[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
في ذكرى رحيل المناضل الإتحادي الشريف حسين الهندي
شوقي ملاسي .. المحامي
جريدة الخرطوم - الأثنين : 9/1/1995[/align]
في بداية هذا العام الجديد ، تحل ذكرى استشهاد القائد المناضل/ الشريف الحسين الهندي الثالثة عشر ، وهي ذكرى عزيزة على كل المناضــلين السودانيين ، الذين وقفوا ضد دكتاتورية السفاح نميري.
تجيء هذه الذكرى وبلادنا محكومة بعصابة عسكرية (جبهوية) منذ 1989م . ولا أريد هنا أن أتحدث عن القائد المناضل الشريف .. من ناحية سياسية ، ولكن سأتحدث عن جوانب إنسانية من شخصيته الفذة . لقد كان الشهيد إنساناً بحق . وقد أتيح لي بحكم علاقة العمل المشترك في التحالف بين حزبينا ، أن ألمس جوانب من إنسانيته قد لايعلمها كثيرون.
فالشريف لم يكن يتردد في إغاثة من يحتاج إلى الغوث ؛ حتى ولو كان من ألد أعدائه من سدنة النظام المايوي . وأذكر في هذا الخصوص ، ذلك الضابط الكبير ، الذي كان من ضباط الانقلاب المايوي ، والذي كان علي استعداد لقتل الشريف ، ثم غدر به نميري وأذاقه الويلات .. إتصل بي الضابط المذكور ، وطلب العون لعلاج زوجته المريضة بالقلب ؛ وكان المبلغ المطلوب كبيراً وفوق استطاعتي ؛ فلجأت إلى الشريف .. الذي لم يتردد لحظة في دفع المطلوب مضاعفاً ؛ ويبدي في تواضع وخجل ، إستعداده لدفع المزيد.
كما أذكر ضباط الأمن المايوي ، الذين كانوا يلجأون إلى الشريف لحل مشاكلهم المالية ؛ فلم يكن يتردد لحظة في حلها ، دون أن يسألهم المقابل . وأذكر أيضاً مئات الطلاب - ومن بينهم أبناء لخصومه - الذين أنفق عليهم ؛ وبلاحدود .. لينالوا العلم ؛ حتى نالوا الدرجات العليا . كما أذكر أيضاً المئات من طلاب الحاجات ، الذين كانوا يأتون من الوطن قاصدين الشريف ؛ فلا يبخل على أحد .. حتي لو كانوا من أعدائه.
ولي أيضاً تجربة شخصية ، تدلل على مدى إهتمامه بمشاكل الناس . فعندما تعثرت إجراءات الرهن الخاص بمنزلي (بكرولي) ، قام الشريف بإيوائي وأسرتي لعدة أشهر . وأذكرأيضاً إهتمامه البالغ برفيق دربه المرحوم/ حسـن عوض الله ؛ وكذلك الإهتمام البالغ برفيق دربه المرحوم/ نقد الله ؛ ولن أنسى ذلك اليوم الذي كنت عائدا فيه معه بالطائرة من الأردن ؛ فما أن أقلعت الطائرة (وكنا بالدرجة السياحية) حتى غرق الشريف في سبات عميق ؛ لم يستيقظ منه إلا والطائرة على مشارف مطار هيثرو ليسألني : " أين نحن الآن ؟ " . فقلت له إقتربنا من هيثروا ؛ فنظر إلي نظرة طويلة وقال : " ياشوقي ... إلي متى هذا التشرد ؟ لازوجة ! ولابيت ! ولاعيال ! " فأجبته بأن هذا هو خيارك الذي اخترته ؛ وإن لبدنك عليك حقا ؛ فلماذا لاتستجم لأسبوعين بعيداً عن كل الهموم ، ووعدني بذلك ؛ وأنه سيعتكف بعيداً عن كل الهموم فور وصولنا . ولكن بعد أن هبطت الطائرة وسرنا في طريق الخروج ، فوجئت به يودعني لأن لديه موعداً في نيجيريا . وهكذا كان الشريف يعيش للوطن وللمبدأ ؛ فلم يكن المال بُغيته ، بل كان حقاً للجهاد .. ولأبناء الوطن.
ويحضرني في هذا الصدد ، أنني اقترحت عليه أن يشتري عقاراً أوعقارات ... لإسكان أنصاره ؛ بدلا من دفع إيجارات الشقق ؛ فكان رده : " هذه ليست أموالي الخاصة ، فهي أموال الشــعب الســوداني ؛ ولا أريــد أن أتـرك عقارات باســمي ؛ فيأتي الورثة من أقربائي فيطــالبون بها " .
لقد عاش الشريف حياة الزهاد ؛ فلم يكن يرتدي أفخر الثياب ؛ ولم يغتن سيارة ؛ ولم يكن يريد من الطعام إلاَّما يسد رمقه ؛ ولم يكن يأكل إلامن القدح الموضوع أمامه ... مهما تعددت أصناف الطعام ، كان همه الأول .. (القضية) ! وهي استعادة الديموقراطية وإنهاء النظام الديكتاتوري .
لقد طلب منا الشريف : " أن نبقي عشرة على القضية " ؛ وللأسف الشديد .. فقد أراد سوء حظ الوطن ، أن يستشهد قبل الإنتفاضة .. فجاء من فرَّط في القضية ، ومهَّد الطريق أمام عصابة يونيو 1989م ؛ وأصبح السودان كما قال الشاعر القروي :
وطن ولكن .... للغريب وأمــــه ملهى الطغاة وملعب الأضداد
|