الي كليمي في دهاليز العالم الأخر : أنس
(دهسته سيارة مجنونة في ديار الغربة قبل أن يري زهرته تنهض ناشرة عطرها في الناس )
سقطت في جوف الحرمان بلد و قام في جوف البلد كهف من الاحزان , يا ابناء العاهرة كلكم مثلي ,تقدمون رجلا و تؤخرون أخري ,تلوكون المذلة و تسمونها صبرا .غاية ما تفعلونه انكم تسدون أذنا بالطين و الاخري بالعجين .تمجدون الوطن في العلن و تلعنونه في السر ,الأن اعلن علي رؤوس الأشهاد اني بريء منكم الي يوم القيامة و(متخارج) خارج جلدي و ذاتي أما هذا الجحيم المسمي وطنا فحلال عليكم (دا طرفي منو ) لكن رغم هذا كله كيف ساتخلص من لعنة حب (رنانة ) ,صوتها يعبر الي هنا كل ليلة ,يقض مضجعي و يقلق منامي :
- ما قلت ح ترجع يا خال ؟
يا اخ ألعن ابو الحب زااتو .أنا الان سلطان ذاتي و وطني وسدته ضلوعي .بنيت لنفسي بلادا من الشهد و الرحيق ,أسكنت نفسي فضاء العالم الرحيب , لا حاجة بي للانتماء ,الانتماء خدعة سخيفة ,لا أنتمي الي لذاتي وحدها .يا رنانة سأعود حين تعود العصافير الي أعشاشها و النيل الي مصبه و حين يعود الحب الي القلوب . لن اعود !
عن اي بلاد كنت تحدثيني يا رنانة ؟
صهيل الريح في الفلاة كان صوتك . و التماعات البروق كانت ابتسامتك ,حقائبي ما زالت تطمح الي أرصفة جديدة و سحائبي مثقلات و ستهمي علي بلاد أخري .
لن أصدقك القول اذا قلت أني لا أحس شيئا تجاه البلاد التي غادرتها ,لكنما حالي و حال تلك البلاد مثل شخص ضجر أصابه النعاس فاطفأ المصباح ليغرق في لجة النوم العميق . الوطن يصنعنا أم نصنعه ؟
فلتطفأ الانوار جميعها يا رنانة فهذا العالم مرهق حد الاعياء ..
****
دائما وعند وقت متأخر من الظهيرة يفلت منك باص الحاج يوسف الردمية فتضطر لقضاء بعض الوقت في محطة الباصات القديمة في وسط المدينة, تلاحقك حالة من الهوس الجنسي واضطرابات جنون العظمة التي كانت تستلزم اللجوء لمعالج نفسي و مع ذلك تنطلق في غبشة الصباح كسهم مارق من كنانته منتشيا تمشي وسط الزحام . أفلت شمس العمر أو كادت و ما زالت الاحلام تراودك عن نفسها . تسقط شمس لتصعد أخري في ينابيع الرغبة و النيل مكتوم الصرخة , مبحوح الصوت .
لماذا هكذا دائما هي لعنة حبك يا رنانة ؟
تقوم ملسوعا من الآم و أوجاع الروح لتبحلق في فراغ الذكريات .هذه الرنانة قد أتاك طنينها ليلة البارحة و هي تتلفع ثوبها مارقة في الظلمة كانها سيف يبرق في العتمة .تقهقه بصوت مسموع حتي ترتج أنحاء الخرطوم كلها . تقذف لعنتك بعيدا في وجه الكائنات . أنظر الآن.. هذا هو فضاء أحلامك يتداعي . أوصد الآخرون منافذ الإشراق في وجهك .لا ملجأ لك الآن إلا لظى الغربة و حميمها .قالت لك (رنانة ) :
- هراء ..كلام فارغ .كالمستجير من الرمضاء بالنار !
دعيني يا رنانة و شأني فلهيب المنافي خير من نيران الوطن فغدا ستريني أرفل في النعيم ,أكدس الاموال بعضها فوق بعض و أغدو في الطرقات ممتطيا صهوة الحديد الياباني أملس الجلد ,ناضر الوجه , جيوبي منتفخة بصنوف العملات ,أخضرها و أحمرها و أزرقها .
تراك الآن يا رنانة تحسبيني و قد جبنت عن المقارعة و النزال في هذه البلاد الشمطاء ..كلا و الف كلا و لكن من الشجاعة أن يظل الفارس حيا . أنت طبعا تذكرين بؤس الأيام و تصاريفها ,حين يعز صليل الدراهم في الجيوب تري الأصدقاء يقلبون لك ظهر المجن و يتحاشون ودك في حين تستحيل البلاد الواسعة الأرجاء إلي خرم أبرةو لسوف تدركين لاحقا أيضا ان قمم الأحلام الشاهقة قد أضحت أعلي و اعتي من قدرتنا علي الصعود لأننا قد صرنا كرخويات البحر لا تصعد الا باتجاه الأسفل دائما .
في مثل هذه الساعة كنت أجلس لأتأمل تضاريس أناملك ,ليست غضة و لا ناعمة و لا يحزنون فهي طويلة و متيبسة و لكن مع ذلك تبدو جميلة ,كأن الدم قد توقف عند ساعديك لتهبط الأنيميا الحادة إلي معصميك و أناملك الرقيقة . من أم بدة كرور الي الصالحة مرورا بالفتيحاب كانت الأحلام تذروها رياح امدرمان الصيفية القاسية بينما انت تقهقهين في الشيء و اللاشيء :
- يا رنانة قلبك ميت !
-شوف البلد دي عشان تعيش فيها لازم تتخيل انو كل ما يحدث امامك هو نوع من الكوميديا السوداء !
رمانا صاحب النزل الطيني الحقير الذي كنا نقطنه بالايجار كبقية المتاعيس الي الشارع حين قفز بالأجرة و كأنه يمارس القفز بالزانة صائحا في وجوهنا :
- كلامي واضح عجبك أدفع ما عجبك أتخارج من بيتي .
جاء الجيران وكالعادة تحلقوا للفرجة ثم انصرفوا لكن بعضهم كان قد تبرع بإسداء بعض النصائح و الارشادات . نهار أمدرمان ساعتئذ كان يغلي كالمرجل فقد ظلت الشمس الملعونة ترابط فوق رؤوس الخلائق و كأنها تمارس بروفاتها الختامية ليوم الحشر العظيم .
أنت عظيمة و قدرتك علي الاحتمال أقوي بلا شك أما أنا فمجرد خنفساء تمارس رذيلة الحشرات و مع ذلك فلا يبدو أن هنالك داع لجلد الذات مطلقا .
كانت المحطة القديمة مستلقية تحت أقدام الحشود البشرية و كانها عاهرة قد أسلمت جسدها في فتور لوحش كاسر .العربات المنهكة تئن ,الباعة المتجولون ينادون علي بضائعهم ..اصحاب المركبات ينادون علي مركباتهم ,الشحاذون يصرخون ,بائعي الصحف اليومية يزعقون ,ماسحي الأحذية يتوسلون أقدام السابلة ,الكل يبيع فمن يشتري . يلاحقك رنين (رنانة ) :
- يا خالو أرجع ..
- قرار نهائي
- ح ترجع انا متأكدة ,دورك علي خشبة المسرح لسه ما خلص .
خرجت لا تلوي علي شيء متأبطا الحقيبة السوداء (هاندباك) , تلك التي أشترتها أمك المرحومة من نواحي السوق الشعبي حين كانت تزمع السفر الي القضارف لتتلقي عزاء اخيها عسكري البوليس الذي لقي حتفه علي يد عصابات الشفتة الأثيوبية .
دق الصوت مسامعك كمسمار يغوص في كبد الحائط .ألتفت وراءك لتنظر فلمحت (رنانة ) متلفعة ثوبها تلهث خلفك و تستحلفك ان تعود ,أنت الان لا تدري من أين كانت طالعة ,من اديم الأرض أم من جوف السماء و لكنك مضيت في سبيلك ,هل احسست بالندم حين لامست قدماك الأرض الغريبة ؟ ربما و لكنك أيضا كنت قد نسيت الندم و التباريح القديمة زمانا ليس باليسير حتي عاودك صوتها مرة اخري :
- ح ترجع يا خال ؟
معاوية محمد الحسن
مايو 2013