وجدتها على الفيس ..شايله اخونا وجدى الاسعد على ضهره قلتها انزلها فى بيتها ...اتوا سمعتاوا بيها قبل ده ...؟
لحظات يفور فيها تنور السوق ويغلي، تتسارع الخطى و يتزاحم البشر، يعلو الصخب ويسود هرج ومرج، هذا أول السوق ولم يتحدد سعر جوال الفول وقيراط اللوبيا .. يصيح رجل بقلق :"يا جماعة نزلوا الشوالة دي" . ينزلون (الشوالة) من عربة تقول سيرتها الذاتية إنها كانت (كومرا) حكوميا أنهيت خدماته بعد ربع قرن من الأعمال الشاقة وانتقل بعد دلالة صاخبة إلى أحدهم فحوله إلى مركبة تنقل الناس والحيوانات والبضائع . يجئ الناس إلى السوق راجلين وعلى ظهور الحمير والجمال والبكاسي واللواري، من الغريبة وأوسلي والباسا ومن كل فج عميق. تصرخ بائعة في توتر :" يا مرة شيلي قفتك دي" .. يتطاقش الناس ويتدافسون. ربما لحظات مشابهة أوحت إلى أحدهم أو إحداهن أن تسمي ذلك السوق في أقصى الغرب "سوق أم دفسو وي وي وي فجختيني" فجرى الاسم على كثير من (أمات دفسو) في البلاد، كناية عن الفوضى العارمة التي تجتاح السوق حيث يختلط الحابل بالنابل والناشل بالواشل و الوايكة بالباصلة وتذوب الحدود الأرضية بين ويكة الأولى وبصل الثانية فيتعانقا في وئام ويغدو كل الذي فوق التراب تراب. وكما يهدأ النيل بعد الفيضان ، تهدأ الأمور رويدا رويدا في سوق القرير فيتخذ كل "فارش" موقعه ويضع كل "جالب" حمله، و(تشيل) كل ذات حمل (نفسها). سوق اجتمعت فيه النقائض والاضداد، عربة بوكس يابانية بيضاء قرب بعير أخرش يؤدي نفس المهمة دون أن (يبنشر) له كفر ودون أن يزهق روحا .. وهل تصادم بعيران في الطريق؟ كشك يبيع البيبسي البارد، وامرأة في طرف السوق تبيع شرابا كثيفا من جريش الذرة، يقول البعض أنه أقوي للناس وأنفع. كابينة هاتف تتحدث منها إلى ذويك في الطرف الآخر من الدنيا وتطلب الدولارات، خلفها حمار يؤدي مهمة الاتصال حين يعتلي ظهره صائح القرية معلنا:" الحي الله والدايم الله .. فلان ود فلان راح في حق الله .. الحقوا الصلاة.. الحقوا الصلاة". يلحق الناس الصلاة ولا تصل الدولارات من طرف الدنيا الآخر. سوق جمع بين "الشبعان" و"المعلم الله" ، بين من انتفخ جيبه ومن خلا، بين من أصابته التخمة من فرط ما أكل وبين من أصابه الهزال من فرط ما (ما أكل). لكن السوق يأتي بالمزيد، فقد ضم بين جنباته جبارة الأعجوبة الذي ارتاد كل الأمكنة في زمن واحد ، وملأ كل الأزمنة بحيوات متنوعة تصل درجة التضاد. كنت تراه في السوق الشعبي بأم درمان، ثم إذا سافرت بعيدا في مهمة عاجلة تجده أمامك (فوق) بنطون مروي، تقابله يوم الأثنين في سوق كريمة وتذهب مبكرا إلى سوق الثلاثاء في تنقاسي فتجده هناك، تتركه صباحا في قوز قرافي ثم تسافر في نفس اليوم لتقابله ليلا على ظهر لوري في التمتام. وإذا كان الخواجة هزنبيرج يقول أنه من المستحيل تحديد عزم ومكان الإلكترون حول الذرة في ذات اللحظة، فانه بالمثل يصعب تحديد مكان جبارة ومعرفة ما يفعله في نفس الوقت. فقد عم نشاطه في الماضي كل أوجه الحياة بحيث لا تستطيع أن تجزم أهو في قوز هندي يرمي الودع للنساء أم هو في مساوي يؤذن للناس في خلوة الشمة ، أم في مكان آخر يدق الطست لنساء الزار، أم يقف في حفلة عرس مبسوطا يضحك (سن سن) وقد اختفت عيناه إلا من بصيص حدقة تسمح له بمرور حزمة ضوء تربطه بالعالم الخارجي. ها هو جبارة يجوط بين الناس في السوق دونما هدف واضح، نحيفا قصيرا (قليــلا) يمشي على الأرض وكأن الهواء يدفعه، يضيع في الزحمة بين الأرجل حيث لا يكترث به أحد. دائم الحضور بينهم لكنهم لم يذهبوا في أمره بعيدا ، مثل الأكسجين يتنفسونه ولا يعرفون كنهه ومصدره ومقداره. سألت بعضهم عن أصله فتضاربت الأقوال وازداد الأمر غموضا. سألته فأجابني :" أمي منصورية وأبوي حساني ملخبت" وهكذا لخبتتني إجابته وفرحت كثيرا لأنه لم يعطني ردا شافيا يفسد سحر الغموض ويفك طلاسم الأسطورة. منذ عقود خلت رأينا جبارة كما هو، لم نعرف من أين أتى ولماذا؟ تمر السنون والأعياد فلا يذهب لزيارة أهل ولا يأتي أحد لزيارته. يتحدث جبارة إليك فلا تستطيع أن تأخذ حديثه مأخذ الجد ولا تستطيع أن تتجاهله. يلبس ثوبا هو بين الجلابية والعراقي، قماشه بين (الساكوبيس)ظلم يكن خيالا من صنع الطيب صالح، لكنه حقيقة ماثلة تعيش بين الناس وتمشي على قدمين. جبارة هو رجل كل المواسم ورجل كل الأمكنة والأزمنة. فجبارة الذي يؤذن للصلاة في الخلوة هو نفسه جبارة الذي يجلس وحيدا في حلقة الزار وسط النساء يضرب (الطش) متنقلا من إيقاع إلى آخر حسبما يقتضي (خيت) الزار ، وهو عينه جبارة الذي يسافر على اللواري والبصات مجانا بعد أن يتحول إلى مساعد مساعد يرفع العفش وينزله، وهو نفسه جبارة الذي تسميه النساء (جبيري) ويتحلقن حوله فيرمي لهن الودع قائلا :"تالت اخوانو نزل من العربية" . ها هو جبارة يجلس في راكوبة في السوق أمامه صحن فول وخبز حار. لا بد أنه يأكل بشراهة ، فلا شئ يشغل باله. لم يسمع بالانترنت ولا مؤشر داو جونز. الذين يعرفون المؤشرات يأكلون طعاما باردا مسيخا في الفنادق داخل صالات مغلقة تحول الهواء فيها إلى ثاني السيد الكربون، يمضغونه أداء واجب ولا يذوقون له طعما، فهموم البورصة وأسعار الأسهم والصفقات التجارية تفسد طعم الحياة والأشياء. يا جبارة أدخل يدك في الصحن بقوة ..ازدرد اللقمة ازدرادا، واشرب من ذلك الزير البارد، فماؤه كامل الدسم، جاء من النيل مباشرة لم يخضع لمعالجة الكلور والألومينات.انزل الماء في حلقك بقرقرة وغرغرة، امسح يديك وخذ نفسا عميقا من الهواء النقي ثم (قرقر) ملء شدقيك حتى يبين لسان مزمارك. يا جبارة هذا طعم لن تجده في أي مكان آخر، وهذا ماء لن تشرب مثله إذا فارقت هذه الديار، وهذا هواء لن تتنفس مثله في كل الدنيا. ها هو جبارة يمارس مهنة أخرى في السوق، يقف (ركيبا) في موقف العربات الذاهبة إلى تنقاسي ومروي، يصيح :" تنقاسي .. تنقاسي" فيركب الركاب ويناوله صاحب العربة (الفي النصيب). أقفل السوق أبوابه وطارت الطيور بأرزاقها وأنحشر جبارة في عربة، دون استئذان، وذهب. لا أحد يعرف كيف سيكمل جبارة يومه ..هو نفسه لا يعرف. لكنه حتما سينام آخر الليل قرير العين، لا يحمل ضغينة على أحد ولا يحمل عليه أحد ضغينة، لا يحمل هما من هموم الدنيا، فليس عنده ما يفقده ولا يملك في هذه الفانية إلا الثياب التي تستر بدنه.
متى ومن أين جاء جبارة ولماذا اشتغل بكل هذه (الصنايع)، هل هي وسائل لكسب العيش؟ أم أن غريزة خفية تقوده دون أن يدري، أم أن قدرا محتوما يدفعه في هذا الطريق، أم …. ؟!
يكتب التاريخ سير الطغاة والجبابرة ، ويحتفي الكتاب بأصحاب النفوذ والسلطة والمال، ولا يحفل أحد بأمثال جبارة فتضيع سيرته في الحياة مثلما يضيع هو نفسه في السوق (بين الركب). هذه سيرة رجل تغلغل في أدق تفاصيل حياة الناس، عاش وما زال يعيش خفيفا على وجه الأرض ، خفيف الجيب ، خفيفا على قلوب الناس .. رجل لو رآه الطيب صالح لكان أمر سيرته بين الناس عجبا.
[IMG]
[/IMG]
محمد صالح خضر محمد (عضو سودانيات)