كانت الخرطوم حينها خرطوما..
وكانت السماء هناك صافية والناس يتراحمون تحتها عند خاصرة النيل..
وكانت الحواري تغوص في محبتها ومتعتها دون خوف أو وجل..
كان يوم الخميس حينها باعثا للبهجة والسرور..
كانت «أركان» الحي مرتعا للتلاقي والبهجة بين شباب الحي..
كان لـ«المغربية» نكهتها الخاصة..
رائحة «المقنن» و«اللقيمات» و«الطعمية» كان لها وقع خاص جدا..
حتى المتزوجون كانوا يشعرون بسرور غامر ما أن تتلوى أدخنة «الطلح» كثعابين تتسلق السماء..
كانت الأحلام في المتناول ومطالب الناس لا تتعدى ستر الحال وابتسامة تعلو الوجوه..
كنا نلتقي هناك بإلفة ومحبة كبيرين..
«يا شباب (الأيام) كاتبة عن البلو نايل الليلة فيها فيلم سمح.. أها الشورة شنو» يقول إبراهيم..
«والله مكاوي لو قدر يجيب بوكسي ابوهو بتكون نايمة نوم وحق العشا بنباصرو» يرد السر كاوندة..
«وبعد السينما الدافوري في حدايق مايو وكدة الخميس بيكون ظااااااااابط صاح» يأتي صوت إيهاب «بهلة»..
«أنا بجيكم للدافوري طوالي لأنه شغال ليل» يقول عبد الوهاب هجو..
«انا معاي 150 قرش» يرد قدورة وهو «يدردم سفته»..
«خلاص إبراهيم لم الكنجالات وانا بباصر البوكسي ويا بهلة شيل معاك الكورة
وجيبوا لبس الدافوري في كيس عشان بعد السينما نمشي ندفر صاح» يرد مكاوي..
«من هسي العشاء عند ست الفول بتاعة الديم ولا انا ما ماشي» يقول السني..
«يا شباب كدة حق السينما والعشاء ظابط»...
ما أن نتخطى شارع «القيادة» حتى يرسل إلينا النيل الأزرق بعضا من نسائمه..
عند مرورنا بشارع الجامعة تتراءى لنا كشافات «الميدان الشرقي» معلنة عن مباراة قوية قد تكون بين هندسة وعلوم..
فصيحات وتشجيعات «جكس علوم:
علوووووووووووم» تبدو أكثر وضوحا من مشجعي الفريق المنافس..
قبل أن يتوقف مكاوي بشكل تام نكون قد قفزنا من البوكسي في اتجاه شباك التذاكر
ونحن نموت ضحكا من قفشات كاوندة على «الجكس النضيف» الذي أتى لينعم بفرجة ممتعة لفيلم «lying moon»..
حين نتخذ أماكننا قبل إطفاء الأنوار تبدو السينما كـ«بازار» كبير تعلو وتخفت فيه أصوات الناس بين القهقهة والهمهمات للمحبين..
فقط حين يحل الظلام لا صوت يعلو فوق صوت «ماكينة الأفلام» وبعض أصوات «ناس البركس»
الذين يتخذون من الأشجار وسطوح الداخليات مكانا لمتابعة «lying moon»
وحين تأخذهم «النشوة» من قُبلة للبطل والبطلة تجدهم يصيحون بصوت واحد: عِلووووووووووووووووووووووووووم..
وحينها فقط يتذمر «أصحاب اللوج» من هكذا صراخ وفي جهة «الشعب» يعم الضحك..
ما بين التذمر والضحك فقط طابق علوي.. وكلُ يستمتع على طريقته..
إلى أن تحين الاستراحة حيث يذهب «ناس اللوج» إلى بوفيه السينما حيث «البارد والسندوتشات»..
ونغوص نحن في كراسينا مع «قراطيس التسالى» وقفشات «ناس البركس»..
الكل كان يستمتع بلون الحياة التي وهبها لنا الخالق..
حين ينتهي الفيلم نذهب نحن إلى «دافوري حدائق مايو» ومنه إلى حاجة «محاسن الديامية» حيث الفول والكوارع..
ويذهب «ناس اللوج» إلى «أتني» وبقية المطاعمة الفاخرة..
لم يكن هناك مشروعا حضاريا يدمر حياتنا..
ولم نكن ننظر لـ«أصحاب اللوج» بنوع من الحقد..
ما دام التعليم مجانا والصحة في المتناول كان الفيصل بيننا «مقاعد الدراسة»
وبمحبة كبيرة ودون وجل من قادم الأيام..
ليت عجلة الزمان تعود إلى سابق عهدها..
حقيقة « لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟»