بنظيره أخذا من بقية الأهل والمجتمع!.
أمر آخر...
لقد قدر الله -وقدر الله كله خير- بأن لايعيش المصطفى عليه صلوات الله وسلامه -أيضا-في كنف أمه!
فقد عاش جل فترة رضاعته وطفولته الى أن أصبح شابا يرعى الغنم في مضارب بني سعد لدى مرضعته حليمة السعدية...
والبادية -دوما-تكون أقرب الى الفطرة منها عن الحواضر...
وقد قدّر الله بأن تتأبّى حليمة -التي وجدت من رضيعها ذاك الكثير من البركات-من أن تعيده الى أمه آمنة التي حاولت مرارا اعادته اليها لتقنعها حليمة بأفضلية نشأة الصبي لديها في مضارب بني سعد حرصا على صحته وعافيته فما يكون من آمنة الاّ أن تستجيب لحليمة!.
خيط (شيخنا الشعراوي) رحمه الله الذي ذكرت سابقا كان في سياق خواطره خلال تفسيره لآية سورة العنكبوت:
( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ).
قال الشعراوي رحمه الله:
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا باسم الله سبحانه وتعالى ـ ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التي أرادها الله تبارك وتعالى ـ وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون.. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية.
ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن.. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: { ٱقْرَأْ }.واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان.. إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه.. وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه.. وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.
نقول إن الله تبارك وتعالى.. كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة.. لأن كل البشر يعلمهم بشر.. ولكن محمد صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر.. يأخذون عنه العلم والمعرفة...
لعل شيخنا الشعراوي يقول بأن (أمية) نبينا صلوات الله وسلامه عليه تشي بصحيفة بيضاء ووجدان لم تسوّد نقاء فطرته (أخلاط) لأفكار وثقافات تتخللها الاعتقادات الوثنية وكتابات أحبار ورهبان اليهودية والنصرانية المحرفة حينذاك!...
ذاك الذي ساقني سوقا الى تلمس بصمات (كان) يمكن أن تبين على وجدانه ان قُدّر له صلى الله عليه وسلم صحبة لوالده الراحل عبدالله بن عبدالمطلب ...نتاج التفاعل الوجداني لطفل مع ابيه...
اذا لقد كان قدر الله أن يبقى وجدان نبينا -منذ ميلاده- نقيا لينشأ على عين الله ورعايته.
صلى عليك الله يانبي الهدى ماهبت النسائم وماناحت على الأيك الحمائم
(2)
وفاة أمه آمنة بنت وهب وهو ابن ست سنوات.
ياااااه...
يالموكب الحزن هذا!!!
كم هو مهيب!
لقد كان عمره ست سنوات!
نعم ست سنوات!!
غضُّ الاهاب...
يتيم أب...
جاء يستشرف حنان أمٍّ عساه يعوضه فقد أب وقساوة حياة بادية أمضى فيها سنيّه الست...
ضمته أمه آمنة بنت وهب الى صدرها بحرارة شوق كل تلك السنوات...
نظرت الى عينيه المفعمتين رقة وحزنا وقالت:
بأبي أنت وأمي يافلذة كبدي يامحمد...
ما كان لي أن أفارقك وقد رحل عنا أباك عبدالله من قبل أن تكتحل عيناك بنور الدنيا...
قالت ذلك ودست أنفها في شعره تستروح ريح زوجها الراحل...
زوجها الذي لم تعش معه سوى (عشرة ايام) لم تزد ولم تنقص!
لكنها كانت تكفي لأن يبقى حبه يملأ قلبها بحيث لا يدع لحب رجل آخر ولوجا اليه!!
فبقيت آمنة مخلصة لحب عبدالله الذي رحل عن الدنيا...
هاجت أشجانها ومحمد بين ذراعيها ووجه أبيه يحوّم حولهما في فضاء الغرفة في دوائر ملونة كفقاعات الصابون يلهو بها طفل برئ...
ورحلت بخيالها الى البعيييييد...
يومها كانت فتاة يتمناها كل شاب في قريش له زوجة...
وعبدالله كان أوسمهم وأجلّهم حسبا وأكثرهم فراسة...
كيف لا وهو الذي افتُدي من الذبح بحُمُر النعم!
كم سعدن آمنة عندما جاءها أباها (وهب) يزف اليها طلب يدها من عبدالمطلب لتكون زوجا لابنه عبدالله...
وسعادة آمنة كان مردها عشم ومنى العديد من فتيات مكة بأن يتقدم عبدالله الى واحدة منهن...
وفي مقدمة أولئك شقيقة ورقة بن نوفل التي خطبتها -بنفسها-يوما اليها فتأبّى عليها!!
وعندما مازحها عبدالله صباح يوم زواجه من آمنة قائلا ألم تكوني يابنت نوفل تودّين زواجي يوما قالت:
" فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة" .
ذاك النور الذي شعّ من آمنة عندما احتملت محمدا في بطنها فرأت على أثره قصور كسرى من أرض الشام!
انه نورٌ لم تفتأ ظلاله تغمرها الى يومها لتعيش زاهدة -من بعد رحيل صاحبه-ا في كل رجال الدنيا!
وهاهي يعوضها الله -بلُجّة منه- طفل تفوق وسامته وسامة أبيه...
اذ قد ورث عنه ذات العينين الدعجاوين...
وذات الشعر الذي يضرب على منكبيه...
اذ قد ورث منه ذات العينين الدعجاوين...
وذات الشعر الذي يضرب بين منكبيه...
وذات الوجه المستدير الأبيض المشرب بحمرة...
أجهشت آمنة بكاء فتساقطت دموعها على وجه فلذة كبدها وأضحت تلوم نفسها وتقول:
وما كان عليّ أن أدعك تعيش قساوة حياة البادية ياحبيبي يامحمد...
لقد كان عليّ أن أبقيك معي -ولا أركن الى تقاليد قريش-كي أعوضك بحناني عن حنان ابيك الذي لم تره يافؤادي...
نظر اليها الحبيب بعينين محبتين وهو بين ذراعيها وقال:
لا عليك يا أماه...
انه قدر الله ...وقدره كله خير ياأماه...
البادية قد وهبتني الكثير الذي يزين رجولتي عندما أشبُّ ياأماه...
هاهم الناس لا يصدقون بأنني ابن ست واني لكذلك...
وها أنا اقارع من هم لهم فوت علي عمرا وعلما فافوقهم لغة ومنطقا وحجة...
وهاأنا بحمد الله صحيحا معافا لا تعضلني سقام مكة كغيري ممّن نشأ فيها...
ضمته -أكثر- الى صدرها وراحت تمطر وجهه الشريف بقبلاتها...
اذ ما أمتع حين يتلمس الوالدان نجابةَ في ولد لهما...
وقد صدق الشاعر حين قال:
نعم الاله على العبادة كثيرة وأجلهن نجابة الأبناء
ما كان من آمنة الاّ أن شخصت ببصرها الى السماء وناجت ربها قائلة:
الهي لك الحمد بأن حفظت وليدي وكلأته بعينك التي لاتنام...
أحمدك يارب السموات والأرض بأن أعطيته نواصي الكلم وملأته حكمة وبرّ...
يارب انّي اشهدك بأني عليه راضية ...فارض عنه ياقيوم السموات والأرض...
فما كان من محمد الاّ أن وضع يديه الصغيرين على خدّي أمه وقبلها على جبينها...
فأعادت ضمه الى صدرها ليغفيا بقية ليلتهما تلك...
فآمنة كانت قد عقدت النية بأن تذهب به لزيارة قبر ابيه ومن ثم لتقضي معه زمانا لدى أخوال ابيه المقيمين في يثرب...
ووضع الحبيب رأسه في حضن أمه آمنة لينام...
ياااااه...
يالجمال الدنيا في أحضان الوالدين...
أحس بدفئ أنفاس أمه بين بصيلات شعر رأسه...
كانت يداها تتشبثان به -في حنان بالغ- ولكأنها تود استعاضة كل سني البعاد...
مال برأسه قليلا الى الخلف ليتمكن من رؤية وجهها الرؤوم ...
فما كان منها الاّ أن ازدادت به تشبثا وهي نائمة!
لعلها كانت تحس بقرب دنو أجلها ياأحباب...
وشقشقت عصفورة مؤذنة بطلوع الفجر...
فانتفض الصبي محمد وانسل برفق من تحت الغطاء...
فهو لم يعتد -في بادية بني سعد-نوما من بعد طلوع الفجر...
جلس محمد يسترجع رؤية رآها خلال نومه...
نظر الى وجه أمه وهي نائمة فتحدرت من عينيه دمعتان...
فالرؤية التي رآها تقول بأن أمه في طريقها الى مبارحة الدنيا خلال ايام!
اذ هو صلوات الله وسلامه عليه قد اعتاد بأن لايرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصباح...
خرج محمد الى ساحة الدار وجلس يبكي ماشاء له الله من بكاء...
فهو اليتيم الذي لم ير اباه...
وعندما قدّر له بأن يلتئم شمله بأمه هاهي تستعد للرحيل الى حيث رحل ابيه...
فداك ابي وأمي ونفسي يارسول الله...
هاأنت تقاسي كل ذلك ولم يتجاوز عمرك من السنوات ستّا!
مسح محمد دموعه بكم قميصه وغسل وجهه ثم انتحى جانبا قصيا من الدار وجلس يناجي ربه...
رباه...
يا قيوم السموات والأرض...
يامن خلقتني من العدم...
ثم نفخت فيّ من روحك العليّة...
وكلأتني بعينك التي لاتنام في بادية بني سعد...
أدعوك باسمائك الحسنى...
وصفاتك العُلى...
أن تلطف بأمي يالطيف...
وتصحو أمه آمنة فيسمع صوتها وهي تناديه:
-يامحمد يامحمد أين أنت يافلذة كبدي...
-أنا هنا ياأماه...
فتأتيه وتحس -باحساس الأمومة- بما يكتنفه من حزن!
-قل لي يابني ماذا يحزنك فاني والحق لا أحتمل أن اراك حزينا...
فينظر في وجهها ويوشك أن يعلمها بحلمه الذي رآه...
لكنه يؤثر السكوت اذ قد وقر في قلبه بأن الأولى بالرؤيا -ان كانت محزنة- أن لايخبر بها أحدا...
فيقول لأمه:
-لا عليك ياأماه ...مابي الاّ الشوق اليك
فتضمّه اليها وتقول:
-وكيف لأم مثلي ليس لها في الدنيا سواك ياحبيبي...
لقد أعددت الراحلة لنذهب سويا ونزور قبر ابيك عبدالله ثم أأخذك الى أخوالك هناك في يثرب اذ هم في شوق شديد لرؤياك يامحمد...
فيهز الحبيب رأسه بحزن وينطلق الى حيث الراحلة...
اذ هو (يوقن) بأنها الصحبة الأولى والأخيرة مع أمه!...
يصل الحبيب وأمه الى حيث قبر والده عبدالله...
فتجثو آمنة على ركبتيها تبلل حافة القبر بدموعها وتخاطب صاحبه قائلة:
ياابامحمد...
ها هو أبننا قد شبّ واضحى قرة عين لي ياعبدالله...
ليتك كنت بيننا لتملأ عينيك من جمال سمته وطبعه...
انه يحمل عنك الكثير ياعبدالله...
ذات عينيك ...
وذات شعرك ...
وذات قوامك...
وذات ابتسامتك...
وهو فوق ذاك قد أوتي جوامع الكلم ياعبدالله...
كم اشتاقك ياعبدالله ياابامحمد...
لقد عاهدت نفسي بأن لا أتبعّل لرجل من بعدك الى أن التقيك هناك في السماء ياعبدالله...
دمعت عينا محمد وهو يستمع الى بوح أمه ومناجاتها لأبيه...
فاحتضنها وقبّلها على جبينها وقال:
-لا تقسي على نفسك ياأماه...
تعالي ندعو لابي سويا...
ثم شرع يدعو ومن خلفه أمه آمنة تقول:
آمين...
آمين...
آمين...
فرغ الحبيب وأمه من دعائهما للراحل عبدالله ثم أناخا بعيرهما وانطلقا صوب يثرب...
وبقي محمدٌ يرمق أمه من طرف خفي ويحدّث نفسه:
كم أنت عظيمة ياأماه...
ما أنقى وأنبل الحب الذي يكتنف فؤادك تجاه ابي ياأيتها الطاهرة!
لان كانت اياما معدودة عاشها أبي معك تذكي مثل هذا الحب الكبير ...فكيف ان كان قد عاش معك السنوات الطوال؟!
ورفع وجهه الى السماء يناجي ربه:
ربّاه لك الحمد والشكر بأن جعلتني أبنا لهذه الأم النبيلة
رباه أكلأها بعينك التي لاتنام انك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه.
ختم محمد دعاؤه بذلك عندما أحس برغبة ملحّة في أن يدعو ربه بأن يطيل في عمر أمه...
اذ هو موقن برؤياه التي رآها في المنام بأن أمه قد أزف موعد رحيلها الى الله...
لكنه الأدب مع الله!
فالرؤيا المنامية لديه أيذان من الله بقدر واقع لامحالة...
وهو وان كان يوقن بأن الدعاء يردُّ القدر الاّ ان أدبه مع ربه يحول بينه وبين الدعاء بأن يسأل الله ردّ ذاك القضاء!!!
وهكذا استعلاء النفوس المخبتة الى ربها...
لان كان حبه لأمه آمنة هو (كل) ما يملكه في الدنيا من حب...الاّ أن حبُّ الله أسبق الى وجدانه من كل حب عداه...
وتبقى أنظار (الطفل) محمد معلقة بأمه يحصي عليها كل حراكها وسكناتها عساه يري ويشبع دواخله من فيض أنوارها اذ يعلم يقينا بقرب أفول نجمها عن حياته...
ويصل الركب الى يثرب ...
كانت المرة الأولى التي يرى فيها الحبيب أخواله...
والأخوال -دوما- أرق قلوبا وأذخر حنانا!
لقد تعهدوه بكل الحنان وافاضوا عليه من المحبة الكثير...
وتمنى أن لو عاش بقية عمره هناك...
لكن شئ (ما) يشده الى مكة.,.
قلبه يقول له بأن الله يدّخر له شيئا عظيما هناك...
وتصاب أمه بحمى يثرب وتبدأ صحتها تعتل يوما بعد يوم...
فلا يملك أخواله الاّ أن يستعجلوها الرحيل الى مكة...
وتتحرك القافلة وفيها اثنان من الأخوال وآمنة وبصحبتها الحبيب...
ويقول أحد أخويها:
لعلك ياآمنة تتعافين عندما نبارح يثرب وتتنسمين هواء مكة الجاف...
ولكن تسوء حال آمنة كلما تقدمت القافلة...
وعند وصولهم الى بقعة بين يثرب ومكة تسمى الأبواء طلبت منهم آمنة بأن ينيخو ناقتها لترتاح قليلا...
وهنا تسد عبرة حلق محمد...
فهو قد ايقن بأنها لحظات الفراق...
أنزلها أخواها وهادوها بينهم الى ظل شجرة لترتاح قليلا...
اسندت ظهرها الى جذع الشجرة ونادت اليها فلذة كبدها محمد...
جاءها الحبيب فاحتضنته واذا بدموعها تبلل جبينه ووجنتيه...
كان جسدها يصطلي بحرارة الحمى...
ولكنه بدأ يبرد رويدا رويدا...
وبقيت تقبل محمدا في وجهه وكتفه ويديه وهو يقبلها...
ورفعت رأسها الى أخويها وقالت:
أوصلوا محمدا الى جده عبدالمطلب فهو ارأف الناس به...
ودمعت عينا الحبيب وهو يرى مدى حرصها عليه وهي في ساعة نزعها تلك...
وظل خالاه يهدآن من روعها ويقولون ...ستصلين باذن الرب سالمة معافاة الى مكة ياآمنة...
فتقول آمنة:
-لا ياأخواي...اني اراني أتخفف من دنياي!
ويعلو صدرها ويهبط ...وهي تغالب أنفاسها...
ويسند الحبيب راسها بيديه الصغيرتين عساه يخفف عنها ...
وتبقى نظراتها الريانة شفقة وحنانا تتخلل وجه محمد الى أن اسلمت ربها الروح...
فأغمض الحبيب عينيها بيديه وقال لخاليه :
-أنها قد رحلت الى السماء ياأخوالي...
فيحتضنه أحدهما وهو يقول من بين دموعه:
-بورك فيك ياابن أختي...انك رجل في أهاب طفل ورب الكعبة...
ثم يطبطب على كتفه ويواصل...
انها ارادة الخالق يابني...
فيجيبه محمد بايماءة من رأسه بأن نعم...
لكن... أحتبست الدموع في عينيه!...
وكيف لا...
اذ حزنه عليها كبيييييير الى مالانهاية...
ولولا أن مهدت له رؤيته المنامية -تلك-لهذا الموقف لأثرت في نفسه ايما أيما تاثير...
اذ هو الطفل الذي لم يتعدى عمره السادسة!
ورؤية قريب حبيب يفارق الدنيا أمام ناظري طفل في مثل عمره ...كم هي مؤلمة!
فكيف ان كان ذاك الحبيب ...أمّا له؟!!!
(للمقال بقية)
adilassoom@gmail.com