نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-07-2007, 07:37 PM   #[1]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي * حبّوبة أُمّاً كبرى .. عمقاً معرفي نطقاً بالحكمة

كنا نتحاور عبر الهاتف وعرج بنا الحديث عن ذكريات ( حبوبة فاطمة ) وأقوالها و أحاديثها وأحاجيها التى كنا نحفظها عن ظهر القلب ... وكلامها الذى يفيض حكم بليغة رغم انها لم تنال حظها من التعليم مثل كثيرين من بنات جيلها فى ذلك الوقت ..كان لها مقدرة بالغة فى السرد والوصف للأحداث كنا نجلس ونستمع لها بالساعات الطوال ونتخيل الأحداث تمر أمامنا كأنها شريط سينمائى ...كنا ننتظر هذه اللحظات البديعة بفارق الصبر , وكما هو معروف ان الجلوس مع الكبار يخرج منه المستمع بحكمة او موقف غريب حدث لهم .. لانهم جيل معتق وعصارة سنين وتجارب طويلة فى الحياة , لذا كلامهم يكون حكم ومعرفة .. وفى نهاية المكالمة إتفقنا ان نكتب عن ( حبوبة فاطمة ) وبعد فترة وجيزة ارسل لى هذا النص عبر الإيميل , وطلبت منه ان أشرككم
الإطلاع عليه وهذا هو النص :

* حبّوبة أُمّاً كبرى .. عمقاً معرفي نطقاً بالحكمة


لِبرهةٍ أغمضتُ عينىّ ، فرحلتُ معها فى رحلةٍ عبر آلآف السنين من الحقب والأزمان العتيقة . رأيتُ معها أمجاد بلاد أرض النوبة القديمة، منذ عشرات آلآف السنين وصولاً بعهد الملك النوبى القديم مينا، ذلك الذى وحّد الدولة الفرعونية القديمة ..
ومن بعده بُناة الإهرامات والمعابد. مروراً بتلك الممالك الإفريقية العظيمة من كرمة وكوش ونبتة ومروى ثم بعد ذلك زُرنا مملكة دنقلا المسيحية بكنائسها وأديرتها . كانت الرحلة مكثفة التركيب من حيث الأمكنة والأزمِنة، كان تداخل الأمكِنة مُربِكاً جداً . على مد البصر ترى رمالاً متحليةً بذلك اللون الذهبىّ كأنه إمتدادٌ لشعاع الشمس السحرى. اشارت الى معبدٍ بدأ لى فى الأفق كأنه معبد البركل العريق، خلفه كانت بعضٌ من أشجار النخيل شامخه من على البعد كشموخ اهل النوبه. وإلى حيث الشمال رفعت يدها فقالت (هنالك كانت بؤر الأمجاد فى طيبه ومنف وتل العمارنة الذى اسسها إخناتون الداعى لديانة التوحيد).


وعلى إمتداد النهر وعلى ضفاف النيل العظيم واهب الحياة، بدأت لنا آثار عمران ضخمة قالت (تلك ابوسمبل ومعابدها وآثارها) كانت التماثيل والمسلات تخترق الفضاء وبمختلف الأشكال والأحجام. اما السواقى التى كانت تُرى على شمال النيل ويمينه فكانت تواصل ايقاعها المستديم من حركة دائريه تتحكم بها تلك الجواميس التى عمّرت الارض جنباً الى جنب برفقة انسان تلك الأرض. عند جانبه الزاهى بالخضره الكثيفه أقصد النيل العظيم قالت لى وهى تشير إليه وعينيها ممتلئه بالحب والإمتنان ( هذا هو رمز الحياة , الآتى من الأعالى ، منه تعلمنا العطاء بلا حدود، ومنه عرفنا معنى كيف ان نحب هذه الأرض التى انجبتنا، إنها أُمّنا الكبرى ) .


ذُهلت من معرفتها الغزيرة بالتواريخ والأمكنة ، وبعد ترددٍ سألتها عن منبع وسر معرفتها وهى التى لم تلتحق بأى مرفق تعليمى طيلة حياتها وإن حدث ذلك فقد يكون ذاك الإلتحاق بخلوةٍ ما (كُتّاب) . فقالت وهى ترسم إبتسامتها المُعتاده ( ياولدى المعرفة ما بالضرورة إنك تعرفها، ولكن تمارسها، والمهم كمان خلّى وجودك إمتداد للمعرفة، عندها ستكون انت نفسك جزء من المعرفة وهذه مرحله إن وصلت إليها فستكون افعالك كلها منسجمه مع الوجود الكلى الذى انت جزء منه بلا إنفصال عنه، ثم ان عمر معرفتى هو عمر المعرفة البشرية التى اُكتسبت من خلال التجربة) أصغيتُ لحديثها بإمعان، وعِوضاً من استبين منه شيئاً زادتنى حيره أكثر.


وحيثما كنّا نسير على تلك الارض الطاهرة أرض ألأساطير القديمة وألآلهة وأرض القداسة والمعابد، هنا وهناك كُنّا نرى صور وتماثيل ورموز ألآلهة ، آتون، آمون، رع، أيزيس، أوزيريس، حورس، سيت، نوت، شود تفنوت وانوبيس وغيرهم. والى صحراء غرب النيل التفتت بوجهها واشارت إلى عمق الصحراء الممتده إمتداد البصر وقالت ( فى الأزمنة السحيقة كانت كلها اخضرار وغابات ومياه عذبة ولكن دوام الحال من المُحال فصارت كما تراه الآن، أما الناس فقد تفرقوا ولكن رغم الفرقة مازالوا يحملون ملامح وحدتهم القديمة أعنى كلامهم ولغتهم رغم ماتبديه من إختلاف فجذور أفعالها واحد وتتشابه هنا وهناك ). كنت كلّى آذانٌ صاغية لحديثها فقلت لها كيف عرفتين كل ذلك قالت ( كما قلت لك كن جزءاً من المعرفة وعندها ستعرف كل شىء ). أردت منها معرفة المزيد فهممتُ بأن أسأل مرةً أُخرى فقاطعتنى وقالت ( عشان أطمئنك أكثر ياولدى، إن الأرض لا تضيع تاريخ أبنائها فهى أمّهم التى أنجبتهم ). كان حديثها مُكثفاً ومليئاً بالرموز المستعصية على فهمى. وعلى ضَفة النيل التى أخذتنى إليها عند مغرب الشمس، وكانت تقف هى بينى وبين قرص الشمس فبدت لى كإلآهه نوبية فى عظمتها . كانت تريد أن ترمز بأنها إلآهه وسيطة بيننا وبين تلك القوة الخافية الكلية الوجود والكامنة فى كل مظاهر الأشياء والمعروفه بآتون لدى النوبة ، فحدّقت فى الفكرة بإمعان وبعدها رفعت رأسى ونظرت إلى وجهها الطفولى المعتاد وكان لونها كلون أرض أهل النوبة تماماً، ذلك اللون الأسمر الممتد من أشعة الشمس الذهبية اللون. من تلك ألأرض أرض النوبة خرجت تلك العملاقة والتى هى بضخامة تاريخ اهلها، تلك المرأة ألأُنثى كانت حبوبتى العظيمة فاطمة بنت عثمان حامد.

يتبع --->



التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-07-2007, 07:40 PM   #[2]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي


من تلك الأزمنة والتواريخ السحيقة الكامنة في الذاكرة، إلى تواريخنا القريبة المشتركة بينها وبيني . أحبذ أن أطلق مفردة الذكريات على تلك التواريخ المتقاطعة بيننا، وتحبيذي هذا أؤسسه من منطلق اعتقادي الراسخ بأن الذكريات هي أجمل وأعظم وأغنى زاد يحمله الإنسان معه في ترحاله منذ ولادته مروراً بكل فترات حياته ثم أخيراً في مرحلة الانتقال إلى العالم الوجودي الآخر، الذي هو عالم الموت. وكم أتمنى أن أتمكن فقط من حمل زاد الذكريات ـ التي هي بمثابة الذاكرة الحية أو النابضة ـ معي إلى ذلك المستوى الوجودي الآخر بسرمد يته ودهشته كفكره وحقيقة.


نشأت في ذلك البيت الرائع والذي مازلت أنا مسكوناً به حتى هذه اللحظة، بالذاكرة تعلق كل تفاصيل ذلك البيت وملامحه وحتى أصغر تفصيله فيه. أمد رمان ـ ودنوباوى جنوب ـ زقاق التعريفة ( هكذا كان يسمى شارع بيتنا في تواريخٍ سابقه لطفولتنا ) ، في ذلك العنوان وجد البيت مكانه، كانت مساحته شا سعة ولكن به تلك الغرف الشاهقة الارتفاع والديوان الضخم ببر ندته الممتدة . غرفة حبوبتى كانت أيضا بتلك الضخامة وألإرتفاع وكان هنالك مخزناً ملحقاً بها، كان يسمى ذلك المخزن ( القاطوع ) مصدر ودلالة التسمية أجهلها بكل تواضع. طبيعة البنيان العالي كانت ميزة بالنسبة للبيت فيما يختص بالتهوية الجيدة مما يعطى الإحساس بلطف الجو، حتى هذه اللحظة تأتيني تلك الروائح المميزة للبيت وخاصة غرفة حبوبتى بما بها من روائح توابل قديمه وكذلك العطور البلدية والبخور والشمع الأصفر وزيت السمسم و(الكر كار ) كل هذه التشكيلة كانت تنتج نكهة خاصة هي نكهة ورائحة غرفة حبوبتى التي توحي بعراقةٍ ما وبغموضٍ ما يحيل إلى حيث التواريخ الماضية والتي كانت دائماً متمسكةً بها والتي كانت تتم استعادتها بين ألفينه والأخرى.


فمثلاً عند وفاة أحد ما تمارس النساء عادة الصراخ والبكاء بشكل هستيري وكذلك زر الرماد والتراب على الرأس والجسد ، هذه الحالة الدرامية كانت تمارس في كل مناطق الحضارات الزراعية القديمة عند النوبيين والمصريين والكنعانيين وحضارات وادي الرافدين كلها وكذلك عند الفينيقيين. وحتى هذا اليوم يمكننا أن نلاحظ ممارسة تلك العادات في تلك المجتمعات . وسبب ممارسة الطقس ذلك تتلخص في النحيب على مقتل الإله أوزيريس على يد أخيه الإله سيت والذي صار رمزاً للشر وسمى بالشيطان في الديانات الحديثة اللاحقة، تقول ألإسطوره أيضاً إن ألإلآهه إيزيس هي التي جمّعت أشلاء الإله القتيل وأعادته للحياة وتلك ألإسطوره تعبر عن جدلية الخصب أي خصب الطبيعة والتي يحتفل بها في مطلع الربيع ، وجدب الطبيعة المتمثل في انحسار منسوب النيل وشح الغلال . فطقس النحيب الدرامي هذا يمارس حتى هذا اليوم وفى تلك الممارسة استعاده لتلك الأساطير القديمة التي تسكن الذاكرة الجمعية لسكان هذه المنطقة أو تلك. كذلك عند الختان يلبس الطفل الهلال والذي هو رمز للإله بعل إله الخصوبة الكنعاني والذي له مماثل في الأساطير النوبية أيضا عند الزواج يتم ارتداء الهلال رمزاً للخصوبة ورغبة في الذرية، وكذلك تتم زيارة النيل رمز الخصوبة والعطاء. وكذلك طقوس الأربعين بعد الموت كلها طقوس قديمه يعاد إنتاجها يومياً دون معرفة المصادر وهذا يدل على وحدة التواريخ وإنسان تلك الأرض الذي تنتمي له حبوبتى وترفض الفكاك من الانتماء له، بل كرّست لخلق لُحمه متينة بين الماضي والحاضر والمستقبل ودليلي على ذلك هو سعينا الحثيث لإعادة اكتشاف الذات بغرض إغناء المعرفة الذاتية وليس بقصد تأليه المواضي بل قراءتها قراءه موضوعيه ناقده ننتقد اوجه القصور بها ونستثمر الإيجابيات بصرفها حتى تسهل عملية فهم الواقع، وكل ذلك نرمى من وراءه التأسيس لراهن وجودي زاخر بالحب والجمال والروعه لسوانا ولنا بنفس القدر.


كان في البيت شجرتان (شجرة نيم والأخرى تمر هندي) الا خيره هذه كثيراً ما أكلنا ثمارها أما الأولى فلقد أعطتنا الظل فقط، وبأي حال فلقد لهونا كثيراً حولهما. باب البيت كان من خشب السنط والآخر كان حديدياً، ما زلت أذكر مرابط الخيل والحمير وكذلك سروج تلك البهائم، الأباريق،( السحارة) وهى صندوق خشبي لحفظ الأغراض المختلفة،( قِرب) الماء وعاء جلدي يحفظ فيه الماء، السيوف، الدروع وكذلك كماً آخر من الأدوات التي أجهل استخداماتها. بالتأكيد تغيرت تلك اللوحة فيما بعد ولكن اللوحة الأصلية هي التي تسكنني وتعترف بها ذاكرتي لجمالها وأصالتها ورمزيتها .


ألأمكنه والأشياء، ألأزمنه والأحداث الممتدة منذ بواكير طفولتي تجتاح الذاكرة بين ألفينه والأخرى، مولدةً كماً هائلاً من الأشواق والحنين وحالات الوجد لتلك الفضاء آت والعوالم التي يمكنني أن أطلق عليها بكل تواضع صفة الفردوس المفقود. كل تلك الانفعالات المخصبة للمخيلة كان من أجمل وأهم عناصرها هو وجود حبوبتى . أن تمتلك حبوبه في هذه الدنيا فلاشك أنت غنىٌ جداً ، بل لديك كماً هائلاً من الأساطير والعوالم والصور والحكايات القديمة وكذلك مخزون رمزي غنى بالمعاني الغير مستنفذة إطلاقا ، كل هذه المراكمه أحدثها وجود الحبوبه في حياتنا، فلقد كان وجودها إغناءً لوجودنا.

يتبع---->



التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 11-07-2007, 09:39 AM   #[3]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي


كانت تحكى لنا عن أساطير وقِصص دارت أحداثها في منطقة أرض النوبة وتحديداً منطقة دنقلا، ومن تلك القصص مثلاً ساتى بشير أب علس الذي تلقى العلم الديني دفعةً واحدةً من شيخه وذلك بعد أن باركه شيخه بوضع يده على رأسه وقوله لبعضٍ من الكلمات ( وأنا مليتك بالعلم ) ،وكان ذلك جزاءً لتفانى الحُوار في خِدمة شيخه. كذلك قصّت علينا أسطورة ( جد العشرة أبو المية ) تقول ألإسطوره بأن أباً كان لديه عشرة أبناء ، وكان أصغرهم يبدى أحيانا عدم احترامه لأبيه واخوته الكبار وذلك بأن يستلقي ويخلف رجليه وهو حاضر لمجلسهم. فكان الإخوه الكبار يزجرونه ويوبخونه على فعلته تلك، فكان يرد عليهم بقوله ( أنا ما صغيّر أنا أكبر من أبوكم ده، أنا ولدت أبوكم ده ). فكانوا يضحكون في كل مره يتم فيها ترديد هذا القول، إلا أن سأله أبيه ذات مره فقال له ( كيف أنت أكبر سناً منى يا ولدى؟ ) فقال الابن الأصغر مسترسلاً ( ذات مرةٍ يا أبى كنت قد فقدت طريق القافلة لعدة أيام ، مع ذكره للتواريخ بالتحديد. فإذا في اليوم الثالث برجلٍ مارٍ قد أعطاك ماءً وطعام وقادك إلى طريق القافلة حيث تم إنقاذ حياتك، أتذكر ذلك يا أبى ؟ ) قال الأب وهو مستحضراً تلك الأحداث ( نعم أذكر ذلك تماماً ولكن كيف عرفت ذلك ؟ ) فقال الابن الأصغر ( لقد كنت أنا عابر السبيل ذاك، فأنا هو من أنقذك ). عندها دهش الجميع وقاموا بمباركة يد الابن الأب وهم في ذهولهم غارقون. هذه ألإسطوره قد تكون حفظاً وترديداً ألإسطورة قديمة ، تتحدث عن الإله الابن الأب في نفس الوقت. قد تكون تلك ألإسطوره استعاده لأسطورة حورس الابن الإله الذي يصبح محل والده أوزيرس، أي إن حورس هو الأب وأوزيرس هو الابن.


أيضاً هنالك قصة خلاف حمد الملك مع أخواته لأنه أنكر الاعتراف ب(المهدى)، ذلك الذي كان حاضراً للحضرة النبو ية وأخذه البيعة من ( الرسول محمد مباشرة ) الأمر الذي أدى لوضع( المهدى) في موقع حسده عليه العديد من الناس هكذا كانت تقول ألإسطورة وهى ترويها لنا. كانت تحكى عن مشايخ دنقلا ورجالاتها الصالحين، أذكر إنها كانت تصفهم ( بالتيران ألما هم حيران ) دلالةً على مكانتهم ووزنهم الديني والعلمي . وهنالك اسطورة تقول بأن التماسيح هم جدود الد ناقلة وهذه النقطة قد تكون دليلاً على اعتقاد قديم وهو يرجع للمعتقدات الطوطمية الضاربة في القِدم والسابقة للتواريخ المدونة بآلاف السنين . ومثل تلك المعتقدات نجدها محفوظة للآن عند القبائل الأسترالية وقبائل الهنود الحمر في ( أمريكا ). المعتقد معقد جداً ولكن اعرفه بأن لكل قبيلة طوطمها الخاص قد يكون حيواناً في أغلب الأحيان، وبالطبع يكون ذلك الحيوان مقدساً عند تلك القبيلة فهو الذي يبارك القبيلة ويحميها، وكل فرد في القبيلة يعرف بذلك الطوطم الذي يخص قبيلته.


كانت تحكى لنا أيضاً عن (البعاتى) و (الدودو) تلك المخلوقات الإسطورية التي كنّا نرتعب عند سماعنا لقصصها ، والى الآن نتذكر حالات الخوف التي مررنا بها، كان خوفنا يزداد كلما أرخى الليل حجابه ممهداً لعالم الأشباح والأطياف والجن بأن تتحرك في مسرحها المترامي الأطراف، بينما نحن صغاراً كُنّا نبحث عن ملا ذات آمنةٍ بالقرب من الوالدين والحبوبة.

حتى يأخذنا النوم إلى حيث فضاءآته الرحبة تارةً ناعمين بأحلام هادئة وتارةٍ أخرى بكوابيس من أبطالها أحد (البعاعيت) إياهم، إلا أن ينبثق الفجر بشفقة ذو اللون الخيالي المحرّك للنفس البشرية جاعلاً إياها تُسائل ذاتها عن اسئلة البداهة الأولى. هجوم الصبح هو نهاية عالم الجن والأشباح وبدايةً لحلول عالمنا عالم الصغار متسلحين بفعل الضوء . وهكذا دارت الأيام أو ولدت الأيام من رحم ذلك الصراع الأبدي بين جمال الظلمة ومحدودية الضوء.


هذا قليل من كم هائل من الحكاوى والاساطير التى كانت تقوم بسردها لنا . كل ذلك الرصيد اللغوى قد خزنته الذاكرة ، كما كنا نعيش تلك الروايات العتيقه بتفاصيلها الدقيقه جداً. تلك المدارات القصصية القتها هى فى لا وعينا مشكلةً رصيداً ثقافياً إنسانياً ثراً نقل إلينا عبر تلك الحبوبة الرائعة وخالقاً لحالات ابداعية ادبية جنينية على مستوى المخيلة وملكة الكتابة . والشاهد على إدعائى هذا هو هذه الكتابة المتواضعة التى امارسها، والتى تفجرت منذ مده ليست بالبعيده . وكل الفضل يرجع لحبوبتى التى عملت على توسيع خارطة الوعي لديّ منذ فتره مبكرة . إذ كانت تنقلنا إلى أماكن قصية وأزمانٍ سحيقة وعرفتنا بشخصياتٍ عديده وفضاءات خصبة ، وكانت أداتها لتوصيل كل هذا الحشد السردي هو الكلمة والحركة المصاحبهة لها أثناء السرد. عبر تلك العملية المعقدة كانت تضفى على القول إمكانية ان تحس الاشياء بذاتها وكثيراً مارافقنا الشخصيات القصصية وتجولنا فى مناطق تحدر الاجداد فى كلٍ من دنقلا وجنوب مصر . لم تكن تسرد قصاً فقط بل كانت تاخذنا اخذاً وتنقلنا نقلاً إلى حيثما تريد . جعلتنا نعرف ان الكلمات ليست اصوات مرسلة فقط بل هي صور تتشكل في المخيله ، وكل مدلولات الكلمات يمكن ان تُحس كأن تسمع صوت جريان مياه النيل وهي تقص شيئاً ما عنه، وان تستنشق رائحة البخور، وتسمع اصوات دقات الطبول، وان ترى القباب والمزارات والحيران وهم يقرأون أو يذكرون . كانت تقص وعبر شيٍ ما، خطوط رقيقة شفافة تتشكل العوالم ومسارح الاحداث إيذاناً ببدء صراع جديد من صراعات الحياة المتدفقة . أيضا كانت تدرك انها تمارس استراتيجية إيصال المعنى أو المغزى الكامن في رحم القص، وكثيراً ماكانت تصلنا رسائلها متضمنةً في حكاويها.


وأذكر مرةً وفي حديث تلفيزيونى وثائقي حول حياة المغنية العظيمه فيروز ، إنها
كانت تتحدث عن فترة طفولتها ومدى تأثير (ستّها) حبوبتها فى تكوين شخصيتها. تحدتث عن تلك الفترة من حياتها بصوره فيها الكثير من الحنين والشوق لتلك الايام الاولى والبسيطه من حياتها بصوره قد تقارب مضمون هذه الكتابه. كما قد غنت أغنيه خاصه (لستّها) تخليداً لذلك الإنسان الرائع والمؤثر . كم اشعر بالزهو والشوق لذلك الفردوس المفقود وانا أكتب عنها . وهاهي الحماسة تدفعني لقول ان من كان له حبوبة مثل حبوبتي فهو بلاشك غنيٌ جداً من حيث العوالم والتواريخ والصور الذهنيهة والمخيِلة والقدرات والتقنيات السردية . فقط علينا إكتشاف مخلفات الحبوبة الكامنة في دواخلنا . بالتأكيد فسنجد الكثير من الدرر المعرفية هنا وهناك فى ركام الذاكرة. كل ذلك كُوِّن من قِبَل شخصٍ حمل قبساً من المعرفة البدئية الصادقة والمتصالحهة وجودياً بل أكثر من ذلك منسجمة إنسجاماً كاملاً مع والوجود الكلّي مشكلةً حالة ابداعية هي قمة الجمال الكوني.


إن جذور طبيعة التقدير والإحترام للأسلاف والأجداد الكامنه في دواخلنا، والتي نمارسها بصوره تلقائية هي ليست من قبيل المصادفة أو هي بالشيء العارض . بل إن إصول هذه الإعتقادات والممارسات قد ترجع إلى أكثر من خمسة عشر إلى عشر آلآف سنه من تاريخ الجنس البشري . عندها كان الإنسان القديم يقدس الأسلاف والأجداد وينظر إليهم على أساس إنهم قد إمتلكوا خُلاصة الحكمة ، ولديهم القدرة على الإتصال بعالم الأرواح والماورائيات. فهم يمتازون بقدرات خارقة ويعتقد إنهم يؤثرون في ظواهر الطبيعة المختلفه لذلك يتم اللجوء اليهم بصورة مستديمة وقد يكون ذلك الإستدعاء لارواح الأجداد مصحوباً باداء بعض الطقوس المساعدة والتي تمثل فضاءً يسهل جذب تلك الأرواح. بالرغم من رحيل الأسلاف الى العالم الآخر إلا إن حضورهم كان ملحوظاً وقوياً، وتتم إستشارتهم عن طريق أحد حكماء القبيلة أو الجماعة السكانية ، وفي بعض المناطق يطلق على حكيم القريه لقب ( الشامان ). كانوا يُستَدعَون في كل شئون القبيله طلباً للمشورة والحكمة ، وسنداً روحياً عند مواجهة الصعاب.


هذه المعتقدات كانت تمارس في كل من افريقيا وآسيا واستراليا وكذلك عند الهنود الحمر، بكلمات أخرى مورست هذه المعتقدات عند كل الشعوب القديمة ماعدااوروبا، لذلك نلحظ الإختلاف . إن ما نمارسه من تقدير وإجلال وهالة قداسة واحترام لأسلافنا كامن في ذهننا الجمعي منذ الآف السنين ومتدفق حتى يومنا هذا . ذلك ما لانجده عند الاوروبيين، لاتقدير ولا إحترام للأجداد عندهم بذلك القدر الذي نمارسه نحن . لأن (حضارتهم) تقوم على أساس نفعي مادي فقط وتلك المنفعة ظاهرية ليس إلا . وفي ذلك قُصر نظر وجدب روحي، فهم أغنياء على مستوى إمتلاك الثروات ولكنهم فقراء ومعدمون على مستوى الوجود الانساني ويعيشون خواء روحي فظيع بل يعيشون على هامش الوجود . لأن الغنى ليس بما تمتلكه ولكن بما تكنه انت. أو بمعنى آخر قيمة الإنسان تكمن في داخله وليس في خارجه.


في مناطق كثيرة من العالم القديم، (في وقتنا الحالي) تحتفظ الذاكرة الإنسانية برواسب عبادة الأم الكبرى حتى يومنا هذا . فمثلاً في تركيا ومصر يطلق على الجدّه
( الحبوبة ) لقب ( نينه ) دلاله على مكانتها العالية والعظيمة في الوسط العائلي الموجوده فيه . وما ( نينة ) هذه إلاّ إشارة منسيّة ( لإينانا ) ألإلآهه المتعارف عليها فى بلاد الرافدين القديم . كذلك في غرب افريقيا يطلق إسم ( نانا ) على إلآهة الماء. هذه التسمية أو اللقب الذى يطلق على ( الحبوبة ) ليس من قبيل المصادفة ، بل إمتداد للتقدير والتقديس الذي كان يمارس في الأزمان القديمة . وهذا دليل قاطع على إن الأديان الذكورية الحديثة لم تتمكن من محو الأديان السابقة الراسخة في الأذهان . من ناحيتي انا أعتقد إن تلك الأديان القديمة أرقى وأكثر تصالحاً وتفاعلاً وجودياً إذا ما قارنتها مع الأديان الحالية ( أديان تكريس الخوف ) بدلاً عن الحب الراقي للوجود الكلّي.

لعل أهم ما يدهشني ويميّز حبوبتي هو فلسفتها الوجودية العميقة ، تلك الفلسفة التي تنم عن معرفة قديمة جداً، عمرها عمر التاريخ الإنساني منذ بواكير وعيه لذاته. معرفةً متدفقةً من زمن أقدم الإعتقادات والأديان، منذ عبادة الأم الكبرى وعبادات الخصب القديمة في كلٍ من وادي النيل وبلاد الرافدين والهلال الخصيب . من أهم تلك الملامح الفلسفية هي إطلاقها لمقولاتٍ مكثفة جداً منها على سبيل المثال لا الحصر
( الموت حق والحياة باطلة ) مقولة متدفقة منذ الأذل كمنت في وعيها وتصالحت معا وشكلت وجودها على أساس قناعاتها الفلسفية، وهنالك شيءٍ محير لمسته من خلال معايشتي لها وهو التزامها الصارم بما تقتنع به وبما ما تقوله وبما ما تسلكه من سلوك في حياتها اليومية . لم يكن هنالك تناقض إطلاقاً بين تلك المحاور وهذا قمة الجمال الوجودي في إعتقادي الشخصي . هذا الملمح الذي كان جزءاً هاماً من وجودها تعجز كل البشرية عن ممارسته، أعني إن هنالك دائماً فرق شاسع بين ما يقال وبين ما يمارس، هذا هو مأزق البشرية الحالى.

وهنا اشكك بصوره جاده حول مدى جدوى معرفتنا الحالية فهي بلاشك مفاقمة للتوريط والاضمحلال، عكس معرفة حبوبتى وليدة جدل الإنسان مع الوجود الكلّي وهو ما أسميه ( المعرفة المنخرطة وجودياً ) أي معرفة أسست نتيجة إنسجام وحب مع الإنسان ومحيطه المتواجد فيه ( الطبيعة ). معرفة تضيف للوجود وليست معرفة مستنزفة للطبيعة فقط . معرفة حبوبتي هذه تتقاطع مع الفلسفة الوجودية لأعلام الفكر الصوفي مثل الجنيد والحلاج وبن عربي وكذلك الفيلسوف سبينوزا والأنثروبولوجي كلود ليفي شتروس الذى أطلق مقولة تقاطع إعتقاد حبوبتي فلقد قال
بمقولة ( الإنسان العابر ). كلما أقرأ لهؤلاء الأعلام أرى حبوبتي كامنةً فيما يقولونه لكن الفرق إن معرفتها مكتسبه عن طريق التجربة المباشرة مع الطبيعة وليست مكتسبه عن طريق البحث عبر دور العلم , كم هي عظيمة وعميقة .


لعلها قد تأثرت بالصوفى السوداني المعروف ( الشيخ فرح ود تكتوك حلآّل المشبوك ) نعم فلقد كانت تحكي لنا دائما عن كراماته وتعامله مع مختلف المواقف . ذات مرة حكت لنا ان الشيخ ودتكتوك كان جالساً في خلوته يتعبد، فإذا بشخصٍ ما أتي راكضاً فقال للشيخ خبئني، فأشار الشيخ له ان يندس بنفسه في احدى (البروش) المطوية ففعل، وبعدئذٍ أتى نفرٌ من الناس يبحث عن ذلك الهارب. فسألوا الشيخ عن مكانه، فأشار إليهم بانه مختبيء في احدى تلك (البروش)، لكنهم لم يصدقوا الشيخ حديثه، وواصلوا بحثهم في مكانٍ آخر. وبعد أن تواروا عن الأنظار خرج ذاك المختبيء، وقال للشيخ غاضباً كيف تدلّهم على مكاني فقال له الشيخ قولاً ثاقباً ( إذا الصدق ما نجّاك الكذب ما بينجيك ) . هكذا كانت ترسل تعاليمها لنا من خلال القصص وأخيراً اثبت علماء التربية ان هذه أفضل طريقه لثوريث القيم وايصال الافكار المحبذة لتعليم الاطفال . فكم هو مذهل نبعها المعرفي ذاك. حكت عنه أيضاً أنه كان هنالك شخصاً ما يتعبد تحت شجرة (نبق)، فأتى الشيخ ود تكتوك ماراً بجواره، وسأل الرجل عن مايفعله تحت الشجره، فردّ الرجل بأنه يجلس تحت الشجره بغرض العبادة . عندها أخذ الشيخ (قناية) ووضعها على طول بئر كانت في الجوار، وقال للرجل اذا كنت تعبد الله فقم وأعبده وانت تقفز على هذه (القناية)، فرفض الرجل العرض . فقال له الشيخ (انت جايباك شجرة النبق ما جايباك العبادة)

فعرف الرجل زيف إدعائه بأنه متستر بالعباده لأجل أغراض دنيويه. وهذا بلا شك حال اغلبية من يتظاهروا بالعباده والإيمان، بينما هم يسرقون قوت الملايين المسحوقة.
( البيوت بيوت الآخرة ) كانت تلك مقولتها المفضلة وكانت على الدوام ترددها، كانت تقصد من قولتها تلك من يقضون عمرهم جرياً ولهثاً وراء المال والثروة، أو من أعمتهم الثروة عن حقائق الأشياء وأصبحوا يعتقدون إنهم إمتلكوا شيئاً ذا قيمة دائمة.

يتبع ------>



التعديل الأخير تم بواسطة Garcia ; 11-07-2007 الساعة 09:43 AM.
التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 11-07-2007, 09:49 AM   #[4]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي


فراحوا يغيرون طبائعهم ويتنصلون عن أهليهم وطبقاتهم . فهي كانت تسخر منهم وتقول ( كله زائل ) ولا تبقى إلا الذكرى والكلمة الطيبة ، وكما يقولون ( لو دامت لغيرك لما آلت إليك ). ولكن ماذا نحن فاعلون بمثل ذلك الإنسان البائس الذي يتمرغ في جهل الظاهر المخادع. وصحيح ما كانت ترمز إليه بأن الذي تغيّره الثروة ما هو الآّ الجاهل الذي يترائى له إنه قد إمتلك شيئاً من خلال إمتلاكه لحفنةٍ بائسةٍ من المال ، ولكن في آخر المطاف تظهر له الحقيقة التي يرفض أن يقبلها وهو إنه سيترك كل شيءٍ خلفه ويرحل عارياً كما أتى عارياً ، هذه بعينها جنونية اللحظة الوجودية البائسة لكل بني البشر. كلهم واهمون، كلهم غارقون في هامش الوجود ماعدا قلة قليلة تسعى لتأسيس ثروة غير منتهية وهي ثروة لايقبض عليها أحد. أتعرفون ما هي ؟ هي ثروة مقاربة الحقيقة، ثروة المعرفة التي تجعلك أكثر تهذيباً وليس أكثر غروراً. لأنك إن كنت من أهل التهذيب فلقد قاربت الحقيقة، وإن قاربت الغرور فأنت من أهل الخديعة التي تشكل لك أشياء ليست هي بل كما يقولون ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).

وها هنا أتذكر حكمة رائعة أنتجتها قبائل الهنود الحمر وتقول ( لماذا أيها الإنسان تتعب ظهرك بحمل الكثير من الثروات والهموم، فأنت مغادرٌ لهذه الدنيا بعد حين تاركاً كل شيءٍ ورائك ). تلك هي فلسفتهم الوجودية مماثلة تماماً لما كانت تصرّح به حبوبتي في خطابها اليومي، والغريب والمدهش حقاً هو إن جدلية الفكر والسلوك لديها مماثلة تماماً لمنطق الهنود الحمر في التفكير والممارسه. فهم ليسوا ببدائيين كما يزعم إنسان العصر الحاضر، بل هو البدائي بمعنى إنه رهين الظاهر الفاني وليس الباطن الباقي. منطقها رائع وحكمتها ثاقبة. كم أنا قزمٌ تحت سلطان معرفتك وجاهِك.


الصلابة والمثابرة كانت من بين الصفات التي تضفي على جمالها جمالاً يجعلها تفوق الشمس إشراقاً وتوهجاً وهذا بأي حالٍ من الاحوال ليس بمبالغة ولكن فعلها في دواخلنا أكثر من تأثير الشمس الطبيعية. ولكن غاية الجمال الغير محدود أي الجمال الذي تتحرق إليه الذات البشرية توقاً وإشتعالاً يتمثل في عطائها الذي يفوق عطاء النيل هبةً ومنحاً للحياة. كيف لا وهي إبنة النيل العظيم واهب الحياة، نعم كيف لا وهي إبنة أقدم الحضارات على وجه هذه الأرض. كُنا نرى الشموخ والكبرياء متجسداً فيها، بل هي العزة والقناعة ذاتها فلقد كانت مكتفية بمخزونها المعرفي الذي كانت تستشف منه إضفاء محيطها جمالاً وإشراقاً إنهال علينا منذ أن وجدنا أنفسنا نحبو تحت ملكوتها وما أروعه من ملكوت وجبروت.


فلسفة عطائها كانت تمارسها كالآتي هي أن تفكر بغيرها قبل أن تفكر بنفسها. فلقد كانت تلك الخصلة نتيجة لمعرفة عميقة ببواطن منطق الأشياء كما أسلفت الذكر. فلقد كانت إذا علِمت بأن بعض الأموال ستصلها من هذا الحفيد أو ذاك، تفكر مباشرةً بأن تعطي الآخرين، (هذا سأعطيه كذا، وذاك سأعطيه كذا) أي تقسم المبلغ مباشرةً مع الآخرين وذلك هو قمة العطاء والتهذيب الوجودي. كانت تحب الآخر أكثر من ذاتها... وفي ذلك عمق فلسفي شفاف التأثير أرى فيه عشق وحب للوجود بصورة تفوق كل أوصاف العشق التي يمكن أن نجدها في الف ليلة وليلة. آهٍ كم أنت رائعة وخالدة يا حبوبتي العظيمة ... كم أشتاق لرائحتك التي تفوق العنبر والمسك عبقاً ونفاذاً.... وأعتقد جازماً بأن محمود درويش الرائع ذاك، عندما كتب قصيدته ( فكِّر بغيرك ) قد كان يقتبسكِ مثالاً يُحتذى به. فلنرى ما قاله في ديوانه ( كزهرِ اللوز أو أبعد ):-


وأنت تُعِدُّ فطورك، فكّر بغيركَ

( لاتَنسَ قُوتَ الحمام )


ويقول أيضاً :-

وانتَ تَعودُ إلى البيت، بيتِك، فكِّر بغيركَ

( لاتنس شعب الخِيام )


ويختم قصيدته ب :-


وأَنتَ تفكِّر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك

( قُل : ليتني شمعةٌ في الظلام )


كانت حبوبتي تقول إن المال مال الله ونحن وكلاء عليه فأعطه لمن يستحقه، أو كانت تقول إن مراكمة المال تجلب النحس والبلاء. كم تعلمت منك الكثير، تهذيب نفسي هو من مدرستك، ترقية سلوكي هو من تعاليمك، حبي للكل هو من فيض حبك، فأنت ساكنةً لذاتي وأنا إمتدادٌ لإشراقك المتمثل في وجودنا كُلنا.


وبينما انا مغمض العينين أبحث وانقب في مخيلتي وذاكرتي. فإذا بها تحل عليّ مرةً أُخرى بهيئتها المعتادة مرتدية ثوب ( الفردة ) الذى كانت تغزله أختها ست البنات. عندها دخلت معها في حديثٍ شيقٍ. إذ قلت لها : أعذريني لأنني لم أكن حاضراً ساعة رحيلك. فقالت : أنا لم أرحل!! وإن كان رحيلي نوعي أي على مستوى الجسد الفاني، فأنا باقيه فيك، أو ليس أنت إمتدادٌ منّي؟؟ أنا باقية حتى في نصّك هذا...
قلت لها : حدثيني عن العالم الآخر أي عالم الأموات. قالت : لن أفعل ذلك، وأضافت قائلة ( أتعرف لماذا رمى الشيخ الجنيد الحلاج بوردةٍ حمراء عندما همّوا برجمه، وتلك قد الّمت الحلاج أكثر من الحجارة التي رجم بها،، لأنه كان عاشق).
وعندما سئل الشيخ الجنيد عن سبب تأييده لحكم إعدام الحلاج فلقد قال :
( إنه خائن فقد أفشى السر )، واضافت: وانا لا أريد إفشاء السر..


وحينما جاءت ساعة الفراق قلت لها : باركيني ببعض الكلمات من حكمتك، فنظرت إليّ نظره عميقة مشحونة بكمٍ هائل من الحب والعاطفة ، ومحمّلة بالقول والمعاني المُرسلة من ذهنها إلى ذهني مباشرة دون وسيط لُغوِي – ذلك الوسيط المبرهن على حالة العجز البشري – عندها أحسست بأنني نقيٌ تماما ودواخلي شفافة، بلا قلق أو توتر. إحساس لم أعهده من قبل فسألتها : ماهذه الأحاسيس التي ألمّت بي .
قالت : هذه حالة أن تكون جزءاً من المعرفة دون وسيط، أو جزءاً من الحقيقة، عندها ستكون أكثر تهذيباً وأرقى أخلاقاً وستتعاطى مع كل وجودك بكل الحب والعطاء، مما يجعلك تعيش في عمق الحقيقة ، وتلك هي مرحلة النقاء والتجلّي للحقيقة في ذاتك. وإسترسلت قائلة : فأما عن إبنك فإنه ينتمي لعالم الحقيقة، وأنا معه في كل اللحظات، لا تقلق بشأنه، إنه أكثرنا حكمة ، إذ إنه لم يتلوث بزيف الحياة الفانية دار الخديعة.

كانت تريد أن تواصل القول ولكن بدأت مترددة قليلاً ثم بعدها قالت :
لا أريد أن أثقلك بالوصايا ولكن لا بأس من القليل :

أولاً حرر نفسك من عبء وزيف الواقع، وشروط الراهن أي لا تتمسك ولا تراهن على هذه الحياة لانها نزهة قصيرة، فطالما أنت موجود بها هذّب نفسك بالمعرفة الباقية وليست الثروة الزائلة، كما رقّي سلوكك بالعطاء والحب. ثانياً : أبحث عن الحكمة وأسعى للحصول عليها، فهي التي ستنفعك وتجعلك تقارب الحقيقة وتباعد الخديعة.


عندها فتحت عينيّ فلم أجدها أمامي ولكن كل كلماتها كانت تدور في ذهني، وأعتقد إنني تعلمت شيئاً إضافياً جديداً هو كيفية التواصل مع عالم الأرواح، العالم الآخر عالم الحقيقة، وذلك بأن أصغى ,أسترق السمع لكي استمع لهمسهم عبر الأثير. لقد رحلوا ولكنهم باقون فينا للأبد.............

إهداء لكل ذريتها وأحفادها .

إهداء خاص للأخوين : عادل عثمان / عوض عثمان

أمستردام

27- 05 - 2007

الساعة الثالثة صباحاً

محمد عثمان عوض





التعديل الأخير تم بواسطة Garcia ; 11-07-2007 الساعة 10:01 AM.
التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 11-07-2007, 08:27 PM   #[5]
رأفت ميلاد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية رأفت ميلاد
 
افتراضي

حبيبنا قارسيا
إنتظرتك الصباح وأنا أراقبك على الشبكة حتى كتبت الجزء الأخير وقرأته طازجآ ورددت (بمزاج) من القلب وضاعت مداخلتى فى الهواء وأفسدت يومى .

شكرآ كثيرآ للأخ محمد عثمان عوض على المقال الرائع (والما عندو كبير إشترى ليهو كبير) هكذا قال أهلنا ولم يخطئوا .

الحبوبات شيالين أسية و حمالين صبر والحكمة توارثنها بالأمل بالأحزان والأفراح وكل تجارب الحياة . الحكمة هى أكبر مدرسة وهى مدرسة الحياة لا تخضع لنظريات العلم ولكنها تنبع من تجارب الزمن التى ليست لها قواعد ولا تحكمها إلا الحكمة والخبرة لمقابلة ويلاته وتجعلها حياة وفطنة .

كلمة (حبوبة) تستحضرنى عندما كنا أطفال وكانت بيننا عائلة نوبية أتت جدتهم من من الجزء المصرى . فكانت والدتهم تحاول أن تعلمنا أن نقول لها (نينة) على الطريقة المصرية ولكنها رفضت وأصرت على منادتها بحبوبة من جمال وقع الإسم على قلبها

مودتى الصادقة



التوقيع: رأفت ميلاد

سـنمضى فى هذا الدرب مهما كان الثمن

الشـهيد سـليمان ميلاد
رأفت ميلاد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 11-07-2007, 09:04 PM   #[6]
haneena
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية haneena
 
افتراضي

سلام قارسيا....
(لكم وحشة)

تعرف كلمة حبوبة من أجمل الكمات بالعربية التي تطلق على الجدة

بتذكر كانت معانا في العمل مصرية
و ليبية
كنا دائمآ نقارن بين اللهجات في كلمات كثيرة
جينا علي كلمة الجدة
عندما ذكرت إننا بنقول (حبوبة)
ما تتخيل كيف تركت عندهم إنطباع جميل
طبعآ نطقهم ليها مختلف...فهم نطقوها حبووووبة..الضمة في الواو كبيرة
و طبعآ لها وقع كبير..
فهي الكثيرة الحب...إسم على مسمى
لاحظت اخيرآ في الخرطوم إستعمال كلمة (ماما فلانة) بدلآ عن حبوبة
وفي رأيي الخاص
ليس لها طعم ولا رائحة
فلتحيا الحبوبة
ورحم الله حبوبتنا جميعآ
(فقد حُرِمت من حبوباتي الإثنتين)

و التحية لأخوك محمد عثمان يا قارسيا
وهو يساهر ليسكب لنا هذا



التوقيع: Life is all about choices
haneena غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 12-07-2007, 09:10 AM   #[7]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي

الحبيب الغالى رأفت ميلاد صباحك جميل
تسلم لمرورك الجميل دوما وتعليقك الثر على نص الأخ محمد عثمان ..
هاردلك يا صديقى على ضياع المداخلة فى الهواء وإعتبرها وصلت ..
لك منى خالص الود والتحية ليك من الأخ محمد ...



التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 12-07-2007, 09:30 AM   #[8]
Garcia
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية Garcia
 
افتراضي


العزيزة حنينة
لك كل التحايا والأشواق ..
اتفق معك تماما بأن كلمة حبوبة لها وقع اكثر من كلمة ماما ,
نخشى على هذه الكلمات من الإندثار بمرور الزمن وسط هيمنة
ثقافة الفضائيات والتأثر بثقافة الغير وإستبدالها بكلمات جديدة
دخيلة على عاداتنا وموروثاتنا الأصيلة ..
ورحم الله حبوباتك وأسكنهم فسيح جناته ...
لك كل السلام والتحية منى ومن الأخ محمد عثمان ...



التوقيع: لو انى اكتشفت سر الحياة ... لعلمت حكمة الموت ( رباعيات عمر الخيام )
Garcia غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 11:59 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.