تمثال المَعشُوقْ ( إهداء لخالد الحاج وسيد قنات والأحباء )
[align=center]تمثال المَعشُوقْ[/align]
(1)
على سِجادٍ رَخوٍ استلقَى تِمثالها . ظهرها يُلامِس سطح السَجاد وعَيناها تنظُر العُلا . بَصيرتُها شقَّت كثافة الأسقُف من فوقِنا وانطلقت . البؤبؤان من عينيها طائران في عُرسٍ سماوي تحت السحاب والبحر من تَحتها يُغني وأمواجه ترقُص. عَسل العينين زُجاجي غَسله ندى كالدَّمع . أنفاسها موجٌ في صدر فارسٍ على فرسٍ أدركه النعاس ، هابطاً ببط وصاعداً بلا صوت .
(2)
الدُنيا تَهرُب إلى عبادة قديمة قِدَم التاريخ . فتحت أذرُعتها من جديد في صفحة عِشق في مكانٍ ضجيجُه في صَمتِه . انفتحت بوابة معبدٍ قديم . أرجاؤه أفسحُ ما يكون ، فالعابد يصغُر ليكون المُقدس أعظم . الأضواء من حولنا كانت زرقاء ثم كستها الظُلمة . دلفتُ داخلاً وتخلل البخُور المُلون جسدي ، و أضاء من منافذ يدخُل منها شُعاع الشمسِ فيظهر الهباء وأغوص في هيبَّة المكان . تمضي القداسة باهرة تعكِس صورها المرايا وأنا شاخصٌ أتفرَّسْ . تأملتُ الحوائط وحجرها النافر من فِعل عِمارة الزمن الغابر . سمعتُ صراخ أضلُع من كانوا يعملون بصمتٍ حين تختلطُ المحبَّة بالأوامر والخوف.
(3)
أورق الذهنُ بصُوره منذ قديم الزمان ، كأنني أزاول طقساً أمام المَعبُود أول مرَّة . اخشوشنت بَشرتي و تَعَملَّقتُ في البُنيان وأَسَرني سِحرٌ قديم وخوف من كائنات لا أعلم كثير شيء عنها . معشوقتي الآن مومياءٌ تنبضُ عافيةً وحُباً سَاكِناً سَكن المُجونِ أو الجنونِ أو رهبة عِشق الجسد الكامل مُسجَّى أمامي يقول :
أنا من زمن الآلهة الأولى .
كُنا نجهلُ أنفسنا والكون من حولنا ونتعجبُ في ذهولْ . أركُضُ الآن من وهجِ فتنةٍ انزلقت من شَعرِ الرأس إلى قُرص وجهِهَا المرسوم بالجلال ، ثم الصدر والخِصر والفخذين والساقين... ، آلاف الأعوام صَعدت ذهني كُلها في حزمة واحدة.كُنَّا إخوة الشَّجر وأصدقاء العُشب . نعجب من الطير وتغريدها ، كانت لُغتها أقربُ إلى التي بها نتحدثُ وأتعجب ! .
في تاريخنا القديم كُنا لم نزل نركعُ للشمس حين تنهض صُبحاً من بعد نومنا الطويل ، أو عندما يَهرَمُ يومها فتحتقِن وتبدو قُرصاً بُرتقالي اللون أكبر حجماً تنام تحت الأفق البعيد ، عند نهاية الكون في ذاكرتي وأتعجب ! .
سألت نفسي :
ـ من أكون ؟ وكيف يعشُق المرء تمثالاً على صورة أنثى ؟
أ هذا زمان العشق الذي أتأمل اليوم دِينََه و دُنياه ؟
أنا اليوم أدخُل ذاكرتي وأسأل عن سرّ مَحلول العِشق في كوبِ القَداسة . معشوقتي دُميةٌ أصغر حجماً من آلهة الماضي السحيق . هيَّ جسدٌ ساكن يُخفي داخله كل معارك الكون . خلايا لا حصر لها ، داخل الجسد الذي تعمل وَسائطه بنشاط والذهن مُرتبكٌ :كيف يفعل العاشق ما يفعل ؟
(4)
أبدأ من الخَلف : بضع سنين من بعد ميلاديّ الأخير . عندما كنتُ طفلاً كانت تُؤثرني دُمية . تمثالٌ لَين من قماش محشوَّ بما لا أعلم . ينام معي في الفِراش ويشترِك معي عواطِفي وينصُرني في معركة الظُلمة التي تُخيف قبل النوم وبعد الأحلام ، بين غَمض الجفنَين و تَجوال الهواجِس .
لم أكنُ أعلمُ أن للعِشق أبواباً لا تروق العقائد . تفضحُ المُفارقة بين إلهٍ يُلقي أمانيهِ فتتكون الأفلاك بعظائمها مِن كُوني فتكُون ، وبينَ كائن نعشقه من لحمٍ ودم . صورته أنثى ومرآتها تقول لك : كيف يُصبح الإنسان وطناً لجَمر المَشاعر و جاذبية الرغبات .
(5)
أعلمُ أني و الجسد الذي أعشق كُنا ثمرةً واحدةً في زمان خُرافي قديم ، ثم انفلقْ جسدنا نصفين . يشتاق نصفهُ إلى النصف الآخر ويركُض طلباً للكمال . اضطربت النفسُ من مُجون الهوى ونزق العاطفة العاصِفة . مددتُ يديَّ وأصابِعي تنـزلق على ملمس الجسد العاري . هَمَستْ الأصابعُ تصعد التلال حيث صَنبُورَي حليبٍ في القِمم تمتلئ وتقف رهبةً . بالقُرب بُحيرة نرشُف منها أول أبواب الارتواء حينما تمضغُ عِلكة الهوى فصولجان الحياة يضطرب من وعُورة الانفعال و سَماحة السير فيه .
(6)
أغرق الآن في دُنيا حالمة ، فالثمرة تستعيد اكتمالها حين أدخُل الجنة التي تهرب كلما تراني واقفاً ببابها .
عبد الله الشقليني
03/05/2007 م
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالله الشقليني ; 17-05-2007 الساعة 03:36 PM.
|