أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ؟!
كتب الرجل في (مقدمته الشهيرة) عن العقل وقال:
إن العقل مفطور على إدراك العالم الطبيعي ، مهيأ للإستدلال على ما فوقه بآثاره . وهذا العقل تتجلى فاعليته في مستويات ثلاثة ، متدرجة في كمالها ، هي:العقل التمييزي -العقل التجريبي - العقل النظري .
وليست مدارك العقل هي غاية مايدرك ، بل تأسيسآ على أن "الوجود " هو الأصل في المعرفة ، وليس العكس.
يقول إبن خلدون : ( إنا نشهد بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم : أولها ، عالم الحس ونعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك ، ثم نعتبر الفكر الذي إختص به به البشر فنعلم عنه وجود النفس الإنسانية علمآ ضروريآ بما بين جنبينا من مداركنا العلمية التي هي فوق مدارك الحس ، فنراه عالمآ آخر فوق عالم الحس ، ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجده فينا من آثاره التي تُلقَى في أفئدتنا ، فنعلم أن هناك فاعلآ يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا ، وهو عالم الأرواح والملائكة وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا ، مع مابيننا وبينها من المغايرة).
إذن العقل يظهر بما هو مرآة عاكسة للوجود ، إلا أن مايميز العلم الإنساني أنه علم مكتسب نتيجة صرف همة العقل إلى تحصيل المدركات . فعلم البشر هو (حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد ألا تكون حاصلة ، فهو كله مكتسب . والذات التي تحصل فيها صورة المعلومات وهي النفس ، مادة هيولانية تَلبس صورة الوجود بصورة المعلومات الحاصلة فيها شيئآ فشيئآ .. فالبشر جاهل بالطبع ، وعالم بالكسب والصناعة ، لتحصيله المطلوب بفكره بالشروط الصناعية).
إن هذا الجهد العقلي الموصول لإكتساب المعرفة على إتساعها هو جوهر الروح العلمية . فالعقل هو الأساس ( في إنتظام الأفعال الإنسانية ) وفي إقتناص ( العلم بالآراء والمصالح والمفاسد ) وبه يحصل تصور الموجودات غائبآ وشاهدآ على ماهي عليه . والإنسان في الحالة الأولى قبل التمييز ، هو هيولى فقط لجهله بجميع المعارف ، ثم تُستكمل صورته بالعلم الذي يكتسب بآلاته ، فتكمل ذاته الإنسانية في وجودها .
ويضيف إبن خلدون إلى " ملكة الفهم والوعي " ، ملكة أخرى يسميها " ملكة الإحاطة " وذلك في قوله :
(إن الحذق في العلم والتفنن فيه والإستيلاء عليه ، إنما هو بحصول ملكة في " الإحاطة " بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله وإستنباط فروعه من أصوله . ومالم تحصل هذه الملكة ، لم يكن الحذق في ذلك المتناول حاصلآ . وهذه الملكة هي غير الفهم والوعي ، لأننا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها ، مشتركآ بين من شدا في ذلك الفن ، وبين من هو مبتدئ فيه . وبين العامي الذي لم يحصل علمآ ، وبين العالم النحير . والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون سواهما ، فدل ذلك على أن هذه الملكة هي غير الفهم والوعي) .
ماأحكم قول ابن خلدون!!
(يتبع)
|