الأعزاء تحايا نواضر وشكراٍ فتح العليم لفتح هذه النافذة
في 8/10/1989 كان الحديث يدور حول كشف لإحالة مجموعة من القضاة للصالح العام وكانت أصداء إضراب الأطباء يفوح أريجها ليدعم حالة من التحفز في نفوس كل محبي الديمقراطية.
في هذا ليوم صدر كشف يحوي (19) اسماً من العاملين بمصنع سكر الجنيد ومحطة أبحاث السكر بالكديوة تضمن الكشف أسماء بروفيسرات ودكاترة في صناعة السكر وبعض المهندسين والزراعيين . معظم الأسماء لرجال ذوي سريرة وسيرة ناصعة يشهد لهم القاصي والداني بالكفاءة وعفة اليد وبينهم أسم تدور حوله شبهات والمغزى كان واضحاً حيث أن الرأي العام لم يكن مهيأ بعد لتقبل فصل الناس من الخدمة لأسباب سياسية فأطلق ذوي المصلحة على القائمة اسم قائمة الحرامية (ما شايفين فيها فلان) لكن طبعاً لم تنطل الحيلة على أحد وتجمع الناس من كل حدب وصوب وهنا أسمحوا لي أن أشكر المهندس/إبراهيم هباني المدير العامل للمصنع وقتها والذي ساند الجميع وساندني على وجه الخصوص على اعتبار أنه رقاني استثنائياً لاتجاوز دفعتي وحصل على توقيع البروفيسور إبراهيم أحمد عمر وزير الصناعة في حكومة الوفاق الوطني بين الصادق والأخوان لاعتماد هذه الترقية ، ولم يتوقف دعمه على الدعم المعنوي بل ساندني بمنحي استحقاقات إضافية رأى أنها من حقي وكنت أصغر من في القائمة (بالضبط 28 سنة) لذا حظيت بقدر عالي من التعاطف. المهم وكأنها بيوت عزاء كل الناس تجمعت في بيوتنا وتوالت الاقتراحات وروح المساندة (العمل في الخلا كما يطلق عليه يدعم روح الفريق ويقرب الناس لمدى لا يمكن تصوره) المهم بعد التشاور وخصوصاً من نقابيين محترفين كالعم فرح عثمان شرفي الذي درجت كل الأنظمة السودانية على فصله للصالح العام تم تكوين وفد لمقابلة وزير الصناعة للاستفسار منه عن سبب الفصل (الرسالة نصها تقريباً أنه بالاستناد إلى المادة كذا مقروءة مع المادة كذا من قانون الخدمة المدنية تقرر إنهاء خدماتكم والتوقيع العميد عمر حسن أحمد البشير) كنت ضمن الوفد وسافرنا وقابلنا وزير الصناعة الذي استنكر الأمر وحلف بالطلاق أنه لا يعلم عن هذه القائمة شيئاً وأن هذا الأمر من اختصاص وزارة الخدمة المدنية والطيب سيخة. فتوجهنا إلى هناك ولم يسمح لنا بمقابلته بحجة أن تروسية الرسالة من القصر وبالتالي يجب علينا سؤال القصر ومن ثم ذكر القصر أنه لاشأن له بها لأن الخدمة المدنية لها وزارة مختصة ودرنا في حلقة مفرغة رغم حنكة بعض النقابيين الذين كانوا معنا. وهنا قرر معظم المفصولين تنفيذ القرار فوراً فسافر د صالح ضاحي إلى امريكا ود ابراهيم إلى شركة النفيدي وغيرهم إلى مواقع أخرى أما أنا فتوجهت إلى مدني وقدمت أوراقي لشركة سيباجايجي ولم أتمكن من صرف الراتب الأول حيث وصلت تعليسمات لكل الشركات بتقديم قوائم التعينات الجديدة إلى رئاسة مجلس الوزراء وتم إخطار الشركة بإنهاء تعييني وبعدها توجهت للمطبعة الحكومية مدني التي كان يديرها استاذي الجليل عبد الحميد الفضل فعملت فيها قرابة (3) اشهر بالمشاهرة حتى أتاني في صباح ما يعرض علي العمل في إدارة كشك للمأكولات يملكه فالرجل من حياءة لم يجروء على جرح مشاعري فتغيبت من اليوم الذي تلا ذلك وقررت أن أعمل في مهنة حرة. بعض الأصدقاء ساعدوني في الالتحاق بفصل مسائي بمركز التدريب المهني حيث درست كورس مكثف في كهرباء السيارات وتوجهت للعمل تحت شجرة فرع البنك المركزي بالسوق الكبير (وبقيت شفت في عمرة المقنيتا وظبط البوبينا)
سقت هذه التفاصيل المملة لأدعم وجهة نظري بأنها قصص سيريالية مجلبة للدهشة. كثيرين باعوا حتى عفش البيوت (وكنت منهم) لمقابلة احتياجات أسرهم الصغيرة في انتظار الهجرة القسرية التي كانت الهدف الخفي خلف الفصل للصالح العام فالهدف كان إخلاء السودان من كل القادرين على قول لا وحصره على أهل الولاء وما دروا بأن هذا الشعب العظيم يخرج من رحمه كل يوم من هو قادر على أن يزلزل الأرض من تحت أقدامهم.
لا أجد مبرراً دينياً أو وطنياً يفسر تفريغ الخدمة المدنية من كوادر صرفت الدولة مليارات لتأهيلهم تحت ذريعة تأمين الثورة أي ثورة تلك التي تخاف من شعبها. إحلال أهل الولاء مكان أهل الكفاءة جلب الخراب على عموم البلاد فبتردي الخدمة المدنية تردت كافة أوجه الحياة. سعى البعض لتصفية حسابات مع زملاء الدراسة بالجامعات (يعني فش غبينة) فراح الضحية الوطن بعد ربع قرن لازالت الانقاذ تتلمس دربها لكيف تحكم السودان ولازالت البنادق مرفوعة في وجهها ولا زال شعبنا يواجهها حتى بالعصيان الانتخابي فماذا جنت براقش غير (ميتة وخراب ديار)
تسلموا
|