"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً"
انتابني شعور لا أجد له وصفاً إلا وصف الكاتب جيمس بالدوين لحالة في رائعته "أحزان سوني" "Sonny's Blues" منذ أن تلقيت خبر وفاه جدتي العزيزة الحرم بت محمد نور.
يفتتح الكاتب قصته واصفاً حالة بعد أن تلقى خبراً مفجعاً عن أخيه أن الخبر إستقر في احشائه كقالب ثلج كبير ظل يذوب رويداً رويدا لكنه لا ينقص و مع كل قطرة تذوب كانت الفاجعة تتجلى أكثر وضوحاً، و هو التشبيه الذي إستعارة الاستاذ الطيب صالح في موسم الهجرة للشمال لوصف حالة عندما عاد للبلاد.
---
تربطني بهذه المرأه الجميلة علاقة خاصة جداً، تقريباً أكثر مشهد اختزنه عقلي من السنين الخمسه الأولى في طفولتي في إحدى قرى الجزيرة هو ترددي الدائم على حبوبتي الحرم في منتصف النهار وقت عواسة الكسرة لأطلب منها أن تصنع لي "العطينة" و هي عبارة عن كسرة بي موية سكر كان لي معها غرام و إنقضى, كانت لا تطيب لي إلا من يديها الكرمتيين و ربما تكون هي أول من صنعها لي، و كانت العطينة سبب علاقه حب خاصة لي جداً مع هذه المرأه الفاضلة التي كانت تبر جميع الأطفال رحمها الله و لا زالت تتندر بقصة العطينة حتى آخير لحظات حياتها.
الحرم بت محمد نور هي جدتي زوجة جدي مهدي العشا الثانية "بعد والده أمي"، و هي في الأصل من منطقة العيلفون بنت خال الفنان الكبير مبارك حسن بركات. كل من عرف المرحومة يشهد لها دون أدنى تردد أنها إمرأة "رضية" "و في حالها" و "كريمة جداً" "و "صبورة"، فيها طيبة بائنة حتى في ملامح وجهها، لا يرها شخص إلا و هي باشة مبتسمة تتحدث بهدوء و ما ذكر اسمها في مجلس إلا و شهد لها الحضور بالفضل والطيبة و حسن المعشر و لم نسمع يوماً أنها اختلفت مع مخلوق أو ورد اسمها في خلاف.
---
جددتي "رحمة بت الشيخ الطيب" والده أمي، أطال الله في عمرها معروفة في منطقتنا والمناطق المجاورة بأنها أمرأة صعبة جداً يهابها الرجال قبل النساء فاطلقوا عليها لقب "الخواجة" إشارة لأنها دغرية "صعبة" و لعلها ورثت جينات"الصعوبة" هذه من جدها شكر الله, ناظر الخرطوم الذي قتل الضابط الانجليزي الذي حاول التطاول عليه، آثر عدم الهروب حتى لا تحل بأهله حاقة، جاؤوا أخذوه و حكم عليه بالاعدام شنقاً و كتبت فيه الأغنية الشهيرة "حِقو لي قولي، ولدن غيرك انت ما بيهز فوقي، نسيبة البجري" و أغاني أخرى، على الرغم من صعوبة جدتتي رحمة كنا كل ما نسألها ممازحين عن شعورها عندما تزوج جدي "فوقه" تسارع لقول شئ من قبيل "الحرم دي لكن مره رضية و ما بتغلت على زول" "الحرم مرة مبروكة"، و فعلاً امتدت اواصر الاخاء والحب بينهم و ربت كل منهما أبناء الأخرى و لم يحدث أن اختلفتا على أمر يوماً من الأيام، على الرغم من أن حبوبتي رحمة دي على "صعوبيتة" مزاجية و عندما يتعكر مزاجها لا يسلم منها أحد، إلا أختها الحرم بت محمد نور.
---
انتقلت الحرم بت محمد نور إلا رحمة ربها قبل ساعات من كتابة هذا المقال بسب سرطان خبيث لم يمهلها كثيراً. عندما وصلت والدتي من السفر قبل يومين سارعت بالسؤال عن حبوبتي الحرم، فقالت لي أنها قد تفارق الحياه في أي لحظة، حكت لي أنها فقدت شهية الطعام، فكان عندما يجئ لها بالأكل تقول لهم "أنها تأكل أكلاً ليتهم لو يستطيعون تذوقه" و أنها يجئ إليها بأحسن الطعام في فراشها.
---
على الرغم من حزني على فقدان هذه السيدة العظيمة، في قلبي انشراح غريب ينبع من يقين راسخ لدي أن مثل هذه الأرواح الطاهرة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
اللهم أرحم الحرم بت محمد نور و تقبلها مع الصديقين والشهداء و أبدلها داراً خيراً من دارها.
إنا لله و إنا إليه راجعون.
[IMG]
[/IMG]