العم العزيز محمد بدرى رحمة الله عليه كان صنديدا فى شبابه . وعاش حياة عاصفة . استقر بعدها وكان عنوانا للاتزان والمواظبة على الصلاة والتدين . ومات عفيف الـيد طاهرا حتى فى عداوته رحمة الله عليه . قال مرة لأحد رجال الأمن فى زمن نميرى عندما تطاول عليه ( أنا يا ولد حأعرف كبارك وحأصلهم) فتغير اسلوب رجل الأمن فى طلمبة البنزين وبدء فى الاعتذار , وتغير الى شيىء مختلف جدا .
أحد رجال الأمن حضر الى جامعة الأحفاد , وأبدى بعض العنتريات . فسأله العميد يوسف بدرى عن اسمه ثم قال له ( جدك كان راجل فارس فى المهدية , وجدك الثانى كان راجل فاضل مشهود له بالكرم ..... الخ ) الشغلة ده شغلة كعبة يا ولدى ما شغلة أولاد ناس . فتراجع الرجل وانسحب وسمعت أنه ترك الأمن .
صديقى وعمى محمد بدرى رحمة الله عليه صفع رجل بوليس فى بداية الخمسينات وهو فى عنفوان شبابه لأنه تطاول عليه . وعندما أخذ الى مقابلة الضابط العظيم , كان ثابتا ومستعدا لأى شىء. ووقتها كان أبّارو والذى صار على رأس جهاز المباحث , ضابطا صغيرا . وعندما لاحظ الضابط الكبير أن محمد بدرى متشددا فى موقفه قال له : ( طيب أنا من دربى دا هسى حأمشى لى بابكر بدرى) . فتغير موقف محمد بدرى , وطلب منه الضابط أن يعتذر للعسكرى وأن يطيب خاطره . واذا وافق العسكرى فالأمر يعتبر منتهيا . واحتج أبّارو كعادته لأنه كان متشددا . وعرف كأكثر رؤساء الجهاز كفاءة . وكان لويّس سدرة صنوه فى ادارة البوليس . وانتهى الأمر بسلام .
الأخ عبدالرحمن حفيد الخليفة عبدالله التعايشى كان زميلنا فى مدرسة الأحفاد الثانوية . وكانت له مقدرة كبيرة فى اثارة حفيظة الآخرين . وبعد أن قال الوالد عبدالله البنا أمامه فى الفصل أن جده الخليفة عبدالله التعايشى كان رجلا تهابه الرجال فى أمدرمان وسمعه البنا يقول فى آخر أيام المهدية وهو يخطب فى الجامع : ( ناس أمدرمان يا أولاد الخنا , يا أولاد الزنا , والجميع يطأطئنون برؤوسهم ويقولون , آمين , آمين يا خليفة المهدى ) . صار عبدالرحمن أكثر تطاولا . وحتى عندما كان يدرس فى النمسا فى الستينات , كان يحب الفلسفة والتطاول بالرغم من طيبته .
وانتهى الأمر فى أحد المرات بأن صفعت عبدالرحمن . فذهب شاكيا الى يوسف بدرى الذى قال له : ( تمشى تشتكيه فى البوليس ) . وفجأة يحضر رجل بوليس وهو يمتطى دراجة البوليس ذات اللون الرمادى ويسلمنى أمر حضور . وعندما طلب البوليس أن أرافقه قلت له : ( انت ما بى تفهم ؟ دا أمر حضور , مش أمر قبض , أمشى وأنا بجى على راحتى ). وبعد الفطور المدنكل مع الشلة ذهبت لمركز البوليس الأوسط بحثا عن الضابط ابراهيم جلال . فأدخلنى الأمباشى لشاب طويل وسيم فى منتصف العشرينات ومعه ضابط آخر أكبر سنا . فانتهرنى ابراهيم قائلا : ( انت قايل نفسك شنو تكفّت أولاد الناس ؟ ) وردى كان : ( انت فاكر نفسك شنو ؟ قاضى ؟ . دا ما شغل ضابط بوليس . اذا زول فتح بلاغ يأخذ أورنيك 8 ويمشى المستشفى اذا فى أذى . وتانى يوم يمشى القروية يؤيد البلاغ , بعد دا البلاغ اتحول لمجلس القضاء الأوسط . اذا عندو شهود الغرامة جنيه . المشكلة شنو؟ ) وشاهدت الابتسامة طيلة الوقت على وجه ضابط البوليس الآخر . وانتهت بضحكة صغيرة .
واستفسر ابراهيم جلال وله التحية الآن أنّى كان , قال : ( كيف العميد يوسف بدرى يقول رافعين ايدم منك ويخلى طالب تانى يجى يشتكيك ؟ فاكتفيت بأن انتصبت واقفا قائلا : ( عندكم أمر قبض من قاضى ولا أمشى ؟ وما فى قاضى حيديكم أمر قبض لأنو ما فى أذى جسيم . ) وخطوت نحو الباب بطريقة استفزازية والضابط الآخر لا يزال يضحك . وعندما وصلت الباب قال لى ابراهيم جلال : ( سلم على خالتى أمينة وقول ليها ابراهيم جلال بيسلم عليك) . وبدأت مرحلة الترجى , فى الحقيقة الولد دا غلط علىّ وأنا ما كان قصدى أضربو , وأنا هسى أمشى أعتذر ليهو ..... الخ ) فأنفجر الضابط الآخر ضاحكا وقال : ( وين الفصاحة بتاعة قبيل ؟ ) .
وعندما رجعت للبيت أخبرت والدتى بأن ابراهيم جلال يبلغها تحياته , فقالت : ( يا حليلو ود آمنة , لاقيتو وين ؟ أوعك تكون سويت ليك مشكلة وودوك البوليس ؟ ) . فطمنتها بأن ليس هنالك مشكلة .
وبعد مدة كنت أبنى فى كشك مرطبات فى شارع الأربعين بالقرب من مرفعين الفقرا وفى مواجهة منزل العم عبدالله امام والد مولانا عبدالمجيد امام قاضى المحكمة العليا وبطل أكتوبر . وكنت أمتطى دراجة وأمامى على ماسورة الدراجة يجلس عزالدين آدم حسين صاحب الكشك الذى صار طبيبا فيما بعد وكان من خيرة ملاكمى أمدرمان وبطل الجمهورية . وكالعادة كنا نتوسط الشارع . وعندما كنا أمام مدرسة أمدرمان الأميرية أحسست بيد على كتفى الأيمن ولم ألتفت الى أن نادانى ابراهيم جلال باسمى . والحركة وقتها على اليسار , وقال لى ضاحكا : ( طيب مترادفين وفى أكبر شارع فى البلد ما تخليكم على الجنب ) .
ثم سألنى ابراهيم جلال عن مشكلتى مع الاخوان فتحى رمضان وعلى الخانجى , وعلى عبدالقادر عمر الصادق . وهذه الشلة كانت تقف كل مساء أمام محلات عبدالغنى لتعليم قيادة السيارات فى مواجهة دار الرياضة أمدرمان . وهذه المجموعة كانوا شباب يمتازون بالوسامة الشديدة ويكبروننا قليلا ومن أسر ميسورة وكلهم موظفون . واشتهروا كأكبر دنجوانات بأمدرمان . وكنا نشاهد معهم فتيات جميلات فى الحدائق العامة وعلى شاطىء النهر . وكنا نحن نعتبر هذا قلة أدب أو قد يكون حسادة. وخوفا من أن يخبر ابراهيم جلال والدتى خاصة بعد أن قطعت لها عهدا بالاّ أتعدى على أى انسان , قلت : ( أنا عارف الجماعة ديل صحبانك بتقيف معاهم مرات , اذا قلت لى خليهم أنا ما بتعرض ليهم . ) فضحك ابراهيم وقال لى هامسا : ( ما تخليهم بس ما ترفع ايدك عليهم .)
البوليس قديما لم يكن يستطيع أن يتعدى على أى انسان , ولا تفض مظاهرة الا بوجود قاضى . ولا يعتقل أى انسان الا بأمر قبض من قاضى . والبوليس شخصية محبوبة يقابلهم الناس باحترام وود مثل عمنا ضرار المشهور بشنب الروب والد الاخوة حسن وحسين التيمان , وصول أمدرمان , والشاوشية مثل الشاويش ميرغنى الذى مات فى حوادث أول مارس , وميرغنى الآخر الذى كان يضرب به المثل فى حسن التصويب وكان يقتل الكلاب الضالة فى الفجر , وعمنا عبدالله دلدوم , والد زميل الدراسة حبيب ونورالدائم وشقيقهما الأكبر عطا المنان الذى صار رجل بوليس كذلك , وحسين الذى كان رجل حريقة .
من العادة أن يحضر العربجية قبل المغرب الى النيل عند الطابية وحديقة الرفيرا , وتستمع الخيول بحمام وبعض السباحة ثم تتناول عشاءها المكون من رأس برسيم أو لوبا ويمكن بعض العيش , ويجلس العربجية مثل الأخ فضل المولى بشنبه الضخم وقامته الطويلة , والأخ سقيد , والجد حبة حبة وآخرين للتسامر ويلف من يلف سيجارة من البنقو . وكنت أنضم اليهم بالرغم من أننى لا أدخن .
كثيرا ما كنت أشاهد ابراهيم جلال وزميل آخر من البوليس يمرون على ظهر الخيول عند الأصيل على شارع الزلط . وتصادف فى أحد الأيام أن شاهدت من البعد وأنا ألقى بالرمّاى فى النيل ابراهيم جلال يتحدث الى اثنين من رجال البوليس ويشير نحو مجموعة العربجية فأسرعت نحو العربجية وحذرتهم . وعندما حضر رجال البوليس كان العربجية وجيادهم داخل الماء ويسبحون . ورجال البوليس يقفون محتارين . وعندما وصل الضابط ابراهيم جلال وزميله اشتكى له رجال البوليس بأننى قد حذرت العربجية فسألنى : ( الجماعة ديل صحبانك ؟) فاجبت بالايجاب . فهز رأسه وذهب لشأنه وكانت تلك آخر مرة نتقابل فيها .
قديما كان الانسان يخشى أهله قبل القانون والآخرين . لأنهم أول من يلومك , و يقفون ضدك اذا تعديت حدودك . فى كتاب (قدر جيل) للعميد يوسف بدرى , ذكر أن الأحفاد حاولت أن تستعيد الدكان الذى كان يستأجره الأخ محمد ادريس بشارع الموردة والذى عرف لعشرات السنين ببازار الأحفاد . ومدخل محمد ادريس للاحفاد كان بواسطة قريب له تربطه صداقة مع يوسف بدرى . وانتهى الأمر برفع الأمرللقضاء فى الثمانينات . وشاهد محمد ادريس كان شقيقى الشنقيطى ابراهيم بدرى , وممثل الأحفاد كان عمه محمد بدرى . وأذكر أن محمد بدرى كان يحضر لأخذ الشنقيطى الى المحكمة . ومحمد ادريس يحضر الى منزلنا ويقابل محمد بدرى فى بعض الأوقات وتؤجل القضية ويجلسون للمناقشة . والأمر يتم بطريقة حضارية بدون تشنجات , وحتى عندما تركت السودان فى 1988 كانت القضية لا تزال أمام القضاء . والآن قد انتقل الجميع الى رحمة ربهم , ولحسن الحظ بدون عداوة . والآن نسمع بمن يسرقون وينهبون ويتغولون على الحق الخاص والعام وأهلهم فخورون بهم .
الأخ ...... كان متعهدا بحديقة الرفيرا بعد أن فاز بالعطاء . وأهله كانوا يرفضون مشاركته فى الصرف على أبنائه وعلى المنزل لأن الحديقة يمارس فيها شرب الخمر الذى يحضر من بار حليم وبار الريس والأخ يقدم المرطبات والعشاء فقط ولا دخل له بالخمر . أين نحن الآن من المتاجرين بقوت الشعب ؟
العتالة مثلا كانوا جزء من نسيج أمدرمان , ولم تكن الوظيفة أو الدخــل يفرق بين الناس . عثمان طه رحمة الله عليه كان عربجيا . وكان صديقا لصيقا باللواء حمد النيل ضيف الله , شقيق المربى الأسطورى هاشم ضيف الله . حمد النيل ضيف الله كان قائدا للجيش السودانى . وله ابن اسمه عثمان طه , ولعثمان طه ابن اسمه حمدالنيل . هل يمكن أن يحدث هذا الآن ؟ .
الأخ صعلّك الذى ذكرته فى خاطرة أمدرمانية كان يسكن فى شارع جامع الهاشماب .و كان والده عربجيا وهو جار العم الصادق الطيب مدير عام السجون ووالد صديقنا لاعب الكرة المميز عدلى. وفى أكتوبر كان العم الصادق الطيب يبكى بدموع الفرح ويقول للمسجونين السياسيين والضباط الذين حكم عليهم بأحكام طويلة لاشتراكهم فى محاولات انقلابية (الحمد لله أنا كل الوقت دا كنت بدعوا ليكم وأطلب من الله أنو ما تحصل ليكم حاجة وانتو تحت مسئوليتى) . فى زمنه كما عرفت من الكثيرين وآخرهم المناضل سمير جرجس قبل سنتين عندما كان فى زيارتنا أنهم كانوا احدى عشر سجينا سياسيا وكان تعيينهم لوح ونصف من الثلج وبضعة دجاجات و ثلاث كيلو لحمة وكبدة وبيض فى الصباح وسمن ودقيق. والبلكامين يحضر فى الصباح لأخذ الطلبات . حتى نوع الفاكهة والحلو , وأنه كان يصنع الفطير المشلتت الذى كان الشهيد عبدالخالق محجوب يحبه . كما ذكر أن أحد المناضلين الذى عمل فى أقاليم كردفان النائية وشقى كان يأخذ قطعة المنقة الباردة ويقول ضاحكا : (اللهم أدمها نعمة وأحفظها من الزوال) . وفى نفس الشارع سكن والدنا محمد التجانى سلّوم والد عبداللطيف والتجانى وصلاح وشقيقهما الكاتب الصحفى الكبير الفاتح التجانى رحمة الله عليه . هل من الممكن الآن أن يكون مدير عام السجون جــــــارا لعربجى ؟ .
عربة الكارو التى انتشرت فى العشرينات كانت ثورة فى عالم النقل . وكان صنّاعها هم الذين يصنعون السواقى . وأهم شيىء كان الصينية المصنوعة من الحديد التى تجعل مقدمة العربة تلف يمينا وشمالا . والعجلات كانت مصنوعة من الخشب حتى الخمسينات وتغطى بسير من الحديد , ثم صار هذا السير من المطاط . وأخيرا صارت لها اطارات منفوخة وبلى . ومحور مثل السيارة .
من أشهر العربجية كان العم شوّاش الذى واصل عمله الى عمر متقدم . وبسببه فقد الناظر الطيب شبيكة احدى عينيه . فعندما تعلق بعربته فى صباه أصابه العم شوّاش بالسوط . ولم يزد العم محمد شبيكة من جملة : ( الولد ولدك ) . بالرغم من أن أبناء عمومتنا آل شبيكة كانوا أهل ثروة وسطوة .
وأنا فى الخامسة عشر اصطدمت بأحد صبية العربجية فى موقف الكارو جنوب البوستة فأتانى فضل المولى رافعا سوطه بعيونه الحمراء وشاربه الضخم وقامته الفارعة قائلا : (تمشى و لا أقطع لحمك؟) فتقدمت نحوه قائلا : ( انت لو راجل بتسوى ما كان تحرق طلمبات البنزين زى ما قلت لمّن وقّفوا الكارو من الكبرى , وتانى بعد دا تعال الموردة أدرج ليك سيجارة ) . فقبض بطنه وانثنى ضاحكا . ولم يكن يعرف أننى أعرفه وأعرف أنه قد هدد أمام المجلس البلدى بحرق الطلمبات عندما قرروا منع الكارو من عبور الكبرى فى نهاية الخمسينات لأنهم مع الترام يعرقلون الحركة وصارت بيننا صداقة لم تنقطع حتى فى الثمانينات عندما رجعت للسودان ووجدته قد ترك الكارو وصار حمّارى .
قديما لم يكن من الممكن أن يصعّد الناس الأمور . شقيقى يوسف بدرى شلت رجله وهو طفل لأنه كما يقولون : ضرب ابرة غلط . والحقن قديما كانت تغلى وتسن وهى ضخمة , وفى عيادة العم الدكتور على اورو أصيب شقيقى بعاهة مستديمة , وربما بواسطة الممرض , ولم يعاتبه أى انسان . وكما أوردت فى كتابى حكاوى أمدرمان أن رجلا طويل القامة حضر فى مأتم وهو يمشى بعكازين وقال ضاحكا : ( أدّونى يا أولادى كرسى أخت فيه كراعى الكعبة دى لأنه كراعى الكويسة قطعوها بالغلط ) . وعرفنا منه أنه بعد قطع الرجل السليمة صرفوا النظر عن الرجل الأخرى فعاش بها بقية حياته , وكان يبدو سعيدا غير حاقد وكأن الأمر مزحة .
شوقى