الصيغة (6)
بسم الله، الذي بدؤه كان الكلمة، أنْ قال للبُعْدِ الذي نحيى فيه بكامله "كُن" فكان من حرفين فقط بحسابنا الحالي "كاف" و"نون"، وهي في أصلها طبقاتٌ متكاثرة بعضها فوق بعض، حتى تلد إلينا الأشياء كلّها، "عملياً" و"فعلياً"، لا من باب المَجَاز. باسمه المُبارك، ذي الثناء الأكبر، مُوَلِّد الأنوار، البارئ والمَنَّان {بديعُ السموات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنَّما يقول له كُن فيكون}.
لقد عَرَضْتُ رَمْزَ الكنائس الغابرة ثم عَرَضْتُ يَدَيْنِ اثنتين، أُولاهما المبسوطة للشَّر مع جذعها وساعدها وكفّها، والأخرى المرسومة من الرّسْغ Wrist. ثم عَرَضْتُ الكراع الراسخة.
لاحظ لكون المؤشِّر إلى اليمين من رمز الكنائس الغابرة أعلاه يرمز لألف (آدم) بينما المؤشِّر إلى اليسار منه يرمز لـ"ب" بهيمة بور.
وهذا الرمز الكنسي ليس موضوعي الآن، وإنَّما موضوعي هو قولي إنَّ هذه الأعضاء الثلاثة من جسد ابن آدم تعود إلى حادثة القتل الشهيرة في التاريخ البشري. ولعلَّ عُسْر هذه المادَّة ناجمٌ بشكل أساس عن كونها تُنَاقض كل بداهة عرفها النَّاس، لأنَّها تُريد التأسيس لكل شيء منذ بدئه ومنطلقه. وهذا ما يحتاج للتعليق والتداعي من كل وحدة من وحداتها، الأمر الذي إن لم يُعالجْ وَفْقَ مخطّطٍ ومقادير مدروسة فسيؤدي لزعزعة فكر القارئ لا المادَّة، فهي من أي مدخل أتيتها تعود بك إلى البدء، ولا خوف عليها. ولكن يكفيها وعورة أنّها تقول إنّ هذه اللغة ذاتها التي نحن نعبّر بها ونكتب بها، نحن لم نعلم عنها أي شيء. ونحمل عنها هذه المفاهيم فادحة الأخطاء، لأنّنا رُغم حديث البشرية الطويل ورقنها، فهي لم تدرك إلا لدى عهودها الأولى فقط معاني ما تنطقه وترقنه.
الآن نقول بشكلٍ خاطئ تماماً، أسفل ذلك السحاب من السماء، يقف جبلٌ بوسط تلك المدينة التي يشقّها نهرٌ. ولجوار ذلك النهر تقف عمارةٌ تُوجد فيها شقق كثيرة من بينها الشقّة الفلانية، وبداخل تلك الشقة بُنيت غُرفة، وبداخل الغرفة ذاتها وُضعت طاولة مذاكرة، وعلى تلك الطاولة يقبع كتابٌ من ثلاثة مجلّدات، وبجوف ذلك الكتاب تُوجَد قصة، وتلك القصّة تتكوَّن من باراغرافات، والباراغرافات من جُمل، والجمل من كلمات، والكلمات من حروف.
أمَّا في عالم الحق الذي كان بالفعل والحق، لا بمثل هذا التوهُّم البشري الضعيف التصوُّر، فهو أن تقلب هذا التَّصور وتعكسه تماماً، لتقول إنَّ الله ألقى كلمته وهي "كُن"، فكانت منها، وهي مضغوطة ومكثّفة على نحوٍ إلهي، يَنُدُّ عن إدراك البشري، فكانت من الحرف الكلمات والجُمل والباراغرافات، لتكون القصّة، وليكون الكتاب، فمنه المجلّدات، ولتكون الطاولة المادّة من الحرف أيضاً، وهكذا.. تعكس الصورة إلى أن تخرج السماوات والمجرّات بكاملها من الحرف.
فالمؤمن بالكتب السماوية يعتقد بكلمة "كُن"، وفي ذات الوقت، عاش لدهور طويلة يعتقد أنَّ الله جلب مواداً من مكانٍ آخر وصنع منها مخلوقاته، حاشا وكلا، بلِ الله يقول للشيء كن فيكون من الحرف نفسه، إلا ما استثنى الله بنفسه ومسّه بيديه كما فعل مع آدم، ولذلك لامه على ذلك التكريم العظيم والاستثنائي، الذي لم يحفظه آدم ونسي وضلَّ، ولم يتّبع أوامر الله له.
فلطالما قرأنا تلك الآيات مارّين عليها مروراً غير متدبِّر، وإلا فسنسأل أنفسنا كيف تتحوَّل الكلمة "كن"، اللغة، إلى كائن ملموس، وموجود؟
هناك من يُنْكر هذا الكلام وقد أراح نفسه إلى حين، بنفيه لوجود الله.
وهناك من يؤمن بإرادة الله ولا يبحث فيها عن إمكان، لأنَّ الإمكان الأكبر مع الخالق لا المخلوق. أي أراح نفسه عن تصوّر كيف حدث ذلك، ولا جناح عليه فيما يفعل، لأنَّه يفوّض علمه وأمره لله، وما خاب من فوّض علمه وأمره لله.
إذن لو كنتَ تودُّ أن تفهم ما أقوله هنا بحق، أيّها القارئ الكريم، فخلّص ذهنك من هذا الوهم أوّلاً، فالله يصنع "بـــ" و"مــن" كلمته نفسها، كُن فيكون الشيء من الحرف نفسه. وتلك هي صَنْعَةُ الله التي نَوَّه عَزَّ وجَلَّ لإتقانها وربطها بعلمه وخبرته السابقة لما يكون من أعمالنا، كما بيّنتُ في آية {والله خلقكم وما تعملون} وكذلك يقول تبارك وتعالى {صُنْعَ الله الذي أتقن كُلَّ شيءٍ، إنَّه خبيرٌ بما تعملون}. فلا مضاهاة لما يصنعه الله، بل واستحالة حتى تصوُّر البشري لذلك الصنع ناهيك عن مضارعته.
وبالعودة إلى رمز الكنائس هذا أقول، إنَّه ورموزٌ أخرى مهمَّة، كلّهن مشتقات من الكيفية واللحظة التي قَتَل فيها قابيل أخاه، والإبدالات التي وقعت على تلك الرموز حسب العصور والديانات لم تكن سوى فهومٍ مختلفة لأساس شكل واحد، انطلق من تلك الأعضاء المُصَوَّرَة.
النص القرآني يقول
{واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قَرَّبا قرباناً فَتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الأخَرِ قال لأقتلنك، قال إنَّما يتقبّل اللهُ من المتقين (27) لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمينَ (28) إني أريدُ أن تبوء بإثمي وإثمك فتكونَ من أصحاب النَّار وذلك جزاء الظالمين (29) فَطَوَّعت له نفسُهُ قَتْلَ أخيه فقتله فأصبحَ من الخاسرين (30) فبعث الله غُراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سَوْءة أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثل هذا الغراب فأواري سَوْءة أخي فأصبح من النادمين (31)}.
أمَّا بخصوص الرموز فدعنا نُشَكِّل المبدأ الأساس للقصة فيها. فهي تمنحنا التصوير ذاته الذي تقوله الآيات أعلاه، من كون اليد التي انبسطت، أي امتدَّت بالعدوان هي يد قابيل. ويبدو أنَّ هابيل عليه السلام كان يتضرّع إلى الله حينما (قَفَّاه) أخوه وشدخ رأسه بالحجر. الفعل (قَفَّ) أي جاءه من الخلف، فعل مشهور في عاميتنا.
إذا هُوجم منظر الإنسان البارك للدعاء والتضرّع من الخلف، كما في الرموز الفرعونية، وما سنراه لاحقاً من هذه المادَّة، تُصَوّره حميرا في مقطع قوي وبليغ، قمتُ بشرحه سابقاً في الكوشرثيا وفي الليركس، كأنَّما يتناول هذه الحادثة حرفياً، وهي فعلاً متوارثة الرموز، تقول عن الممدوح:
{إيدك ما بتشيل القال
وإيدك تحقب الغدَّار}.
إيدك ما بتشيل القَال، وقاف (القال) تُنطق على طريقة القاف السودانية لمفردة القُبَّة مع تفخيم أكثر. أي أنَّ يدك لا تقتل الشخص المتقلقل، وهو القاعد علي قَلَلَيْه، أي من ما يشبه جِلْسَة القرفصاء. ولاحظ للقافات هذه كلّها جاءت من هنا، هذا هو جوهر الرمز.
قفّاه، قتله، قبره، قبة الضريح، قبح، قضى نحبه، قانون، شنق، خنق، قتل، قيَّده... إلخ.
فالممدوح الذي تكَلَّمَت عنه حميراء بوسع يده أن تأخذ الغَدَّار الذي يأتي لكي يطعن من الخلف. ولذلك اسْتُخْدِمَ الفعلُ "حَقَبَ"، وفي "أساس البلاغة"، احتقب الشيء واستحقبه، حمله خلفه. ولها معانٍ أخرى كثيرة يدور معظمها حول الخلف. وهنا، في هذا الليركس، هي بمعنى أنَّ الممدوح ماهرٌ بحيث يتصرَّف و"يحقب" هذا المُطاعن من الخلف.
وإنّي حين النهاية سأقوم بمراجعة ثانية لأنّ إحالة منظر البشري البارك إلى آدم نفسه حينما تقبّل اللله كلماتٍ منه وتاب عليه، وعلاقة ذلك بجبل البركل عندي أرجح. ولكن الحقب المختلفة كانت تخلط بين الرموز كثيراً كما بيّنتُ سابقاً، وهذا التحقيق ليس موضوعي الآن.
ولكن في جميع القصص أنَّ هابيل كان أقوى من أخيه القاتل، ولكنَّه اختار أن لا يقاتل، فلم تقم يده القوية باحتقاب أخيه المُطاعن من الخلف، وربما هو في بعض الرموز كان يتضرَّع، كان يصلّي ضارعاً لله، الرموز فيها ما يدلُّ على ذلك، ولكن هناك من القصص ما يقول إنَّه كان نائماً، وكلّه يتماشى مع الآيات، مع تثبيت أنَّ الآيات بكل حسم تقول إنَّ هابيل اختار طريق السلام بنفسه، وبمطلق إرادته. هذه نقطة جوهرية. فقد يكون القتل جاء لاحقاً لتلك المشاجرة، ونجد رموزاً كثيرة جداً تُشير إلى مفردة "كواريك" السودانية هذه، متعلّقة بالحدث وتلك اللحظة، أي "عَوَّة" الدَّيَّا كما نقول.
الرموز الكثيرة التي انطلقت من هنا، كانت كلّها تأسيسية وكُبرى، لذلك أرجو الانتباه الكبير لها.
1- الرمز الأوَّل والأساسي هو يد القاتل بجميع أنواعها، وارتباطها الأمثل بحرف "ب: بهيمة، Beast" التابعة لمدينة بور.
2- الرمز الثاني هو تصوير يد القاتل من خلال (أ) المقلاع "النبلة" (ب) الحجر.
3- الرمز الثالث هو الهروب بجميع وسائله، الأرجل بجميع أنواعها، أو غير ذلك من وسائل للهرب. وله علاقة بالقيد بجميع أنواعه التي سأحتاج لها مستقبلاً "الزرديبة Zaradiba" "الصريمة Sarima"، "الخلاف Khilaf".. إلخ
الرموز الأساسية الوارثة لذلك، هي الآتية:
1- رمز الصليب الكنسي بجميع أشكاله هو عبارة عن تركيب للرجل مع الساعد الممدودة.
2- رمز الميزان الخاص بالعدالة في جميع الثقافات البشرية يعود أيضاً إلى رموز هذه الحادثة. وهو إما تركيب لموازين من الساعد، أو تركيب لموازين من المقلاع.
3- جميع أنواع الأسهم والدوال والأقواس تعود إلى هذه الحادثة.
4- معظم أنواع رموز الترقيم في الكتابة نفسها، مثل فصلتين، نقطة، شولة، قوسين... إلخ، يعود أيضاً إلى هذه الحادثة.
إذن هذه الحادثة ذات أهمية كبيرة في تاريخ الرموز واستثنائية، ولذلك دعني أُلْقِ عليها الضوء من خلال بعض رواياتها، التي تَنَاقَشَ حولها المسلمون الأوائل، قبل أن أذهب وأتابع القصة من خلال براهين الرموز وقراءتها.
وهذه إحدى وسائلي في البحث، وهي أن أربط الرموز القصصية والتاريخية، مع الرموز المصوَّرة، ثم أقارنهما معاً بحوافظ المفاهيم الحيّة.
أورد البخاري في صحيحه، عن عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلماً إِلا كانَ على ابن آدمَ الأوَّلِ كِفلٌ من دَمِها، لأنهُ أولُ مَن سنَّ القتل».
والنبي عليه السلام هنا، يقصد القاتل قابيل، ويقصد أنَّه أوّل من سنّ القتل في عالم البشر، لأنَّ القتل في عالم الإنسان كان موجوداً كما مَرَّ بنا سابقاً، وكما يحدّثنا القرآن نفسه {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّسُ لك}.
وأورد الإمام أحمد في مسنده عن بسر بن سعيد: «أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم».
ومعنى الحديث أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم قد تنبأ بالفتنة التي حدثت بعد رحيله، وسعد بن أبي وقاص كان حاضراً لتلك النبوءة وسأل النبي، عما إذا شهد سعد نفسه تلك الفتنة وجاءه "مسلم" ممن سيشتركون في تلك الفتنة إلى بيته مقاتلاً وحاول أن يقتله؟ أي لم يعبأ ذلك المحارب باعتزال سعد للفتنة وأراد قتله رُغم اعتزاله! ولكن مع ذلك فالنبي أمره أن يكون موقفه بصدد ذلك المقاتل مثل موقف ابن آدم الذي لم يقاتل. يعني بالطبع الاسم الرائج لابن آدم وهو "هابيل"، أي أن يستسلم سعد في وجه ذلك المقاتل كما استسلم هابيل في وجه قابيل ولا يقاتله. والشرع الإسلامي ذاته في بواكيره كان يُحرِّم القتال تحريماً واضحاً حتى ضد الكافرين، والمرجعية هي هذه القصة ذاتها، قصة هابيل وقابيل.
والحديث هذا مهم لموضوعتنا المطروحة حالياً، وقد رواه أبو داؤود والترمزي وابن حبّان كما ورد في تهذيب الكمال.
وفي تفسير ابن كثير تردُ هذه التعليقات التالية لكبار المفسّرين على مضامين هذه القصة أعلاه، أي على أمر النبي لسعد بمحاكاة استسلام هابيل أمام مقاتلٍ مسلم.
{قال مجاهد: كان الفرض عليه حينئذ ألا يستل أحدٌ سيفاً وألا يمتنع ممن يريد قتله. قال علماؤنا:
وذلك مما يجوز ورود التعَبُّد به، إلا أن في شرعنا
يجوز دفعه إجماعاً وفي
وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يُجَوِّزون للمَصُول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة. وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج، قال ابن عطية: وهذا هو الأظهر}.
أمَّا كيفية القتل فقد وردت في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، إذاً المسؤول عن الرواية هو ابن حجر العسقلاني وليس البخاري.
{عن السدي: شَدَخ قابيل رأس أخيه بحجر فمات. وعن ابن جريح: تَمَثَّل له إبليس فأخذ بحجر فشدخ به رأس طير ففعل ذلك قابيل وكان ذلك على جبل ثور، وقيل على عقبة حراء، وقيل بالهند، وقيل بموضع المسجد الأعظم بالبصرة}.
هذه الأماكن سآتي للتحقيق فيها، أريدُ القول إنَّ الروايات الراسخة لم تدخل نفسها في غلاط مع الأماكن وغيره، ولكن الرموز تفعل.
وبالعودة إلى قراءة الرموز، نجدُ أنَّها بالأصل لا تحتاج قراءةً، فقط لو قام الشخص بجمعها، وتصفيفها، فهي كافية ووافية، ولا يدانيها شك أو اشتباه على الإطلاق، البتة، وهيهات.
رموز الصليب وميزان العدالة والمشنقة والترقيم.. إلخ، ليست موضوعي الآن، وإنَّما قصدي الأساس هو أن أربطَ تَيْنَكَ اليدين باليد المبسوطة للشرِّ، مع الحجر والمقلاع، وما تبقَّى إلى حين مواضعه ومواقيته من مدن الأسماء.
النقطة الثانية التي أريد أن أشير إليها، وتنبّه لها، هي مسألة إثبات وضعية الدعاء أو التضرّع في الرموز، التي بالوسع ردّها إلى آدم ثمّ هابيل، عليه السلام، فهو أبو السلام والسَّلَم، ومحاربة القتل وإهدار الأرواح. كل ذلك يمكن إرجاؤه إلى حين اكتمال القدر المطلوب من مدن الأسماء لأنَّها أهم وتكشف الأشياء من جذورها. كي يصبح في وسعي بعدها، بإذنه تعالى، تقديم تصوُّرٍ كامل للقصة كلّها، وللرموز التي هي أكثر صحة وأكثر قدماً من أخواتها.
ولا بأس من الاستفتاح بأربعة رموز فقط، عن الصليب وميزان العدالة وعلاقة المقلاع بالمشنقة، وكذلك بالعنخ رمز الحياة، كي لا تتبقَّى في قلبك ذرة شك حول هذه المسألة.
1- الصليب وشاهده:
وها نحن نراه أمامنا، فهو قد كان إذن في أصله القديم، تركيباً من اليد المبسوطة والكراع. أي كان نوعاً من أنواع التَّطَهُّر الكنسي الأوّل المنتمي إلى مدينة الاسم كنيسة بشمال السودان، والتي سنقوم بتفكيكها حرفاً حرفاً بإذنه تعالى، وانظر لكون الكنيسة المفردة الموجودة في لغات الدنيا جمعاء، تبدأ بـ"كاف" الكراع. تركيباً لها مع رمز خطيئة اليد التي بُسطت للعدوان والإثم، وهي دالّة حرف (دال) الذي قلتُ إنَّه و(الذال) يمثلان ذيل الأبجدية من ناحية الدلالة على السوء.
لماذا؟
لأنَّ الدال الكُبرى، الكبيتل، من فعل الله، كانت قد ارتبطت بالشدَّة في الخلق لا اللطف، كما سيأتي تبيان ذلك. الآن نحن نقول حرف شدة وحرف لين ولطف، دون أن نعرف حقيقة هذه المصطلحات السماعية فعلياً، ومعرفياً، وتبيان ذلك يأتي مع مقبل المواد.
إذن من "دَيَّا" {يا ود رَيَّا تَعَبِّي الدَّيا}، كانت دال اليد المبسوطة بالشدة، ومن الكراع "بَ" البهيمة المجنونة التي قتلت ثم (بَرْدَبَتْ) من ميزان العدالة فراراً وبكت من ثقل الإثم على الضمير دماً وندماً، فلم يخَفِّف عنها صولجانٌ بعدها ولا غيره. واربط هذه المفردة بمفردة "مَصُول" عليه، في الحديث النبوي المتقدِّم ذكره. وبالفلوس، والألعاب، والميزيكا والغناء، لأجل النسيان وهيهات.
2- ميزان العدالة:
(أ) المتكوِّن، من تركيبة الكراع والساعد:
وهنا نرى الكراع، فوق الساعد المبسوطة للشَّرِّ بحجرها، كما نرى عصاً شهيرة من العصي السودانية على الجانبين، وهي تقع ضمن مجموعات العصي التي تُسمّى "أم جبرين" وهناك لوح في الخلاوي السودانية بذات الكيفية مع تعددية في الأشكال وَيُنسب إلى "جبرين" أيضاً. وهو غير اللوح "أبو قرينات" ومجموعات العصي "أم قرينات". وهذا ليس موضوعنا الآن. اربط العصا بمن عصى والمعصية. أمَّا استخدام مفردة جبرين في دارجة السودان بدلاً عن جبريل فيُوجد في العربية، يقول المتنبي
لعظمت حتى لو تكون أمانة ... ما كان مؤتمناً بها جبرين.
ونجده في أبتيات أخرى بشكله الذي يُبادد الحالي تماماً، أي أنَّ تطويره لم يكن شيئاً معاصراً بالأصل، فهو أمر راسخ:
(ب) المتكوِّن من المقلاع:
وهذا الرمز تنسبه رموز حقب تاريخية معينة لعملية القتل، فهي بذا تقول إنَّ الرمي كان بمقلاع ولم يكن بيد دون أداة.
(3) المشنقة كعقاب للقاتل.
اربط ما تراه أمامك أعلاه من الشكل السابق ذاته، أي شكل المقلاع بكل ما تعرفه من أدوات تقطير، قطرة قطرة، وبالطاقة التي يحصل عليها مُجري التقطير والمكاسب، ثم اربطه بالمشنقة من بَعْدُ.
والمشنقة ذاتها بالإنجليزية اسمها Gibbet أي هي من الفعل السوداني (قَبَّ يقبُّ قبّاً) المرتبط بقب الأشياء من أعلاها مثل القش، وبالقبة والأضرحة. هذه مجرَّد إشارة لحين اكتمال التدابير، والمفردات المستخدمة لهذه المفردة بجميع اللغات تأتي إلى هذا الموضع.
وانظر لموقع الحجر هنا كمرتكز للمقلاع ذاته. ومن هنا جاء الصفر، قتل أخاه وأصبح صفر اليدين. وجاء الصفير المرتبط بالمقذوفات، وبطائر الحزن وهو الغراب كما يخبرنا القرآن بعد دهور طويلة، ولكن الأمم الأولى استخدمت ما شاءت من الطيور، ونسجت ما شاءت من الأساطير حول بواكير تلك القصة.
والمقلاع بالإنجليزية هو Catapult وانتبه للكديسة، القطَّة هنا، وروحها المتنمّرة التي تحدثتُ عنها في مدينة الاسم توريت، وعن ردِّ الآثام لتلك الروح.
ولكي لا تبدو هذا الخيال غريباً فزنه مع الرمز أدناه، وسيتضح أمامك كل شيء
(4) العنخ أصله هو المقلاع:
ها هو أمامك، انظر إليه، فقد كان في أصله هو المقلاع. فالأخُ الذي قتل هو الذي بقي حيّاً، والذي لم يقتل "راح" فيها. وانتبه لمفردة "راح" التي يستخدمها السودانيون بدلاً عن أي لفظة أخرى تدل على الموت، خصوصاً في المناطق الريفية، واربطها بأَرْوَحَ و{ينكب شيحك ومرايق ريحك}. وأيضاً العنخ هو مقبض كل نصل وسيف، بعقدته التي تركز الكف من المؤخّرة، وهي العقدة الأولى بين الأخوين، التي تبعت البشرية كلها في حروبها بعضها ضد بعض. وهي سُرَّة الحياة والميلاد. وهي السَّوط فقد ساط قابيل عين أخيه ودماغه ليحيى وحيداً. ولو انتبهت فالسيوف والسيطان والرماح، التي جاءت من رمي المقلاع، كلّها كانت تتميّز بسيور جلدية تزينية، لدى المقبض، بما يعطيك شكل هذا المقلاع أعلاه و"النبلة" بالضبط والربط.
وأوقف هذه المادَّة هنا، فهي ليست هدفي، وإنّما جئتُ بها لتأكيد أنَّ المفاهيم الكنسية برموزها هي مفاهيم غابرة متعلّقة بخطيئة آدم وحواء وقابيل، وأساسها في الدنيا كلّها هو مدينة الاسم كنيسة.
ولأوكّد أنَّ المفهوم الأساسي للعدالة ورموزها جاء من جريمة قابيل.
وأنَّ المفهوم الأساسي من كون عقاب القاتل يجب أن يكون الشنق جاء أيضاً من حبل المقلاع ذاته الذي تقول بعض الرموز إن قابيل رمى به هابيل فأرداه قتيلاً دون ذنب.
ودعنا الآن نبرهن مسألة أنَّ هذه الأعضاء في الأبتيات هي ذاتها المرتبطة بأصل هذه الرموز، وسأدع رمز الكراع لأنّ قصته متعلّقة بما ذكرته عن الرموز التأسيسية أعلاه وستطول، وهي إن لم تكن أكثر إحكاماً مما سأطرحه الآن فليست أقل.
بدءاً لا بُدَّ من ملاحظات أساسية، وهي أنَّ الأيدي المنتشرة في أغلب الأبتيات معظمها أيسر، يُوجد منها أيمن ولكنّه قليل للغاية، وجداً، أي في فترات تاريخية ما من تاريخ الرموز، ولكن الأعم هو الأيسر.
اليد المبسوطة بالشر، جذعها ذاته هو مقلاع، أو مَـنْجَنيق صغير، ولاحظ لـ"مَنْ" هنا، وهذا يحتاج إلى شغل آخر مثل الذي قمتُ به مع مَنْدوف، فالوثنية هذه قد لغوثت الأشياء كلّها، وإلا لما احتجنا لأنبياء ولا رسل. ولكن هذا ليس موضوعنا الآن. ولكن بالإنجليزية يقال له
Mangonel واختلافه عن "المنقة" المتقدّم ذكرها مع المن، اختلاف اتّجاه لا أصل، والفارق عن Manga هو حرف الوقود (و: o) لو كنتَ تذكره من مدينة الاسم بور، وكذلك يقال له بالإنجليزية Catapult.
(أ) اليد "1" المبسوطة بالشر
1- شاهد أنَّ الساعد نفسها عضدها يقوم من مقلاع:
2- شاهد أنَّ الساعد نفسها كانت مربوطة في الرموز بالحَجَر:
3- شاهد أنَّ الساعد هي نفسها التي حملت المقلاع وَرَمَتْ أخاها:
4- شاهد أنَّ أبتيات أخرى نَسَبَت لتلك الساعد حملها لنصل "كمان":
5- شاهد أنَّها الساعد نفسها التي سبّبت الموت:
الشيء الذي تحمله الساعد هنا ليس حجراً وإنَّما هو هرم أو قُبَّة، أي تحمل ضريحاً، نعرف بالطبع أن القباب والأهرام هي مدافن.
6- الدليل الذي يُوَثِّق هذا الشاهد ويُعَضِّدَه أن تصوير الجنازة ذاته مأخوذ من تصوير هذه الساعد القاتلة نفسها:
وانتبه لكون أرجل النعش هي لحيوان، لأنَّها ستمرُّ بنا مع العرش ورموز ثانية كثيرة. أي أرجل البشري البهيمة، الذي قتل وملك وكان له صولجان وفلوس وجاه زائف.
وهذه الحياة المعسولة ظاهرياً، بينما هي في حقيقتها فطيسة، تعود بخطيئتها إلى أصلها من الفاكهة المحرّمة، ستتواصل في شكل الرموز إلى اليوم. كي يكون شكل الجنازة هو شكل الحلويات من جنس حلويات سعد، المكرفسة لدى منتصفها. انتبه لكون شكل ذلك النوع من الحلويات يُبادد شكل الجنازة الملفلفة تماماً.
7- وهنا نجد تلك الساعد هي المادَّة ذاتها التي تكوَّن منها شكل النبوت آلة القتال والموت المعروفة:
وشكل النبوت ذاته هو ما تولّدت عنه جميع أشكال السواطير.