[aldl]http://www.sudanyat.org/upload/uploads/kederbasheer_579645323.jpg[/aldl]
الفنان خضر بشير في ذكراه العطرة
كان حريا بصوتك أن يعبر المدى، ويجتاز حتى حدود سمع الأخر في العالمين، (جلَّ جلاله لا له شريك.. ولا له مثاله..الله ..الله)، رمزية الإيقاع واشتعال نار الذكر .. ومن لا يرعوّي؟!.. لتعطي (النص الصوفي المستغرق في تأملاته العميقة) دلالاته المتجددة بتجدد اللحظةوالاستمرار الطبيعى ليخرج من (طعم القرض وحلاوة السياحة في العوالم الربانية)، ومثلماارتحلت طيا – وعلى قدميك – في رواية أخرى لقرية الشيخ عبد الباقي المكاشفي (الشكينيبة) ارتحل صوتك للعالم مصحوباً بإيقاع النوبة ليحكي (عظمة شعب وإيمانه العميق برسالة نبي الرحمة) صلى الله عليه وسلم، بطريقتك التي (كشفت دجنة الطريق وأنوار الطريقة). عمق الصوت البشري وامتدادات المفردة وإن كانت المقدمة قد جاءت مخاطبة (الراحل المقيم خضر بشير)، ذلك لأن صوته ماازل يتردد عبر المدى حاملاً تلك الدلالات العميقة للمفردات التي كان (يحتفي بها ومنها يرتوي) ويحترق في لحظةالتوهج التي تحاكي انطلاق لهب (المنارات العتيقة في بحر القلزم)، فكانت امتدادا لتاريخ متجذر في (ثقافتنا الشعبية) التي اندغم فيها الروحي مع الذاتي، حتى على مستوى الأغنية، وفي الحقبة الفنية التي برز فيها
الفنان خضر بشير في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، كانت تلك هى السمة الأساس في الثقافة الشعبية التى احتفظت بمحمولاتها الروحية في (حنجرة مغنيها)، وهى نفس الفكرةالجمالية والوظيفية للأغنية عند الفنان عبد العزيز محمد داؤود، وكانت موضوعاً للتنافس على المستوى الإبداعي إلا أنها لم تتعرض (للمسخ: بأن يتم تحويل لحن أغنية للمديح أو العكس، مثلما برر بعض المغنين المُداح لأنفسهم تحوير ألحان الغناء وإعادة شحنها بكلمات مختلفة، وهذا ما لا يمكن قبوله إلا بالضغط في وعي مختلف وغير تاريخي). حينما تفسر الحركة كلمات الأغنية انتقلت تلك العادات المختبئة في ثنايا
التعبير والأداء في المديح النبوي بمشهدية الذكر وحلقات الذاكرين للأغنية، في أن أصبح (الاحتفال بالجمال لحظة اكتشافه) في حد ذاته ذكرا، ولرهافة الحس بفعل استمرارية الأذكار تشف الروح في تلقيها لأية حالة وعي متجدد بالحياة، لذلك كانت طريقة التعبير والأداءالمشهدي في أعمال الفنان خضر بشير تأخذ شكل (التفرد، والانطلاق غير المسبوق) في نقل الانفعال – من وجوده المعنوي للإدراك العياني على مستوى الإيقاع والحركة – دون الإخلال بمضمون الكلمات المغناة أو الخروج على الإيقاع الذي يحدد شكل العرض اللحني الموازي، وبذلك تكون طريقة التعبير المشهدي
لديه في حد ذاتها هي (انغماس غير معلن في حالة الذكر الكلية) التي إن وجدت فيها إبداعيةالمغني وحالات (استحواله وتحولاته)، إلا أنها (نتيجة الوعي وفعل التفكير ) وليس الغياب، لأن الفنان خضر بشير وهو يؤدي أغنية (إيهِ يامولاىّ) لا يغترب أو ينأى داخل اللحن لخارج مدى الرؤية والإدراك، وإنما (يأتي محمولا هو الآخر داخل مضامين الجمل المغناة ) بمايفيد انبعاثها في تدفقها القاموسي – كلام الناس في الحياة اليومية وكلام الفقراء في خلواتهم، فينهتك السر وتتداخل كل الأشياء، ولايوقف مد
الجمال حينها إلا المزيد من الجمال.
يورد الأستاذ الطيب عبد الله الشيخ الحسن في بحث تخرجه لنيل درجة البكالريوس من جامعة النيلين تحت عنوان (دراسة توثيقية لحياةالفنان خضر بشير أحمد) أن الأستاذ خضر ولد عام 1917 م... وفي نسبه يقول الأستاذ الطيب في الدراسة المشار إليها: هو خضر بن بشير بن أحمد بن رحمة بن أحمد الجعلي، وأصل جده من المتمة... أما أمه فهي: فاطمة بنت حسن بن أحمد العركي... أهل أمه من العبدلاب من سلالة عجيب المانجلك، وجدته من أبيه هي عمة الشاعر الكبير إدريس جماع... وليس لخضر إخوة أشقاء، فعبد السلام أمه من الكتياب وهي خالة الشاعر النابغة التيجاني يوسف بشير، أما أحمد فأمه من الميرفاب.
أما علاقته بالشيخ عبد الباقي المكاشفى فكانت: (يقول الأستاذ عوض بابكر على لسان خضر بشير: (أمضيت ستة أشهر في الفابريك، وذات ليلة من الليالي رأيت في ما يرى النائم مخلوقاً كريهاً في هيئة امرأة... بدأت هذه المرأة تصدر أصواتاً مخنوقة من خلال أنفها. وعندما دنت مني رأيت فناراً يضىء السماء وبظهوره اختفت المرأة في أقل من لمح البصر... بعدها طار الفنار وحط على القطية التي ننام فيها أنا وزملائي، وظهر فيه رجل خرج من داخل القطية ورأيته يتحدث اليّ وكان بجانبه شخص مجذوم يغتسل في حوض وكان القيح ينزل من كل جسده، فغرف ذلك الرجل من هذه المياه القذرة وملأ منها كوباً وطلب مني شرب ذلك الكوب، فترددت وعندها انتهرني فأخذت الكوب وشربته عن آخره. وفي صباح اليوم التالي وبينما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع بعض زملائي العاملين، بدأت أصف لهم الرجل الذي رأيته في المنام، وسألتهم عن الطرق الصوفية ومشائخها في الجزيرة... بعدها نصحوني بزيارة مسيد الشيخ العارف بالله
عبد الباقي المكاشفي في الشكينيبة، ودلوني على الطريق، فذهبت إليها راجلاً في صباح
اليوم التالي بعد أن فشلت في أن أجد سيارة تقلني الى هناك... وعند دخولي المسيد سنحت لي الفرصة برؤية الشيخ، فوجدته نفس الشخص الذي رأيته في المنام فدخلت وسلمت عليه... أخبرته من أنا ولماذا أتيت وقصصت عليه رؤياى فرحب بيّ وأحسن وفادتي.... مكثت بالمسيد أخدم مع الحيران وأدق النوبة عند الذكر وأتغنى بقصائد الشيخ عبد الباقي المكاشفي حتى سلكت في الطريقة المكاشفية القادرية على يد الشيخ... وأثناء فترتي مع الشيخ لاحظت أشياءً كثيرة عن صفاته الفريدة وكرمه وحسن معاملته لمحبيه ويكفيني شرفاً أنه كان يناديني بـولدي خضر).في هذه الفترة ترك خضر بشير الغناء العاطفي وتحول كلياً الى المديح خاصة المدائح من تأليف شيخه المكاشفي... وهنا نورد جزءاً من القصيدة المشهورة (جلِّ جلاله).
جل جلاله لا له... شريك ولا له مثاله
كلمات العارف بالله الشيخ عبد الباقي المكاشفي
سـماه بنالو.... أرضو الفيها دحاها جبالو
أنزل قطر النبت كسالو... كالسندس يفوق في جمالو
بدا آدم من صلصالـو... عاش في الدنيا نشر أمثالو
أرسل رسل بصدق أقوالو... لا وجوب عليه محالـو
ختم الرسل بى الأكمالو... بالمختار المافي مثالو
شرعه الباقي فقط لا يزالو... ليوم الـحشر والزلزالو
قول يا فمي فوق خلفاه... الصديق حليف في وفاه
الفاروق الدين رفــاه... عثمان تالي السبع بفاه
كــرار المعظم شانو... بناء الكفر هدم حيشانو
رمحه سنين يشن نيشانو... بيه الدين تعظم شانو
والمعروف عن الأستاذ خضر أنه لا يتغنى بهذه القصيدة إلا حسب مزاجه أو الى من يقدره تقديراً خاصاً... وحكى الأستاذ يوسف علي محمد (الشريف) على لسان الأستاذ حمزة عبد الله – من العاشقين لفن خضر بشير وكان وقتها تلميذاً بمدرسة الكمبوني – يقول: رافقت الأستاذ خضر الى مكان عرس بأم درمان غنى فيه الى الثامنة صباحاً... بعدها طلب مني مرافقته الى زيارة أحد أصدقائه بسوق الخضار لنشرب عنده الشاى والقهوة... وأثناء جلوسنا معه طلب من الأستاذ خضر أن يمدح له بقصيدة الشيخ المكاشفي (جل جلاله الله)... بدأ ينشد – وكعادته عندما يترنم بهذه القصيدة – يغمض عينيه ويتوه في دنياوات أخر... بدأ الناس يتجمهرون وعندها فرش ذلك الصديق جوالاً أمام الأستاذ خضر وبدأ انهمار النقود... هنا لا بد أن أذكر أن الأستاذ خضر لم يكن يملك شروى نقير، وكل ما أملكه أنا قرش ونصف القرش ثمن تذكرة المعدية... انتهى الأستاذ خضر من إنشاده وفتح عينيه ليفاجأ بالقناطير المقنطرة من النقود... فإربد وجهه وغضب مثل ما لم يغضب من قبل وصاح في صديقه: (أنابمدح في أبوي الشيخ المكاشفي بالقروش؟.... دى آخر مرة أنا أجيك فيها!!) وبدأ في توزيع النقود حتى أتى على آخر تعريفة ونفض الجوال الفارغ ورماه في وجه (صديقه) وذهبنا في حال سبيلنا.
بداية تعامله مع الإذاعة والتلفزيون:
بدأ تعامل خضر بشير مع وسائل الإعلام الرسمية في 17 نوفمبر من عام 1957م، ففي ذلك التاريخ اعتلى ولأول مرة خشبة المسرح القومي... أما تعاونه مع الإذاعة فبدايته كانت في عام 1960 بأغنية (برضي ليك المولى الموالي) من كلمات الشاعر الكبير إبراهيم العبادي... وفي منتصف الستينيات ظهر خضر بشير لأول مرة على شاشة تلفزيون السودان... وحتى وفاته سجل خضر بشير تسعة وثلاثين عملاً للإذاعة وحوالي اثنين وعشرين للتلفزيون، وقد تعدى ما لحنه من أغانٍ الخمس وأربعين أغنية. وقد لا يعرف الكثيرون أن أول من لحن أغنية (خداري) هو الأستاذ خضر بشير وأهداها للفنان الكبير حسن عطية من بعد.... واعترافاً بحقه هذا كان كلما طُلب من حسن عطية أغنية (خداري) في حضور خضر بشير يرفض أن يغنيها هو، ويطلب من خضر أن يغنيها وكأنه يقول: لا يمكن أن يُفتى أحدنا ومالك في المدينة.
الطريق الذى ستمضى لنهاياته الأجيال أعلى ذروات العشق (عشق النبوءة)، ومن يشرب من نهلها أبداً لايرتوي، لذلك كانت تجربة الفنان خضر بشير الغنائية رحلة طويلة من المعاناة الإبداعية والبحث الدائم عن تلك اللحظة التي لا يعود فيها للجسد معنى، فإن ذهب الجسد بقيت روحه الجميلة تحلق فى سماوات بلادنا عشقاً أبدياً وجمالا لا ينقطع في امتدادات عوالم الصوفية اللانهائية، وخصوصا تلك التي تنطلق من وهج تقابة المكاشفية.
