ادم ادريس ( خال فاطمة ) عندما يتجلي
حكي باااااااتع وترياااااااان ياخ
نوستالجيا الأرياف و سحر المطرة...
و ما زلت أذكر لحظة وصولنا إلى تلك القرية الوادعة (البان جديد) مع أول قطرة مطرة نازلة من السماء و كأننا طائر السمبر في تمام دورته و هجرته الموسمية... نأتيها بقلب خالي إلا من بعض حنين و محبة و إلفة. أذكر أن العربة التي تقلنا كانت تتوقف في منتصف الطريق الرئيسي للقرية دون خوف من ملاحقة بوليس المرور، لا شيء ممنوع بحكم القانون هنا؛ فالسلوك في مجمله يحتكم لتقديرات تتحكر طبقات الضمير. ليست القانون وحده جدير بتنظيم الحياة؛ فالمنظومة الأخلاقية و تقديرات الضمير التي تراكمت عبر الأزمان تشكل الأساس. لم تكنسها متغيرات الحياة كما ألحظ الآن رياح الخريف تكنس البؤس و بعض الأماني الذابلة.
المطرة تأتي بالحلول السحرية، تنفض الغبار عن أحلام كادت تقبرها تقلبات المواسم و (كتاحة) الشتاء التي لا ترحم، و تشحذ طاقة أوشكت أن تنسج حولها عناكب الشقاء و الانكسار بيوتها... مع أول برق (قبلي) يتلألأ في الأفق تضيء عتمة الأمل. الرعود كأنها آذان آخر يصيح في الآذان أن حيا على الحياة.....
في مزارعهم يغرسون أحلامهم بدقة و بروح فاتحة نوافذها نحو الأمل و الانتظار و التفاؤل... و في تخوم البرك تلحظ الفتيات يغسلن أدران الصيف و قسوته... الصبية حولهن يحاولون إظهار أفضل ما لديهم لفتا للانتباه و تسولا للمشاعر .. على حافة هذه البرك كانت تتشكل معظم العلاقات العاطفية... لماذا نحاول دائما إظهار أفضل ما عندنا و ما نستطيع فعله في حضرة الجنس الآخر و نكون تلقائيون مع بني جلدتنا؟!... فيبقى الحب هكذا هو التورط في تفاصيل زائفة و قيم تمت صناعتها و تمثلها بمكر. يكتفي الكثيرون بأن تكون الأنثى هي معركته و ميدان تفكيره، منسحبا بذهنه و طاقته من معارك الحياة و تحدياتها الكبرى....
اللواري يرتفع أنينها في معركتها مع الطبيعة في تخوم القرية... صوت الضفادع يتناغم معها في مشهد خريفي يعزف على أوركسترا الأمل...
محطات ثلاث لابد من زيارتها...
قهوة عبد الله التي لم تكن مجرد غرفة مبنية من الجالوص فحسب، بل كانت تشكل نسيجا رمزيا و أساطير سكنت جدرانها... ورثناها مبنى متهالك أوشك على الخروج من حضن التاريخ ككيان مادي و لكن بقى نسيجها الرمزي و دلالاته الميثولوجية حاضرة في وجدان و ذاكرة أنسان المنطقة. كنا نرتادها في أزمان غابرة للاستظلال من هجير شمس الصيف الحارقة أو للاستمتاع بوجبة خارجة عن المألوف... جبل ابو رادعة الذي يبدو أقرب مما كان مع أجواء الخريق الغائمة.. حجارته تصطف بعناية فائقة تجسد هيبته الأزلية. هو الآخر به من الرموز و الحكاوي الكثير، يسكنه تور (البنية) الضريح المستنسخ للشيخ الذي دفن في أقاصي كردفان.
الطندبة الشجرة الغريبة التي كانت تحتضن الخير و الشر، مثلت تاريخ ملهم و جغرافيا مسكونة بذاك المخلوق العجيب. يسكنها شامير الذي كان يعتبر اخطر سلالات الشيطان و أشدها مكرا...تقصدها مواكب الافراح لاقتطاع فرع من جزعها اعلانا بدخول حياة جديدة و يهابها الكل في الليالي الداجنة. هذا التناقض عصيء على التفسير ، و لكن كانت كلها مسلمات شكلت النسيج الميثولوجي و الفضاءات الروحية الداكنة...
المزارعون في المشهد من جديد، يحصدون أمانيهم المغروسة في الارض البكر... الموليتة كانت تمثل أولى البشاير... نتقاسمها كما يقتسم عمال اليومية أجورهم، نستلذ بطعمها...
(المليص) المحصول الذي يبدو من طعمه كانه تهجين زراعي تكسوه ألياف الخصروات و تفوح منه روائح الفاكهة و طعمها الحلو...(الحنبك) الثمار البرية الطرية... البامية الخضراء و محصول الذرة..كلها محاصيل نبتت و تغذت على أملاح التربة و موادها العضوية الطبيعية، حيث ما تزال الطبيعة هنا عذراء لم تجرفها رياح التكنولوجيا.
استمتع جدا بهذا المشهد الخريفي الطبيعي، ثم أكف راجعا إلى مدن شاحبة، أتسكع في شوارعها دون انتماء إلى تفاصيلها و ايقاعها...
أعاتب نفسي...
يا لبؤسي و خذلاني...لماذا أشاركهم أجمل المواسم و أكف راجعا تاركهم وحدهم في تواقيت الشقاء يدفنون أحلامهم و يواجهون انكساراتهم؟!!
|