لم أزل في موركة التي تحتضنها جزيرة صاي الحبيبة الى النفس...
ولعلي أحكي عن واقعة لا أخال سنوات العمر مهما استطالت أن تنسيني اياها!
عندما ينتهي اليوم الدراسي في مدرسة موركة الابتدائية لا ألبث الاّ أن أعود الى المنزل لأبدل ملابسي وأذهب ب(الجَبَنة) الى الشفخانة حيث اعتاد العديد من مثقفي المنطقة التواجد مع الوالد للتسامر ونقاش العديد من القضايا والهموم...
وان نسيت فلن أنس ذاك اليوم الذي وصلت فيه الى البيت فوجدت الوالدة مشغولة بعمل مائدة كبيرة للغداء حيث قال لي شقيقي الأكبر بأن الشاعر (جيلي عبدالرحمن) يتواجد الآن مع الوالد الذي طلب اعداد الغداء والاتيان به الى الشفخانة...
ما كان مني الاّ أن ذهبت في معية شقيقي الى الشفخانة أغالب شوقي لرؤية جيلي عبدالرحمن شاعر القصيدة الجميلة التي حفظتها من أفواه أشقائي الكبار والتي يبتدرها بقوله:
أحن اليك ياعبري حنينا ماج في صدري
وأذكر عهدك البسام عهد الظل في عمري
...
وضع شقيقي (صينية) الغداء ووضعت مافي يدي ثم عدنا أدراجنا فأتينا ببقية مكونات الغداء من شاي وجبنة وماء وأباريق حيث لم تكن هناك شبكة مياه...
ثم التحقت بمعية شقيقي وتناولنا الغداء مع الضيوف -وقد كانوا ثلاثة- لنقوم بعد ذلك بصب الماء من الأباريق ليغسلوا أياديهم ...
وأذكر جيدا بأن أحد الضيفين الآخرين هو شقيق لأستاذ من أساتذتي في المدرسة الابتدائية أسمه شرفي دودو وقد كان قادما من أمريكا برفقة زوجته الأمريكية المسيحية التي كانت محور أحاديث الناس في قرية موركة أيامها...
وخلال تناول الغداء...
أصغيت سمعي فوجدت النقاش يدور (بحدة) لاتخطئها الاُذُن عن حال اللغة النوبية ومآلاتها في المنطقة!...
ولقد اصطف كل من جيلي عبدالرحمن ومحمد دودو (ان لم تخني الذاكرة) مع بعضيهما حيث كانا يرتأيان بأحقية اللغة النوبية لأن تكون هي لغة التعليم في منطقة النوبة وبدا لي بأنهما يناصبان اللغة العربية -التي كان يدافع عنها الوالد والضيف الثالث الذي نسيت اسمه -العداء!...
وأذكر بأن جيلي عبدالرحمن قد تهكم على الضيف الثالث وقال له:
-ياخي الحكيم دا من حقو يدافع عن العربي لانو شايقي ...انتا بتدافع ليه؟
فما كان من الضيف الاّ أن قال:
-ياخي اللغة العربية دي هي لغة القرآن البصلي بيهو وشرف لي أنها تكون اللغة البتعلم بيها طالما هي لغة الاسلام البندين بيهو كلنا...
فما كان مني الاّ أن قلت لجيلي عبدالرحمن:
-ياعمو ياعمو...
انت ليه بتقول العربي كعب وانت بتألف قصائد بيهو ...ثم قرأت له قصيدته أحن اليك ياعبري ...
فما لبث الضيف الثالث الاّ أن ضحك وربت على رأسي وقال لي:
-ينصر دينك ياابني...
ثم وجه حديثه الى جيلي عبدالرحمن قائلا له ضاحكا:
-بالله ما أفحمك؟!
فضحك الأستاذ جيلي ونفحني ب(طرادة) حمراء فاقع لونها تسر الناظرين
...
لعل أمر اللغة النوبية (الرطانة) قد كان هو محور نقاش جل شباب المنطقة أيامها ...
وقد انقسموا الى فريقين:
فريق ينادي بحث الجهود الى كتابة اللغة النوبية والسعي الى مطالبة الدولة لاعتبارها لغة معترف بها في المنطقة وجعلها لغة للتدريس وقد كان في مقدمة من ينادي بذلك الشيوعيون...
وكان من ضمن مطالبهم الغاء ماكان يعرف بال(فيشة) وهو الغطاء الحديدي لقناني المشروبات الغازية حيث تكون في يد أحدهم فيدور بها بين التلاميذ الى أن يسمع رفيقا له قد تحدث بالرطانة داخل الحرم المدرسي فيعطيه الفيشة ولايحق لأي تلميذ رفضها ليسعى هو بدوره أيضا للتخلص منها وتسليمها الى شخص آخر ينبس بكلمة من كلمات الرطانة ثم يؤتى بالشخص الأخير الذي استقرت لديه الفيشة فيعاقب بعشر جلدات في الطابور الختامي...
وفريق آخر يرى الأمر بأنه سعي من الشيوعيين لمحاربة الاسلام من خلال اللغة العربية وكانت دفوعهم تقول بأن اللغة النوبية ليست مكتوبة وأن الأمر سيؤدي الى فصم الاجيال الناشئة عن الوطن...
(يتبع)