نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-09-2006, 02:01 AM   #[1]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي رواية بها أسراركم ومعاناتكم فلا تفشوها ،،،،

[align=center]بسم الرحمن الرحيم



مهداة الى ضحايا التعذيب في السودان

رواية الحيطان
الفصل الأول
إبراهيم علي إبراهيم المحامي
واشنطن

(1)
[/align]

الآن أتذكر كل شيء عن حياتي الماضية في الضاحية قبل خروجي منها. في زحمة الحياة والأحداث في الخرطوم كنت موقناً أنني لن أستطيع الكتابة عن الضاحية وأنا بعيد عنها، وكنت أتخيل أنني ربما أتمكن من ذلك إذا عدت إليها مرة أخرى، رغم أن شكوكاً كثيرة كانت تظلل عودتي. الآن فقط صدقت نبوءة أمي ورهانها على عودتي، لعلّها لا زالت تحتفظ بحفنة التراب التي أخذتها من تحت موطئ أقدامي لحظة خروجي لسفريتي الأولى، فها أنا أعود إليها بعد غياب طويل. كنت أفكر.

انحرفت سيارة التاكسي من الشارع السريع الذي يربط مدينة مدني بالضاحية، وسلكت طريقاً جانبياً.
جاءني صوت السائق مستفسراً ليتأكد من مدخل الضاحية:
- نحو اليسار؟
قلت
- نعم.
فولج التاكسي نحو الضاحية.

نظرتُ في قلق إلى المرآة الصغيرة المثبتة في أعلى سيارة التاكسي لأتأكد من هيئتي وهندامي. كان بوجهي حزناً لم اخلعه منذ شهور، ولم اعد ذلك الشاب الصغير الذي خرج من الضاحية قبل سنوات طلباً للعلم. تغييرات كثيرة اعترت الجسد والروح، تحسستُ ساقي الصناعية، فكنت قد عدت إلى الضاحية بساق بلاستيكية. هذا ما نلته من وليمة السياسة في جمهورية العاصمة المثلثة.

هل أستطيع أن احكي لأهلي وجميع سكان الضاحية كل شيء ؟ هم يحبون معرفة التفاصيل، مغرمون بمعرفة كل صغيرة وكبيرة، ولا يحبون الاختزال، إن أكثر ما يكره أهل الضاحية هو الغموض. ستكون المفاجأة شديدة عليهم، وسأكون وجبة ساخنة لأحاديثهم، يلوكونني لسنوات قادمة، سيلحون على معرفة كل شيء، كل ما حدث لي في منذ أن تركت الضاحية، سوف يسألون بشدة عن تفاصيل ما حدث، وكيف فقدتُ ساقي هناك.

الضاحية تمثل عالم وفكرة في أذهان سكانها، وخيال طاف بعقل زائريها وذكريات حلوة تخلد في عقول الذين عسكروا يوماً في حدائقها الغناء. الحيطان في الضاحية قصيرة وشفافة، يمكنك أن تسمع ما يدور بداخلها، وتستطيع أن ترى الأحداث تعتمل أمامك وتشاهدها، و تسمع الناس بكل وضوح وهم يحكون أدق أسرارهم. في الضاحية كل الحكاوي طيارة، أي لها قدرة على الطيران حتى ولو كانت سخيفة، تصل الجميع قبل أن يفرغ راويها من وضع فصول ختامها. وفيها يمكنك إيجاد حل لجميع مشاكلك بسهولة، وحين يجبرك اهلك على الانتماء لأفكارهم التقليدية، فيمكنك الهروب منهم نحو الأفكار العقائدية اليمينية أو اليسارية التي تكثر في الضاحية.

أزحتُ المرآة جانباً لأرى الطريق واشم الهواء النقي، السيارة تسرع والضاحية بكل تفاصيلها تزحف نحوي مسرعة، بعباءتها القديمة، وبنيلها وغاباتها وجروفها، ومزارعها وأزقتها الضيقة التي طالما تجولت فيها، تلبس حلتها الخضراء دوماً، وتكشف ما بداخلها من غير حياء.

صور كثيرة تمر بي و أنا أدخل عبر البوابة الغربية الوحيدة من ناحية طريق المرور السريع، وكانت بيوت الضاحية مرتبة كشتول حقل البرسيم، وأشجار النيم الكثيفة المتشابكة تعلو سقوف المنازل كأنها سحابة خضراء، وسطح النيل الأزرق يظهر عند انحنائه المقوس ليتجه شمالا ناحية المدينة، ماراً بمنعطف بحيرة “بجيقا" المرفقة به.

سور المدرسة المتوسطة المنهار منذ السبعينات، وبيوت المُدرسين التي تحن إلى طلاء جديد، وجنائن المانجو وأشجار الليمون تبدو متضجرة بوضوح من شارع الإسفلت الهزيل الذي يقود إلى داخل الضاحية. في كل عام يتآكل جسد الضاحية الأخضر، وتختفي أشجارها القديمة الشامخة لصالح الشوارع والمباني الجديدة المنتشرة في كل اتجاه.

كان هذا هو الشارع الوحيد المعبد في الضاحية، يسير من الشرق إلي الغرب موازياً لامتداد النيل من الجهة الشمالية للضاحية، ضاعت ملامحه من كثرة الرتوق والحفر التي غطته. الإضاءات تلمع بين الأشجار من بعيد تحت سقوف المنازل المنخفضة، والضاحية ترقد وادعة على الشاطئ، يمتد جسدها كحورية مع امتداد تقوس النيل. زفير ساخن وروائح مختلطة تخرج وقت المغيب من كائنات الضاحية، ومن الأشجار، والحيوانات والنيل، وحكايات تنثر في كل ركن من أركان الضاحية.

عادة ما تدب الحركة في الضاحية قبيل الغروب، وتمارس الأشياء اختلاطها العجيب، كأنها تعبر عن آخر لحظة في اللقاء أو أول لحظة في الوداع، فيختلط الضوء بالظلام، والروائح بالأصوات. وتشتد حركة العائدين من السوق في سيارات الأجرة أو سياراتهم الخاصة، ولاعبو الكرة انتشروا في الميادين، وعمال ورشة السيارات في تقاطع شارع الإسفلت لا زالوا في مكانهم يختمون يوماً آخر، والبهائم في حالة إياب من المشروع، تعبر شارع الإسفلت محدثة إيقاع غريب لم يألفه الناس، يتعالى خوارها وثغاءها ورغاءها، وأصوات الصيادين من ناحية النيل، تداخلت هذه الأصوات مع أصوات الناس والسيارات الفارهة التي يقودها المترفون من أهل الضاحية مسرعة نحو المدينة القريبة التي لا تبعد سوى نحو خمسة أميال فقط، يمنون النفس بسهرة ممتعة. كان إيقاع الضاحية نفس الإيقاع ولكنه زاد قليلا عما كان عليه منذ سنوات.
كل شيء في الضاحية يتجه شمالا.
النيل بصفحته الهادئة على يساري يظهر بوضوح هنا، لا يزال يتجه شمالا كما هو، وبينه وبين الضاحية يمتد شريط الغابة الطويل المقوس مع انحناءة النيل، وبين النيل والغابة ترقد جنائن المانجو والليمون والموز التي ترمي بظلالها على مياه النيل فتحيل لونها إلى الخضرة الداكنة، ودخان قمائن الطوب يتصاعد ويتجه شمالاً أيضا.

عندما حاذيته كانت أشعة شمس المغيب الحمراء مسلطة على قمة مبنى "بجيقا" الغائص في الماء. أشعلتُ سيجارة وأنا أتابع مجرى النيل المحاذي لشارع الإسفلت الرقيق. عاودتني رغبة وقتية ظلت حبيسة في صدري لسنوات، وهي أن اطفي عقب سيجارتي في طمي النيل. النسيم في هذه الناحية بدا نقياً ولطيفاً، فجأة شعرتُ أنني قادر على تحريك الأحداث والأمنيات القديمة بين حيطان الذاكرة بعد أن خمدت طويلا. وهناك بقايا من أحداث لن اقدر على اجترارها الآن، فهي من نوع تلك الأحداث التي يصير مكانها في الذاكرة مسطحاً دون نتوءات مثل صفحة هذا النيل الهادئ.

تتبعثر الذكريات سريعاً أمامي كرذاذ مطر مشاكس. بعضها استرجعته مراراً، وبعضها يعود إلى سنوات طويلة مضت يوم خرجتُ من الضاحية التي ولدتُ وعشت فيها، انشد تعليماً جامعياً في العاصمة الخرطوم، وبعضها يخرج الآن لأول مرة، إلا انه ما زال حياً يوخز بالألم.

بدأت حيطان الذاكرة في الانهيار، الواحدة تلو الأخرى، وبدأتُ أستبين الأحداث أمامي مثلما حدثت تماماً، بترتيب دقيق يشبه إلى حد كبير ترتيب الأمواج في الأنهار. كانت الذكريات تنهال عليْ دون مراوغة أو تجميل، عارية من كل الألوان. كم مرعبة مثل هذه الذكريات التي احملها، خاصة عندما تجد طريقها للخروج ليتناقلها أناس شرهون كسكان الضاحية. كنت أرى نفسي بوضوح وأنا أتجول بين أنقاض هذه الحيطان وأرى التاريخ بصورة محايدة تماماً. الآن أدركت خطأ أفراد الأمن الذين تولوني بالرعاية في تلك الفترات التي نزلت فيها ضيفاً على المعتقلات، وبيوت الأشباح، فمن يقوى على إفراغ الذاكرة ومحوها، خاصة عندما تكون ذاكرة وطن بأكمله ؟ ومن يضمن عدم روايتها وتفشيها بين الناس كمرض معدي، هم حاولوا محوها وفشلوا، وحاولتُ مراراً أن أفرغها على ورق ابيض فأحترق الورق، ونأت بحملها تقارير المنظمات الدولية.

يحتد بصري وأنا أحاول أن أرى الضاحية من جديد. تمتد الأشجار أمامي وتصطف على جانبي الطريق، منحتني الإحساس بأنني أسير بسرعة شديدة نحوها، تزحف الضاحية نحوى بنفس السرعة وهي تكتسي حلتها القديمة، الخضرة نفس الخضرة، لم يتغير شيء. بعض الجروف تتوسط المسافة بين ضفة النيل وشارع الإسفلت، والمزارع تسد الأفق على الناحية اليمنى. أشجار النيم تتشابك، كنت اعرفها شجرة شجرة، الآن تزداد كثافتها وتحول الضاحية إلى مغارات وكهوف داكنة. كثافة الأشجار أصبحت تزيد من خوفي.

سألت نفسي وأنا على حافة الارتباك:
"هل ستمنحني الضاحية فرصة أخرى للحب والتواصل؟"
"هل ستحبني وأنا بساق واحدة؟"
وأنا في غمرة هذا، سمعت صوت صبي يقول وهو يؤشر علينا " لقد عاد راشد"
ابتسمت. فقد عرفتني الضاحية إذن!

الآن تنهار حواجز وتتدفق الذكريات بصورة لم أتوقعها من قبل، هجمت عليّ كشلال منجرف. وأحسستُ أن الوقت والمكان أصبحا مناسبين لأفرغ ذاكرتي.



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 05:37 AM   #[2]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

أخي الفاضل الأستاذ إبراهيم
تحية طيبة...
أسجل حضور...ومتابعة...
هلا بيك في سودانيات.



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 10:40 AM   #[3]
معتصم الطاهر
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية معتصم الطاهر
 
افتراضي

مرحب أم حلا

ويعجبنى الوصف والتفاصيل وربط الحاضر و استرجاع الماضى
نترقب البقية



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد الحاج
أخي الفاضل الأستاذ إبراهيم
تحية طيبة...
أسجل حضور...ومتابعة...
هلا بيك في سودانيات.
دا شنو يا خالد
ابراهيم
ولآ ام حلا
ولا أبو حلا ؟



التوقيع:
أنــــا صف الحبايب فيك ..
و كـــــــــــل العاشقين خلفي
معتصم الطاهر غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 02:57 PM   #[4]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

هلا بعم حلا كيفك استاذنا العزيز خالد شكرا علي مرورك انت والاخ معتصم الطاهر
انا ام حلا والكاتب ابو حلا ايه رايكم
لكم مودتي واحترامي



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 03:02 PM   #[5]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد الحاج
أخي الفاضل الأستاذ إبراهيم
تحية طيبة...
أسجل حضور...ومتابعة...
هلا بيك في سودانيات.
إزيك يا باش..
شفت كيف.. يعني أخوك لسه ما خرف يا باش
مرحب بأبي حلا وأم حلا...
الأستاذ إبراهيم فضّل أن تعرفوه من خلال حروفه
وأزعم أنها ستكون معرفة وثيقة.



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 03:28 PM   #[6]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

الشكر كل الشكر من اهل الشكر
تاني يا خال احوالك واخبارك مقطوعه مننا
لكن نحنا من المتابعين لسودانيات
وكل جديد فيها
تحياتي لكل الاسره
لك احترامي وتقديري



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 08:29 PM   #[7]
أماني
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

ام حلا يا مرحب بيك ومنورة سودانيات
متابعة السرد الرايع وبتمنى انضمام
نصفك الحلو ابراهيم ابو حلا
وما تشحتفى روحنا
مودتى



أماني غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08-09-2006, 10:29 PM   #[8]
د.سيد عبدالقادر قنات
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

نتابع معك بأذن ألله



د.سيد عبدالقادر قنات غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09-09-2006, 01:02 AM   #[9]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

د.سيد عبدالقادر قنات
شكرا سيدي الفاضل علي مرورك
لك مودتي واحترامي



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09-09-2006, 10:18 PM   #[10]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

خالد
معتصم
اماني
د.قنات

نسبة لطول النص والفصول سوف ارسل مقطتفات من الفصول عشان ما نزحم المنبر
لكم مودتي جميعا



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09-09-2006, 10:34 PM   #[11]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي


عزيزي أستاذ إبراهيم
مساك الله بالخير
أنت لا تزحم المنبر يا صديقي بل تزينه بحروفك فلا تتحسس
وأنزل الفصول تتابعا وسأعالج فنيا إن كانت هناك حوجة.
وإن أردت عضوية بإسمك لك هذا.
عميق التقدير
خالد



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-09-2006, 04:51 AM   #[12]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

[align=center](2)
الفصل الثاني
[/align]


خرجت حشرة صغيرة من بين أضلاع الصندوق الخشبي القابع في أحد أركان الغرفة الصغيرة التي كنت أنام فيها مع إخوتي الصغار. كان شكلها غريب كأنها منبطحة على الأرض، وكانت تبدو جذلة رغم وحشة الليل التي أحس بها، اقتسم الأحمر والأسود تلوين جسدها القشري اللامع الذي تحمله ست روافع تجعل متابعة حركتها أمراً مشوشاً وصعباً. رأسها وعنقها اتشحا بالسواد، في حين كسا اللون الأحمر ظهرها المقوس. خرجت الحشرة تجري في نشوة غريبة دون ما هدف واضح بالغرفة. فجأة توقفت عن الجري والحركة، وتسمرت أرجلها الست عند قدمي فأر صغير دقيق الحجم، قابع على قطعة خبز يقضمها في زاوية الغرفة. انتبه الفأر إلى وجود هذه الحشرة العجيبة فتسمّر في مكانه أيضا، واخذ جسمه يرتجف من الخوف. ودون أن يدري، صعد الفأر إلي أعلى قطعة الخبز التي كان يقضمها علّها تعصمه من هذه الحشرة المفترسة الصغيرة. كنت على هذه الحال أياماً أتابع حركة الحشرات والفئران التي تشتد ليلا عندما ينام شقيقاي اللذان يقتسمان الغرفة معي. كنت انتظر كل ليلة يقظاً لأتابع هذا الصراع الصامت، وأنا لم ابلغ السادسة من عمري بعد. في البدء تخرج الحشرات الملونة، ثم تعقبها الفئران الصغيرة الحجم، ثم تبدأ المعركة، ولكن دون صدامات تذكر، وبعدها يكون النوم قد غلبني في سريري الصغير المجاور لباب الغرفة التي تقع في أقصى فناء منزلنا الصغير.

شعور غريب ينتابني في هذه الحالات التي تداهمني أحياناً في وقت ما بعد منتصف الليل في هذه الغرفة، تهويمات، وأحلام فظيعة، ومطاردات لا تنتهي. اشعر بأنني على حافة ما، على وشك فعل ما، ثم أرى توهجاً لأضواء بيضاء وزرقاء وخضراء تخرج من بين الحيطان والسقف، يتجمع الإشعاع في وسط الغرفة الصغيرة، ثم يتحول إلى ضوء هوائي أو سراب خفيف مصوب إلى عيني. يدخل الشعاع عبر عيني إلى مخي مباشرة، اشعر بأن الهواء يملأني من كل ثقب ومسام في جسمي، ثم أصير خفيفاً لدرجة الطفو في الهواء. وتمر لحظة أدرك فيها أنني لا زلت على فراشي، ثم فجأة تنكتم أنفاسي وأصبح مخنوقاً إلى حد الموت. صرخة حادة تقطع أوصال الليل وصمت الظلام، انتصبت معها واقفاً أمام زر النور، و إذا بالغرفة يملأها الضوء من كل جانب، لأرى أمي تقف أمام باب الغرفة، حينها أدرك أن تلك الصرخة كانت تطلع مني أنا.

لم يكن ثمة شيء يميز منزلنا عن بقية بيوت الضاحية إلا ديوان جدي الملتصق به. كان منزلنا يتكون من غرفة كبيرة وأخرى صغيرة تستخدم لغرض الطبخ نهارا، ولمأوانا مساءً، وتقع الغرفتان في فناء كبير اقتطعه لنا جدي من أرضه الشاسعة، وكان والدي قد خصص جزءا منه لزراعة الخضار وأشجار الفواكه. باب السور الذي يطل شمالا كبير يسع لدخول سيارة صغيرة الحجم، تم طلاءه باللون الفضي الذي يشبه الألمنيوم، وفي قمة أقسامه الثلاثة تتربع حلقات وأقواس متداخلة. أشجار النيم الضخمة الخضراء تكثر في فناء الدار، كانت تصطف طولياً بصورة صنعت لنا ملعبا ظليلا لكرة القدم التي كنا نصنعها من الجوارب القديمة بعد أن نحشوها بالقطن وخرق القماش.أشجار الليمون والجوافة والمانجو اتخذت مكاناً قصياً من الدار.

في وسط هذه الدار الواسعة يقع الديوان ذي الأقواس الكبيرة والأعمدة الإنجليزية المفتولة، تم بناءه من الطوب الأحمر وتم تكحيله بالاسمنت بصورة هندسية رائعة تأخذ شكل خطوط تتبع مجرى البناء لتبينه للناظرين. الصالون الكبير تتقدمه فرندة ذات أعمدة طويلة مفتولة ونوافذ مقوسة بصورة جعلت المارة يخلطون بينه وبين المسجد الصغير الذي يقع في أقصى غرب الضاحية. وكانت غرفة جدي قد ألحقت به، وكان بداخلها دولاب خشبي إنجليزي الصنع يضع فيه جدي ملابسه البيضاء وعباءاته الملونة التي يلفها بورق السوليفان، وكانت عصاته المرصعة بالعاج تتدلى من أعلاه ، وفي الجانب الآخر من الحائط علقت مرآة كبيرة نحتت من خشب الأبنوس الداكن اللون على هيئة نسر ضخم. لكل من هذه الأشياء قصص مختلفة وتاريخ طويل كان يحلو لجدي ترديدها لزوراه.

كان الديوان يتوسط مملكة جدي. وكانت بيوت أولاده وبناته تحيط به من كل النواحي، منازل خالاتي وأخوالي تقع ناحية الغرب والجنوب والجنوب الغربي للديوان، أما منزلنا فيجاور الديوان من ناحية الشرق، كانت جميع المنازل تحتفظ بباب صغير "نفاج" لها يطل على الديوان.

كان جدي طويل القامة، قمحي اللون، عريض الكتفين، ذو وجه حاد الفكين، وكان يبدو ناعم الجلد لأنه لم يسبق له أن عمل بالزراعة أو تربية المواشي، رغم انه يمتلك مزرعة كبيرة بالضاحية تنتج المانجو والجوافة والموز والليمون، فكان يبدو كشجرة مانجو كبيرة طويلة القامة، وارفة الظلال، تنم أوراقها العريضة عن ري جيد وارض خصبة المنبت. وكان دائماً يرتدي نظارة طبية سميكة يثبتها بسلسلة لامعة على رقبته. ورغم انه كان مبتسماً وحميماً إلا انه لم يسبق له أن عانق أي شخص، أو على الأقل لم أره يفعل ذلك. تراه دائماً يمد يده الطويلة لتحية ضيفه وكأنه لا يريد الالتصاق به.

في ذلك اليوم من الخريف وقف جدي بملابسه البيضاء وعباءته المقصبة وعصاه اللامعة يشرف على ملابسي وهندامي استعدادا للذهاب للمدرسة الابتدائية لتسجيلي في الفصل الدراسي الأول. كانت الدراسة قد بدأت قبل شهر تقريباً، وأنا لا زلت بالبيت لأن ناظر المدرسة قد رفض قبولي بحجة صغر سني مما اغضب جدي العائد لتوه من رحلة تجارية طويلة في غرب السودان. لم أكن قد بلغت سن الدراسة بعد، إلا أن جدي كان يرى غير ذلك لسببين، أولهما أنني طفل ذكي، والثاني هو أن ناظر المدرسة لا يرفض له رجاءا.

قال جدي دلالة على بدء التحرك:
- هل انتم جاهزون؟
أجابت أمي وهي تتأكد من هندامي:
- دقيقة واحدة أسوي له أزرار قميصه.

تبسمتُ وأنا انظر إلى جدي، رغم أنني كنت خائفاً ومرعوباً من فكرة أن أصبح تلميذاً في مدرسة لها نظام ومدرسين وناظر طويل القامة. كان جدي يراقب أمي مقطباً جبينه كالذي يقبل على موضوع مهم للغاية، وكان ممتعضاً لتأخيرنا عن الموعد. وكانت أمي منهمكة بإصلاح حالي ولا تعيره اهتماماً. كانت تبدو كعصفور صغير، كتفاها مرتفعان إلى رأسها، وكوعاها ظاهران كجناحين، ينعكس ضوء سنها الذهبية على حذائي الجديد.

قالت أمي موجهة حديثها لي وهي منحنية تجاهي:
- سوف تذهب إلى المدرسة الأولية اليوم، وسوف تصبح تلميذاً يا ولدي لأول مرة، فكن مهذباً وهادئاً.

كانت حقيقة بدء الدراسة منذ شهر ونيف تربك أمي قليلا، ولكن رغبتها في هزيمة ذلك الناظر النحيل الطويل الذي رفض تسجيلي مستخفاً بها، وإيمانها أنه لن يرفض لها طلباً الآن في حضور والدها، ثبتا قلبها في هذا الموقف.

كان والدي مشغولا بأمور تنظيم المزارعين، وكان كثير السفر والتجوال في قرى المشروع الكبير، وبين الضاحية والخرطوم للضغط على الإدارة لإعطاء المزارعين حقوقهم المسلوبة لوقت طويل. لم يجد وقتاً للذهاب معي لتسجيلي في المدرسة.

لم تكن أمي تجيد التجاوب مع أسئلتي، وكانت دائماً تقول ما يجري في خاطرها نحوي دون فهم لسؤالي أو استفساري. كان مشهد أمي وجدي وهما في ثوب الخروج معي كفيل بأن يجلب لي فكرة واحدة: وهي أنني بصدد مقابلة أناس غرباء. كان مجرد التفكير في هذا من شأنه أن يثير الرعب في نفسي ويضعف ركبتيّ.

كانت المدرسة الأولية بالضاحية التي تم بناءها في زمن الإنجليز، عبارة عن مباني صفراء مسورة بأشجار الكتر الشوكي التي يكسوها الغبار، فتبدو كأنها عطشى. في داخل فناء المدرسة انتشرت أشجار النيم و السيسبان ذات الأزهار الحمراء والصفراء، تلقي ظلا خفيفاً مفرقاً على الأرض. وكانت مباني الفصول تصطف في صفين متقابلين دون شكل هندسي ظاهر. كانت مكاتب المدرسين مقرونة مع الصف الشمالي من المباني الذي كان يتميز بفرندات دون الصف الجنوبي.

حين ولجنا سور المدرسة، دلف جدي مباشرة نحو اليمين إلى مكتب الناظر الذي كان يقع في ناصية المبنى الشمالي. انتظرت مع أمي في الكنبة التي تقبع خارج مكتبه مباشرة. لم يطل الوقت حتى خرج إلينا الناظر ينعكس ضوء ابتسامته على إطار نظارته اللامعة، ودعانا إلى الدخول مرحباً. رفضت أمي أن تدخل، خجلا أم كبرياء، لا ادري، واكتفت بأن ربتت على كتفي ودعتني مشجعة للدخول وحدي.

افتتح جدي الحديث مستعيداً ما قاله من قبل للناظر ومستفسراً عن إمكانية قبولي لهذا العام الدراسي الذي بدأ منذ أكثر من شهر.
تظاهر الناظر بعدم المتابعة، وقال:
"دعني أوجه له بعض الأسئلة، إن أجاب عليها، هذا يعني انه مستعد وهذا هو الأهم."

قام الناظر بتوجيه بعض الأسئلة العادية لي، فأجبت على جزء منها. عندما لا أجد إجابة كنت استنجد بالنظر باتجاه جدي الجالس على الكرسي. فما كان من الناظر إلا أن ينتقل إلى السؤال الذي يليه برفق شديد ملحوظ. بعد أن فرغ الناظر من توجيه الأسئلة هلل لمستوى ذكائي وبدت عليه علامات الرضا. عندها هب جدي واقفاً وقال:
"على بركة الله إذن".
وهكذا انتهى الأمر بانصراف جدي دون أن يحدثني بشيء. في هذه اللحظات أخذني الناظر ليرشدني لمبنى الصف الأول. بكيتُ بكاءً شديداً بخوف وحرقة، في الوقت الذي كان جدي و أمي في طريق عودتهما إلى المنزل لأول مرة بدوني بعد أن تركاني خلفهما أواجه مصيري وحدي.
*******

عندما زار الضاحية إمبراطور بلاد الحبشة بصحبة الرئيس، خرجنا من المدرسة جميعاً في أزهى ملابسنا لتحية الزائرين. كان تقليداً أن تستضيف الضاحية كبار الضيوف الذين يزورون المشروع الزراعي الكبير الذي ينتج الأقطان والفول السوداني. تحرك الموكب المهيب من إدارة المشروع نحو الضاحية، تتقدمه السيارات السوداء والموترسايكلات التي يقودها رجال الشرطة في ملابسهم البيضاء كطيور الرهوْ. كنا نبدو كالحمائم الزرقاء في زينا المدرسي، قصاراً لا تتعدى قاماتنا قامة ذلك الإمبراطور القصير الواقف على ظهر السيارة ماداً يده لتحيتنا. كنا صغاراً أمام الضيوف الكبار، واحتشدت حناجرنا باللحن المرحاب نغني جذلين:

"إلى ضيوفنا الكرام نهدي
أزاهر الحب والورود"

تعلو الموسيقى وتنخفض تتبعها أصواتنا الغضة في هارموني مميز وضعه معلم الرياضة والموسيقى، وتدربنا عليها أياماً وليالي حتى يليق اللحن بضخامة الموقف وعظمته. فجأة توقف الموكب المهيب، وحدثت فوضى وجلبة لم تكن في حسبان رجال الأمن الذين لم يعبئوا بنا أو يكترثوا لابتساماتنا البيضاء. كنا لا نخيف الرؤساء في شيء.

فجأة انبرى سليمان المجنون من بين الجمهور وهو يلملم أسماله بيد وماداً يده الأخرى نحو الضيوف. تقدم وحيا الضيفين الكبيرين في أيديهما رغم أنف رجال الأمن، وتسلل كخيط ضوء خفيف، مخلفاً وراءه ابتسامة كبيرة ضجت لها أركان الضاحية في ذلك اليوم المشهود.

أما كيف فقد سليمان عقله، فتختلف الروايات في تفسير ذلك، فلا أحد يستطيع أن يحدد على وجه الدقة كيف حدث ذلك. ما تزال الظروف التي أحاطت بجنونه غامضة جداً، وهناك تناقضات في إفادات الشهود، وتفاصيل غير معقولة حول الأيام التي قضاها نوماً قبل استيقاظه الأخير، كما لا يوجد تأكيد على الساعة والمكان اللتين حدث فهما ما حدث. ولكن تتفق جميع الروايات حول شيء واحد هو أن ما حدث كان فجأة وبسرعة دون سابق إنذار، وأن الزمان ذات خريف صاخب قبل أكثر من ثلاثين عاماً، زمان الإخصاب البشري والحيواني والنباتي في الضاحية، زمان يترقب فيه الكل بتفاؤل للغد الآتي.

تقول إحدى الروايات إن التقليد السائد في الضاحية كان يلزم بأن تمر زفة العريس بترعة "حفص" في طريقها للنيل لتبريك العريس بعد أن يلقي بأغصان النخيل في مياهه حتى يبعد الشياطين عن حياته الزوجية. في ذلك المساء كان سليمان عريساً يزفه أهله لعروسه "الروضة" على صهوة جواد ابيض مزين ومحفل بالحرير الأحمر القاني حسب عرف أهل الضاحية.

وكانت ترعة حفص القريبة من النيل الأزرق في ذلك العام مليئة بماء الخريف، وكانت تنضح بفائضها على النيل كزجاجة عطر مكسورة. عندما اقتربت الزفة منها، فجأة جفل جواد سليمان وكبا كبوته الأخيرة. صهل الجواد وهو يقفز عالياً، وأسقط سليمان على الأرض مغشياً عليه. وعندما اقتربوا منه وجدوه ملقياً على بيت نمل كبير، وكان الوقت قد اقترب من الغروب، فلم يتحرك ولم يفق، و ظن الناس انه قد كسر عنقه ومات.

إلا أن بعض الروايات تقول أن سليمان دخن حشيشة البنقو السودانية المشهورة مع أصدقاء له قبل يوم واحد لزواجه، وعندما انصرف الأصدقاء نام سليمان استعداداً ليوم عرسه، إلا انه لم يفق من نومته تلك، واستمر نائماً لأيام ولم يستيقظ إلا وقد ذهب عقله وكل شيء معه، وتلاشت أحلامه.

ورغم أنه لم يكن بإمكان أي شخص أن يجزم بصحة أية رواية، إلا أن ما يهم في الأمر أن سليمان عندما استيقظ من غيبوبته كان قد فقد كل شيء، عقله وعروسه، وفشلت محاولات الأطباء والشيوخ في علاجه، وعندما فقد أهله الأمل في شفائه تركوه وشأنه يهيم في الطرقات لا تفارق وجهه الابتسامة، فأصبح معلماً من معالم الضاحية.

عند إعلان جنونه في الصباح التالي لم يبد أهل الضاحية اهتماماً علنياً بالحادثة، رغم أنهم ابدوا اندهاشاً سرى في أوساط الرجال حول قدرة هذا المجنون الجديد على تحريك الأحداث في الضاحية. لم يتعرّف سليمان على نفسه تماماً، ورغم ذلك فقد كان رواحه وغدوه، واختفائه وظهوره يعني استمرار الحياة في الضاحية. كان يجوب الطرقات، ويتعقب ماضيه مغتبطاً، ويحلم بعروسته الروضة. لا احد يعرف عن حياته الأولى شيئاً، ولكن من المرجح أنها كانت عادية مثل بقية أهل الضاحية. ولم يكتشف احد قدراته الخارقة إلا حين اكتشف الناس انه قد فقد عقله.

وبفعل ذلك القدر تيسرت لسليمان معرفة أدق أسرار الضاحية، فعرف أخيارها وأشرارها، وعرف أسيادها وعبيدها، أغنياها وفقراءها، محسنيها وشحاذيها، شريفها و وضيعها، الزانيات والزانين، والحشاشون وأبناء الحرام، وهذه حالة لا تتوفر لشخص غيره.

*******

عادة ما يكون النصف الثاني من الخريف من اشد الفترات صخباً وهياجاً وترقباً في الضاحية، حافلا بالفيضانات وبالهزات الاجتماعية. في تلك الليلة من ليالي الخريف المشهودة في عام 1988م كانت السحب تتحرك وتتجمع في سماء الضاحية، داكن لونها، تزيد الظلام عتمة. اشتدت الرياح السوداء الباردة تهب من كل صوب تحمل معها ذرات الغبار الرملية التي تتغلغل في كل شيء وتدخل في مسام الجلد. ولمعت بروق كثيرة واختفت ملامح الضاحية تحت وطأة الغبار الكثيف.

لم تكن الضاحية هادئة كعادتها وقت العشاء. كان الناس يؤدون الصلاة في المسجد الصغير الذي لا تزينه أية مئذنة، وتكاد نوافذه القصيرة أن تلامس رمل الأرض. وكان ثمة رجال آخرون منشغلون بإحضار مشروب العرق الكحولي من تلك المنازل التي تراصت حول محالج القطن الخاصة بالمشروع الزراعي الكبير. وكانت أصوات الحيوانات تتعالى متقاطعة، بين ثغاء وخوار وعواء، وأمست الضاحية مفتوحة على نوافذ الغيم والسحب، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الطوفان.

فجأة شق صوتُ حلك الغبار والظلام، يعوي كأنه ذئب جريح. لم يتعرفوا عليه في أول الأمر، ولكن الصراخ المتكرر كان يلحُّ على آذان المصلين داخل المسجد الصغير فيخرجهم من خشوعهم وإنصاتهم للإمام وهو يقود الصلاة. اخترق صوت سليمان وقار المكان. أصاخ أحد المصلين السمع وقد الصق أذنه بزجاج نافذة المسجد المصبوغة بغبار العاصفة السوداء، وقال:
- صراخ شديد....
"الحقوا ....يا أبو مروءة ...يا ناس ...يا ناس....."
تعالت الأصوات من خارج المسجد. أنهى المصلون صلاتهم على عجل، و أصاخوا السمع جماعة، وفُتحت أبواب المسجد لتصل إليه نهايات كلمات محبوسة، أطلقها سليمان فاحتشدت حروفها في آذان المصلين مع ذرات الغبار الكثيف:
" البحر ....يا ناس الـ ...بـ ...حـ.....ر البحر زاد .... و دفق..."
عندما اكتملت الكلمات كانت جميع أبواب الضاحية مفتوحة ومشرعة للريح والرمل والمياه والعويل.
- معقول البحر زاد. تقاطعت الأصوات.
- لا ، يقولون فاض ودفق.
عندما اخترق سليمان وقار المكان بظهوره كأنه صاروخ منطلق، كان الجميع مأخوذين بالمفاجأة. كان يمهر الأرض بقدمين حافيتين لا يكاد يظهر لهما اثر وقد تسربلت ثيابه وتغطى جسده بالطين. التف الجميع حوله وشبكة من الألغاز برزت أمامهم. لم تكن هناك حقيقة واحدة غير سليمان نفسه الذي كان قابعاً ومطروحاً على الأرض، ممزوجاًُ بأعبائه وشروده الأبدي، يسوي سرواله الممزق محاولا أن يواري سوءته. كان يجيب على أسئلتهم اللاهثة بإجابات بعيدة عما يتوقعون.

أصغت له الآذان، بينما ألقى هو كلماته كالحجارة. أوضح لهم انه وحده قد شهد بداية الفيضان، شهد المياه وهي تمور وتمور وتفور وتفور وتنفلت من بين ضفاف النيل إلى أن سالت أودية باتجاه ترعة "حفص" التي تحيط بها أشجار الحراز. قال انه "لم يعر الأمر في الأول اهتماماً، بل وجده أمراً مقبولا في مثل هذه الأيام من الخريف، ولكنه حين امتلأت ترعة حفص راح يجري ويعدو على طول مجرى النيل شرقاً وغرباً ...إلى أن أصبح الأمر بالنسبة له مؤكد ولابد واقع". الكل كان يعلم أن جريان المياه بصورة عكسية في ترعة حفص يعني أن فيضانا قد حدث.

قال سليمان أنه صعد إلى أعلى المبنى فوق بحيرة "بجيقا" واخذ يتصنت، فسمع الأصوات الهادرة من مصادرها السحيقة التي لا يستطيع تحديد مكانها، وأحياناً خيّل إليه أنها تخرج من أذنيه، جرى وصرخ وجرى. و هاهو قابع في وسطهم ينظرون إليه ككلب جاء بصيد خائب. لم يفق أحد من دهشته إلا عندما أضاف مرة أخرى:
" البحر جاءكم ...... يا ناس".
و انهمرت عليه الأسئلة تجلده كرذاذ لذيذ.
كان سليمان يضيف أحياناً تفصيلات أخرى غير مفهومة ولا تهم التحقيق في شيء. فعندما سألوه عن سبب خروجه في تلك الليلة قال انه خرج كي يوقف البحر عند حده، وقال إن الأحباش قد فكوا التروس وحرروا قيوده.
قال صوت رجل غاضب من حقيقة الأمر:
- وهل تقوى أنت على إيقافه ؟
أومأ سليمان برأسه مرات عديدة. وقال انه يعرف مفاتيح البحر والمياه العالية، ولكن جنيّات البحر منعته من الوصول إليها.
- أين هو هذا المفتاح ؟ قال صوت هازئاً.
- "تحت بجيقا تحرسه الجنيات". قال سليمان وهو يبتسم.

هوّم سليمان بوجهه بعيداً عنهم، إلا انه لم يغب عن وعيه المحدود مطلقاً، بل ظل يسمع ما يقولون، ويرى ما حوله من جلبة لا يخطئها مجنون، ومع ذلك بقي ساكناً في مكانه وطعم الغبار المختلط بنشوة غريبة ينعشا فمه. ثم راح المصلون في باحة المسجد يتحدثون عن الفيضان الذي حدث في الأربعينات، وكيف هدد الضاحية بالزوال، وتصاعدت الأصوات هنا وهناك، وبدا الخوف يتزايد من أن تصدق الأسطورة ويعيد النيل فيضانه بعد مرور أربعين سنة على الفيضان الماضي. كان الخوف يسيطر على الجميع من أن يعيد التاريخ نفسه.

تعالت أصوات أخرى من شمال وشرق الضاحية في محاذاة النيل حذرت من الفيضان القادم ومن الغرق والدمار، أجفل الجميع وتفرقوا في كل اتجاه نحو منازلهم وتركوا سليمان قابعاً في باحة المسجد الصغير. لم يكن أحد مستعداً لمواجهة الإدانة في حقيقة الأمر، فلم يكلف أحدهم نفسه لينظر وراءه ليرى ابتسامة سليمان اللاذعة.

أسرع الجميع نحو آفاق مليئة بالسحب والخوف وقد ملأ الرعب نفوسهم، وزادت دموعهم الطين بلة. وكانت تنتظرهم مفاجأة أخرى فقد غدت السماء سوداء بالسحب ناشرة رائحة المطر، وغطى الضاحية ظلام دامس، وبعد دقائق راحت الأمطار تثقب ما تبقى في الضاحية من ارض جافة لم يصلها الفيضان.

لم يشعر سليمان بأهمية ظهوره في تلك الآفاق المليئة بالمياه والعطن، فهو لا يشعر بأدنى قدر من الهلع في داخله، فهذا كان أمراً محتوماً في نظره، فمن شهد الفيضان الأول في الأربعينات لابد أن يشهد الفيضان الثاني، هكذا حدثته أمه.

في ذلك اليوم المشحون نهض واقفاً بحزم، كأي رجل مهم في الضاحية، نظر إلى من تبقى حوله نظرة الصوفي الورع العارف ببواطن الأمور والعالم بالقوى الغيبية، واخذ يصافحهم في أيديهم الواحد تلو الآخر وهو يمشي بعيداً منهم. أعطاهم ظهره وهو يلملم أسماله، وتوارى عن الأنظار.

منذ سنوات كان لسان سليمان قد التوى في زاوية من فمه، لا يستخدمه أبدا، على الرغم من هول الكارثة ووابل الأسئلة التي أمطروه بها، حيث اكتفى بإجابة واحدة سمعها منه الجميع بوضوح شديد : "البحر زاد..... يا ناس". منذ ذلك اليوم ازداد نشاط سليمان في الضاحية، وأخذت ضحكاته تسمع في كل مكان. كان أحياناً يتجول في الأمكنة مفككاً ومهزوماً، و أحياناً يجوب الطرقات على الأقدام كمن يتعقب شيئاً، يسير خلف كل من يصادفه، ويلوذ بين الحيطان والظلال كلما أحس بوجوده شخص ما.

وحينما حاصروه في تلك الليلة، كانت أمامه مجموعة من الأسئلة المفككة، عجز أن يكتشف ما بينها من روابط. وفي المقابلات التالية معه كانت الصورة تتضح له مشهداً فمشهدا، فيعود إلى ذلك المكان وذلك الزمان، إلى ترعة "حفص" والي بحيرة "بجيقا"، حيث تبدو المشاهد بالنسبة له ذات زوايا حادة وقاسية غير واضحة المعالم.

وفي الصباح غمر الماء اغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وبيوت الضاحية من الناحية الشمالية والشرقية، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء. وفي المساء غرقت بيوت الضاحية، وتساقطت حيطان وجدران، وخرّت عزائم الرجال، وحلّ الخراب محل العمار، واختفت الأشجار، وتحولت الضاحية إلى مربط للقوارب. وصدق خبر سليمان.

قالت جدتي:
- إن مثل هذا الفيضان لم يحدث منذ أربعين عاماً.
وقال جدي محذراً:
- لا تعبروا ذلك الجسر الذي تعمل على بنائه آليات وزارة الري مستعينة بعدد كبير من المساجين تحرسهم بنادق شرطة السجون.

كانت أصوات الرجال مهمومة وعالية، تسمعها هنا وهناك، وأضواء الكشافات تنطلق من القوارب التي انتشرت على سطح الماء.
أضاف جدي بحزن عميق:
- قيل أن الفكي الصديق مات غرقاً، و ربما غرق ثلاثة أو أربعة آخرون في الليلة الماضية.

في اليوم السابع اجتازت المياه الجسر الترابي العالي من ناحية الغابة في الشرق، كما دفقت المياه من ناحية جناين المانجو في الشمال، وغمرت الضاحية حتى وصلت شجرة الدوم المجاورة للمسجد الكبير. أما من ناحية "بجيقا" العالية فلم يجد الماء طريقه إلا عبر الخيران والمجاري التي غمرت مياهها حي الديم الذي انهارت منازله بسهولة مذهلة.

خرج الناس من بيوتهم متفقدين ما حل بمنازلهم ومزارعهم وماشيتهم، كانت المنازل مدمرة وغائصة في الماء، وجيف الحيوانات تراكمت على شاطئ الضاحية. هرعنا إلى بعض المنازل التي بدأت في الانهيار نحمل الأثاثات المنزلية على سيارات النقل، والكارو وظهور الحمير، وعلى أكتافنا أيضا. نقلنا كل شيء إلى الجانب الغربي والجنوبي من الضاحية. انهارت مئات من المنازل، وغاصت في الماء مئات أخرى، و حوّل الفيضان مكونات الضاحية إلى شيء واحد: هو الماء.

لم ينتبه احد وسط هذه الفوضى إلى غياب سليمان. و في المساء التالي تجمع حشد كبير من الناس في ساحة المسجد يتحدثون عن سليمان واختفائه. فقد اتفق الجميع بشكل تراجيدي على أن أقدار سليمان المجنون كلها تشير إلى ربطه ربطاً محكما بهذا اليوم الهادر، وقد آمن الجميع بأنه قضى نحبه غرقاً.
قال رجل:
- إنه رجل مبروك، فقد تحاشى وداعنا.
- أنا اعلم انه مجنون إلا انه في الحقيقة قد تغير ولم يكن طبيعياً في الأيام الأخيرة، فقد اعتزل الناس ومتابعتهم ومصافحتهم في أياديهم، كما عودنا. قال رجل ثاني.
- كان قد رفض أن يزور تلك المنازل التي لم تستطع مقاومة المياه ثم انهارت وتهدمت. قال رجل ثالث.

لم يظهر سليمان على مسرح الأحداث بعد تلك الليلة التي لا تشبه الليالي، و في الأيام التالية امتلأ جو الضاحية بالسخرية والتندر من قصة اختفائه، مثلما امتلأ بالغيوم وبخار الماء والرطوبة. وعلى عادة أهل الضاحية في ملء أوقات فراغهم بالسوالف و الحكايات، انتشرت فيها إشاعات وتفسيرات عدة وخرافات وخزعبلات حول غيابه فقالوا ساخرين انه ذهب إلى مرتفعات الحبشة ليوقف انهمار المياه نحو الضاحية.
أكد العم يوسف نور صاحب الدكان القديم في وسط الضاحية، والذي اشتهر أيضاً بمحاولات ناجحة في معالجة الأمراض التي يسببها الجان واللوثة:
"انه ذهب للقاء هام للجن يعقد في قاع بحيرة "بجيقا" في أوقات الفيضان، حيث يلتقي بنفس الجن الذين سلبوا عقله وصادروا عروسه في يوم زفافه، في مثل هذا اليوم قبل سنوات طويلة"، و أضاف انه سيعود حال ما ينتهي الأمر، ولا داعي للقلق، ولكنه أشار إلى أن سليمان ربما فضل عدم الحديث عن هذا الاجتماع الهام، وطواه سراً في قلبه إلى يوم الدين.

أما جفّال السكير المسطول فقد أكد:
"أن سليمان قد رأي شبيه أو قرين لعروسه "الروضة" تخرج مع الجن الذي طلع من قاع "بجيقا" إلى البر في لحظة فوران وغليان المياه التي سبقت الطوفان، وقد قرر سليمان أن يداهمهم ليظفر بعروسه الهاربة من قبل أن تفر منه مرة أخرى".

وعندما انتصف نهار اليوم التالي، تأكد الناس من أن غياب سليمان ليس مجرد إشاعة، و إنما حقيقة كالمياه المتدفقة في كل مكان في الضاحية.

بعد أن أفاق الناس من هول الكارثة، و أخذت المياه في الانحسار قليلا عن منازل الضاحية، ظهر سليمان فجأة دون مقدمات. أسبوعين كاملين من الصخب الممزوج بالشك قد مر على غيابه. كان الوقت صباحاً، وكان شيخ مالك الجزار، شيخ جزاري الضاحية قد فرغ لتوه من الذبيح. وكانت الخراف ما زالت معلقة في الهواء على شعاب السنط، تتأرجح في المسلخ البلدي وقد بدت وكأنها نصف عارية. كان شيخ مالك يشرب الشاي في ذلك الصباح العطن، وكنت اشتري منه لحماً. رأيت سليمان جالساً أمام الجزارة صامتاً ومولياً ظهره لعم مالك، ونظراته مثبتة ناحية النيل. كان كمن يحاول استعادة ما حدث على طريقته الخاصة، وهو يبتسم. أو ربما كان يحاول إعادة تفاصيل تلك الأيام ليطبعها على شريط حتى لا ينساها أو يعفو عليها الزمن.
جلست بجواره وأنا أتنحنح بصوت عال علّه ينتبه إلى وجودي، ولكن صوت عم مالك قاطعني قائلا وقد بدأ محرجاً قليلا:
"انه ليس من المناسب أن اعمل في مثل هذا اليوم، ولكن لابد من إطعام أهل الضاحية، لا بد لأهلها المنهكين أن يأكلوا شيئاً حتى يقووا على مقاومة هذا المارد، فقد ظلوا يعملون طيلة أيام الفيضان".

وأضاف بنفس نبرة الأسى:
" لقد ظلوا يعملون في ردم المياه والبرك، وبناء الجسور والسدود، وتقديم يد العون للمحتاج، وتقويم المنازل والحيطان التي بدأت في الغوص داخل الأرض المرتوية".

كنت أتمنى أن يصمت عم مالك الجزار للحظات قليلة حتى يتيح الفرصة لسليمان الذي ظهر وكأنه مليء بالكلام والحديث. لم ينتبه سليمان إلى وجودي، ولم يشعر بقلقي وخوفي وتلهفي لسماع صوته، فقد واصل سهوه وشروده ناحية النيل وهو يخفي بيده اليسرى ضحكة خفيفة تنفلت منه بين الفينة والأخرى.

لم يكن سليمان يسمعني أو يعير وجودي اهتماماً،بل تناول كوب شاي الحليب مني وهو يسألني مزيد من السكّر بابتسامته التي طالما عهدناها فيه. تقدمتُ منه وأعطيته السكرية ليضيف ما يريد من السكر. أدخل كفة يده كلها داخل السكرية وملأها سكراً، إلا أنها احتبست داخل السكرية ولم يستطع إخراجها منها. كان يحاول وانأ أراقبه، وكلما رفع يده ارتفعت السكرية معها. شدني هذا الموقف أكثر إلى سليمان لأنني تيقنت انه سيطلب مساعدتي، نظر إلي وهو يبتسم ابتسامة من يطلب معروفاً أو خدمة لإنقاذه من موقف محرج. تقدمت منه وانأ اهمس شيئاً لا ادري كنهه الآن بعد كل هذه السنوات، ولكن اعتقد أنها كانت كلمات لتهدئته وإقناعه ببساطة الأمر. شرحتُ له بحركة من يدي كيف يفرغ السكر من قبضة يده ثم يمد أصابعه ويسحب يده إلى أعلى، ثم أقنعته بعد محاولة فاشلة بأنه يستحيل عليه أن يخرج يده وهي مليئة بالسكر من عنق تلك السكرية. عندما خرجت يده أخذ يتمتم بعبارات من الشكر. منذ ذلك اليوم نمت بيننا علاقة حميمة وصامتة.


*******
في ذات ليلة شتوية عاصفة بعد خريفين من تلك الأحداث حلمت: "أنني اجري في ممر طويل يكسو جدرانه التراب والغبار من كل جانب. كنت خائفاً ومرعوباً اجري للأمام ثم أعود للخلف، كمن يسعى بين الصفا و المروة. اخفي في جيب سروالي شيئاً ما، شيء لا اعرف كنهه بالضبط. وكانت مجموعة من الناس تطاردني، وتريد اخذ هذا الشيء مني عنوة، وكان هذا ما كان يخيفني أكثر. فجأة انهارت الحيطان التي تحيط بالممر، ثم ظهرت فتاة صغيرة، قصيرة القامة، صفراء، فاقع لونها. كانت تربط ضفائرها بشريط احمر قاني، وتجري نحوي تحاول إدراكي، وعندما اقتربت مني فتحت يديها لاحتضاني، وكنت أريد ذلك وارغب في تقبيلها، لكنني كنت ارتجف من الخوف. كنت موقناً انه لا يجوز لي تقبيلها، ولا يجوز لي أن ألمس أية فتاة على هذا النحو، عندما احتضنتني وبدأت في دعك جسمها عليّ ، شعرت بفقاقيع دافئة في أسفل رجلي، وثمة سائل دافئ يخرج مني، وينزلق تحت سروالي. وحين نظرت إليها كانت ملامح وجهها قد اختفت حتى صار مسطحاً لا اثر فيه لامرأة، و رأيت سكيناً تلمع في يدها، تصوبها نحوي وهي تركض، وحاولت الصراخ و أنا اجري باتجاه الناحية الأخرى، إلا أن الصوت أبى أن يخرج من حلقومي، وبحثت في جيوبي لأستبين ما فقدته، و لأستبين ما كان في جيوبي، وعندما أخرجت يدي كانتا ملطختا بالدماء."

في تلك السنة أقامت العائلة رحلة ترفيهية وغداء في حديقة المانجو التي تمتلكها الأسرة بالضاحية. في تلك الرحلة التقيت للمرة الثانية باحدي قريباتي ، وكانت فرصة أن نتحدث لوقت طويل، وظهر بيننا انجذاب غير منكر. كان اسمها أمينة وكانت تبدو كثمرة ناضجة ملقية على جدول مياه مهمل.

كانت خطانا أنا و أمينة تتحسس بدايات الحياة دون طقوس أو نواميس. كنت احمل لها أحلاماً وأفراحاً ورؤى وردية، ليس من بينها رغيف خبز أو شرائح لحم. وكانت هي تمثل مستقبل الذاكرة العائلية، معتقة بتباريك الأسرة الكبيرة، و تمنيات قلبي الغض. لعل أمينة كانت تنتظر مني وضع عتبات الحياة أمامها لتسير عليها مطمئنة. وكنت ارتبك من بياض وجهها، كلما وقفت أمامي، ارتباك ماء النيل الأزرق حين يرتطم بصخرة ملساء. تختفي الكلمات التي أعددتها للقاء، وتتبخر دواوين الشعر التي كتبتها فيها، فقط كنت أحافظ على ابتسامتي، وأنا واقف أمامها كتلميذ نسى حفظ النشيد.

ألقيت عليها التحية، وتبادلنا أطراف الحديث، ثم انسحبنا بهدوء مخلفين وراءنا حفيف أوراق الأشجار الخشنة. كانت متوهجة كشعلة تكللها البراءة من كل اتجاه. قصدنا ناحية النيل الذي بدا كصفحة رقيقة تحرسها الرمال البيضاء، وبدأنا نلهو في المياه، أصابعي تتابعها محذرة وهي تغوص بساقيها في المياه الشفافة التي تغسل الرمال، وكانت تبدو كمن تحرر من أسره. كان قلبي يزداد نبضاً، لا ادري إن كان وجلا أم خوفاً من دنو اللحظة القادمة ؟. قامت بالكشف عن ساقيها وهي تقفز فوق المياه، اقتربت منها و مسكتها كمنقذ مدعي، وضممتها إلىْ. انفرط وجدانها حد البكاء.
قلت:
"اشتقت لك يا أمينة".
توهجت خدودها بحرارة جسدي المتصاعدة في تلك اللحظة المسروقة. انزلقت ضاحكة من قبضتي كسمكة لامعة لزجة، وذهبت بعيداً في الماء كما لو كانت تلاحق أطيافاً من السعادة والبهجة. وكانت وديعة تنعكس ضحكاتها وابتسامتها وتجلجل على سطح الماء. تغرف الماء بكفيها المرتبكتين وترشه علي قميصي المبتل، وتدعوني إلى مشاركتها امتلاك اللحظة المائية معها. قلت لها وأنا اقترب منها:
- سأحبك إلى الأبد يا أمينة.
- تعال اشرب معي ماءا . قالت، وهي تسقيني من كفها شربة ماء، وجسدها يتوثب من العطش، وهمست في أذني بلا كلمات، وهي تواصل لعبها، تجذبني نحوها بقسوة حينا، وبحنان دافق أحيانا أخرى. كانت تتجاهل كلماتي وعطشي المتنامي لها، ونحن في عرض النيل.

عندما مسكتُ بتلابيب اللحظة، أزحت أزرار قميصها العليا، وتساقطت حبات عرقي المختلطة بالماء على صدرها، عملت أصابعي برقة بطول عنقها، وانزلقت إلى صدرها، وساد الصمت بيننا وأنا افعل ذلك باضطراب ظاهر. لم يتحرر لسانها عن أي كلمة رفض أو قبول. وغرقنا في لجة النيل الأزرق، وتوغلنا في مغامرة اكتشاف حبق الجسدين الشابين. ونهضت واقفة منتبهة من أعلى الرمال المبتلة، حذرتني من خطورة اللحظات المسروقة، ونادت بأوان ساعة العودة. خرجنا من الماء و نحن نأتلق. عجنتُ قليلا من الرمل المبتل القي به ناحيتها وأنا أطاردها نحو الشاطئ، وحقول المانجو تزغرد لدهشتنا وفرحتنا.

بعد تلك الرحلة سكنت أمينة ذاكرتي ومخيلتي، وساحت لها عظام ظهري، ومعها عرفت معنى آخر للمرأة.

في تلك الليلة كانت أمينة تزورني في منامي وتستلقي بجانبي في سريري الصغير، وكانت تحدثني بغنج وفرح صبياني لا يخفى، وكنت ألمسها وهي تتمايل، تارة أراها في وسط الماء، وتارة بجواري في الفراش، كانت نافرة حتى في الأحلام، وكان جسدها معجون بالماء، تبدو لزوجتها ولجة فخذيها، وأنا أهم بمتابعتها في نفورها داهمتني عاصفة دافئة حملتني إلى أعلى، وعندما توقف صعودي إلى أعلى ووصلت إلى لحظة لا شيء بعدها إلا السقوط، انفجر الماء الدافئ بين فخذي، وصحوتُ على بلل في لباسي..

بعد هذا الحلم تم عزلي من أخوتي الصغار و تم تحويلي لأنام في ديوان جدي مع أبناء خالاتي الكبار.
*******



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-09-2006, 05:07 PM   #[13]
عبدالله الشقليني
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

تحية لأم حلا وأبو حلا

أهلاً بكَ أو بكِ أو بكما في صفحة سودانيات .

كنتُ في غمرة دفء قراءة سيرة حياة ،
بتداخل أحداثها بسينمائية رخيمة .
أحسست بود وصداقة للنص ،
فكُتّاب الروايات يحوزون الصبر على التفاصيل ،
وينسجون قُبته من رقيق الخيوط ، باذخة العُلا ،
متوافقة و متناسقة الألوان .
لا أعلم هل تم طباعتها ونشرها ؟
شكراً لسودانيات أن استقطبت تلك القامة التي تكتُب بمحبة .

سنقرأ ما يتيسر منها هُنا ،
فالرواية تحتاج منا كثير جهد و زمان ،
حتى نقرأ ونرشُف النفائس ،
ثم نُدون ما نراه فيها من أساور محبتنا ..
نحتاج الزمان ومن ينـزعنا من مصائرنا .

عزيزنا الكاتب : إبراهيم

تقبل التحية والاحترام
وكثير من التقدير لما تكتُب .



التوقيع: من هُنا يبدأ العالم الجميل
عبدالله الشقليني غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-09-2006, 07:01 PM   #[14]
أم حلا
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

شنو الفصل التاني ما عجبكم ولا شنو
ارجو الافاده
أم حلا



أم حلا غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 14-09-2006, 01:23 PM   #[15]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

تحياتي أستاذ إبراهيم
أعجبتني القصة وأرجو المزيد من الفصول
ولا أظنني الوحيد ها هو الأستاذ شقليني يزورك
وهو لا يفعل إلا في المميز الجميل
واصل يا صديقي



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 01:35 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.