نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > أوراق

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27-10-2009, 07:45 PM   #[1]
تاج السر الملك
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية تاج السر الملك
 
افتراضي تأريخ الجاذبية

تأريخ الجاذبية

تباطأت خطوات أمي حين أدركها الونى و نحن على مشارف الضفة، ينحدر الشاطئ دون بشارة فيصيبك الدوار، و تتهيأ سيقانك لعدو متعجل دون ضابط او كوابح، ثم انهار جرف الطمي الجاف تحت ثقل جسدي، فهبطت قسرا ، وكدت أعيد الكرة حينما أدركت قبسا من وجهها، سانحة من سحر عتيق، فانهار جرف آخر، تسارع سقوطي باتجاه نقطة التقاء النهر الساكن و الظهيرة الساكنة، مررت على عظام حيوانات نافقة، و أوعية صدئة، و زجاج مهشم، تقاربت سحنته و سحنة الرمل، و عشب يابس و صدف، وجيف الأسماك و عيونها الخرز الذي يعاين السماء، مددت ذراعي نحو الهواء الثقيل، أتشبث به، فانثنى عني يحمل طيور السماء في رفقته، و طائر البقر يجلس في استرخاء على عجيزة ( أم حقين) وهي تتهادى في مؤخرة القطيع، صحت من يأس أخطب ود النخلة التي تجاذبتني سيرة اللقاح، فرايت رجال ( النوبة) يحملون عليه بالعصي المغلفة رؤوسها المضببة بجلد الثور، على رأسه، و حينما اتقي وقع السلم على هامته بيديه، تدبروا صدره و ساقيه و ركبتيه بالعسف، هشموا عظامه، فلم تدرك صلواته بالنجاة ابعد من حفر الطمي اللزج، و عظام البهم النافقة، و الصدف المبتل بالرمل، و الطفلة حملت دمها و ماءه المهين بين ساقيها، بكت من عذاب قهره ساعة، مرق فيها الى احشاءها، فتداعت في ثيابها المرتقة ، ولولت أمها من عجز و حسرة و غضب، فتوقفت ( النقارة) عن دفع الصدى، همدت الحركة حتي انصرف الغبار. دقت ( النقارة) ، فنضج الغضب في عروق الرجال، عاركوه، فعاركهم، و هو مجهد، تصيدوه مثل ضفدع في خنادق الطمي اللزج، و حاصروه حتي انكفأ على ظهره مثل سلحفاة، و أجهزوا عليه مثل فأر.
أستبان وجهها الذي انطفأت ملامح الطفولة فيه، غمزتني بعينها و انا اطالع التقاء سكون الظهيرة بسكون الماء، و قالت
( ود الحاجة... ما داير شي؟؟؟)
و حينما حانت مني التفاتة، كان خيال امي قد مضى مثل مضى الغبار، فعاود الرجال دق عظامه، حتى تساوت في لزوجتها و ثقل الهواء، صاح خيال امي ( سجم امه!!).

قلت لأمرأتي من هو، قالت لا أحد، و في أنسان عينها، رأيته، وددت حصاره حصار الضفدع، و لكن الرجال عادوا إلى مزاولة رقصهم، عادوا الى دين ( النقارة)، انعقد الغبار فوق رؤوسهم التي تزينت بقرون الثيران، تهيأ لى الخبث و الهزأ في ابتساماتهم، فقمت إلى العصا، حملت عليه، فاختبأ في طيات ثوبها و كحل عينيها، طرقته، فصدر الأنين عن صدرها، و قالت ( أحد).
أشتد نقر الرجال على الطبل، فذاب صوتها و تبدد في هدير صباح المدينة، صحوت أجاهد في فتح عينين تلسعهما حرقة السهد، فتبدت صور التلفاز الذي ظل مفتوحا طوال الليل، غائمة، أتاني الضوء عجلا ، قبل أن تتحرى أذناى طعم الصوت
I know all the games you play, Because I play them too,…, Cause I gotta have faith…

تعلق الصبية و الصبايا بالمراجيح، و أنشدوا من فرح بعطية العيد، أغنيات بائرة، كعكا و حلوى و ياقات بيضاء منشاة و نقود، و في الضفة المقابلة، استتر اطفال و عريهم، بأعواد الذرة الجافة، و انتثروا في سكون النهر و الظهيرة، يلعقون غيظهم في صمت، ارتعدت فرائصنا عندما عثرنا على وجوههم الكالحة، منتصبة أمام أعيننا، في أياديهم ( المطارق) وقد سملت عيونهم مراود النقمة، قايضنا غضبهم بعطايا العيد حتى انفثأ، فانصرف الهواء الثقيل عنا، و عدنا نحمل احذيتنا الى النهر، و عادوا الى القرية جوعى، غضبت صديقتي الصغيرة، غضبا حقيقيا و هي تشهدنا نقايض صبية الذرة عن غضبهم، بعطايا العيد، لم تعد تحدثني الا حديثا نادرا متقطعا، كانت تخفي حنينها الى تحت غطاء من كبرياء مزيفة، فتصمت عن مخاطبتي ، و تحرمني يقين الحنين. لم يقنعها شرحي، فطفقت ابحث عن صديقة، حتى عثرن بي نسوة الحى عند المراجيح، متلبسا بالتلصص على سراويل البنيات، شددنني من أذنى ، و هددن بأبلاغ امي، فما اكترثت.

جلست تحت ظلال عرشها تتقي جحيم أسئلتي المشرعة المباشرة، تتقيها بيديها و حجاب رأسها، و عندما أدركني النصب، أسبغت على روحي و أفاضت من عطف رقيق دقيق، و شوق وخاز متشابك مثل شجر الشوك، قلت لها أنني أحبها، فقالت هات الدليل، ثم أردفت كأنما استدركت معنى ما قالته، و ما الذي سأفعله بالدليل ؟؟ كانت أوهن من بيت عنكبوت في ملاقاة اعاصير الحب، كانت اكثر من طاقة رجل واحد على الحب، و اقل قليلا من أن تكفي حاجة رجلين.
نظرت أطفالي و هم راقدون في أسرتهم، فواتتني لحظة من صفاء الحقيقة، تبين لي فيها بأنني لا أحب هؤلاء الأطفال بالضرورة، و لكنني في حالة حب مع الفكرة في أساسها، فكرة أن يكون لديك أطفال و أسرة، سوى ذلك فأنني كنت سأبدلهم بغيرهم، أذا قدر لى أن أختار.

تواصل فعل الهبوط منذ عهود انهيار الجرف، شهدت صديق التمساح الذي لا تعرف الفكاهة سبيلا الى روحه، ينظف اسنانه، لا يتحدثان لغة واحدة، و لكن شيئا ما يجمعهما في نهاية الأمر، أما أن الطائر لا يعلم معنى أن يكون التمساح تمساحا، أو أن التمساح لا يدري بأن هذا الطائر طائر، و لكنهما يفعلان ما يفعلان وفق شريعة محكمة التنظيم، يشبع الطائر، و يدخر التمساح ثمن المرآة و فرشة الأسنان الهائلة، يذهبان كل الى سبيل حاله، دون وداع، دون أسماء، دون عناوين الكترونية، دون حساب في كتاب الوجوه، سوى أن مجد الحرية يبقى في أن تأكل من فم الوحش دون أن يقدر على ابتلاعك، حتى و أن أراد ذلك.

اللعنة على جاذبية الأرض و على خواتيم التنفس تحت الماء، و على المشاعر التي نذرفها بسخاء على ما نعشق و من نحب، دون أن نجد أجابة على تساؤلات عقولنا، لماذا نحب من نحب ، و لماذا لا نرى في الوجود أجمل ممن نحب؟؟ هل هي رغبة اثبات الذات أم الرغبة في ذات الأثبات؟؟؟ و لكن الشمس تعشق هذه الأرض، لا تعشق كوكبا غير هذا الكوكب، تعشقه في صمت، تدور بلا انقطاع حوله، دون ملل و بلا اضطراب، تنشأ اجيال و تمضي أجيال، حروب و فنون و لقاء ووداع ، ظلم و ظلمات و مسغبة و حنين لا يني يتدفق، تشرق عند ملاقاتها ، و تلتهب حينما تتوسطها، و تتضرج حين تودع نصفها الأستوائي، تغدق عليها ماء السحاب حين تستنهضه بالبخر، تهبها الدفء و الخضرة، و لا تنتظر من الأرض شيئا سوى انطواءها في محاذير خفرها، و لا الشمس يدفعها اثبات الذات، و لكن لكى تحيا الأرض بها و تخضر، و بضوئها يسفر حسن الأرض، يهب المحب حبيبه دون من، ففي بهاء المحبوب يكمن سر العاشق على الضياء الدائم.
أوحت أمرأتي الى القوم بجنوني، و كنت كلما حدثتهم عن الحمائم تخرج مذعورة من تحت وسادتي في الصباح، تغامزوا صراحة و علنا، و استأذنوني في الأنصراف، ثم لا يتلبثوا أن يغرقوا في الضحك، كانت فارعة سمراء شغفت بها، خضراء مثل فاكهة تقطع نيئة لتنضج في غير أوانها، حتي لا يستبيحها طير السماء، أو من عجلة لتذوقها، رزقنا بتوأمين، ملأن حياتنا حبورا و غبطة، ألا أنها أمعنت في عشقها للرسمي الذي كان يجوب طرقات حارتنا بسبب او من غير سبب، تخرج عند سماع صوت سيارته الرسمية، تتعلل بالماء الآسن تحمله في سطل صديء، لتصبه في مجرى الزقاق الضيق حتى تراه و يراها، يبتسم في رعونة لمرآها، و هو يمسح العرق المتصبب على قفاه، أوصد على الباب في سجن عقلي، فلم أعد أخرج الا للتبول ليلا، سكت عن سيرة الحمام الذي يخرج من تحت وسادتي حين لم يصدقني أحد. و في ليلة زفاف زوجتي اليه، أجلست بنياتي على حجري، و جاء القوم يهنئونني دون حياء على زفاف زوجتي، فشكرتهم و أنا أحسدهم في سري على معقوليتهم و حكمتهم الصائبة.
و حين أدركت سكون النهر الذي يلتقي بسكون الظهيرة، و جدتها تغسل الرمل عن قدميها، و جلست في هدوء تنتظر سماع قصتي، و لكن وجهها لم يكن وجه امي، و لكنني عشقته رغما عن ذلك.
لتقيت صديقتي الصغيرة بعد عدد من السنين، كانت قد تزوجت و أنجبت طفلة صغيرة، داعبت شعر رأسها في حب ، فكأنني التمس طريقا إلى ماض بعيد، حرمت فيه من مداعبة شعر أمها، سألتني عن أحوالي، فأجبتها بأنني تزوجت و أنني تنازلت عن زوجتي للرسمي، ضحكت و هي تهنئني على زفاف زوجتي، و ذكرتني بأنني لم أتغير كثيرا ( لا تزال تقايض عطايا العيد بدرء الغضب)، لم أدر أن كانت تحدثني عن محمده، و لكني و عندما استبنت الحسرة في عينيها، أعلمني هاتف حصيف في خاطري، أنها أنما عنت مذمتي، غير أنني طمأنت نفسي بأنها لم تفقد الأمل في بعد. أفترقنا مرة أخرى، و ساحة المراجيح خاوية على عروشها ، و من على البعد أشارت بإبهامها و البنصر ، فاردة كفها بامتداد خدها الأيمن و صاحت و هي تقبض على ذراع طفلتها ( هاتفني)، و لم تكن قد تركت رقما.
غير الثعبان قميصه أمامي دون حياء، اصطفقت أجنحة الرهو و هي تعبر قداسة الوادي، قضت الشمس على بقايا ضباب الفجر فاعتدلت الرؤية، فوجدتني ذاهل في محنة الرقم المستحيل، قضى الحب وطره و انصرف، ولم يبق سوى صوت الخواء، قالت أمي و هي تشد شعر جارتنا حتي يستقيم ( للمشاط)، دعك منها فالنساء غيرها كثيرات، قلت في سري ( أى حديث افك تعنين يا امي)، أمنت جارتنا و هي تصر عينها و تصعر خدها، من ألم و لذة، دون أن يستشيرها أحد، غمست أمي يدها في ماء محمر معطر عكر، عادت الى النقض و التمشيط ، ضغطت على مؤخرة رأس جارتنا بكفها اليسرى في حزم، حتى انحني عنقها و اشرفت أنفها على ما بين فخذيها، سكنت جارتنا إلى سيطرة أمي في استسلام غريب، كنت اشهد اللحم في فروة رأسها اقل دكنة من لون جلدها، و هي صاغرة إلى يقين الحسن الذي سيعقب هذا الألم، و حين هممت بالانصراف، تحدثت جارتنا من عمق مغامرة التجمل التي تعيش في جحيمها (تذكر أنه ليس هناك ضمادات لتخفيف آلام العشق )، قالت أمي ( صدقتي)، و اتصل الشد و الجذب بينهما، و انزلقتا في الحديث عن شؤون البشر الآخرين دون تحفظ.
كبر أولاد أعواد الذرة الجافة، و تفرقوا في شعاب الأرض، تغيرت هيئتهم، لانت قسوة ملامحهم، و أصبح الغضب ذكرى كالمراجيح تذهب و تجيء، التقتهم صديقتي في ترددها على مواسم الفضول، لم تجد باسا في مغازلتهم، و كانت تتعمد ذلك في حضرتي، و حينما ابدي احتجاجا، تطمئنني في غنج مفتعل، بأني أحمل الأمر أكثر مما يحتمل، فأعود إلى قفصي مثل قرد هرم، بيد أنها تعود الى تستجدي عوني، كلما أحدقوا بها لأفتراسها، فأعود إلى مقايضتهم ثمن الغضب من عطايا العيد، و حين يعبر الرهو قدسية الوادي، تعود إلى معايرتي حتى يتساقط الدمع من عيني.

صحوت فجأة في منتصف الليل ‘ فكأنما أفقت من اثر المخدر‘ أو كأنما انكمش الكري عن مراكز حسي مثل موجة كسولة تتقهقر
الى عرض البحر‘ كانوا ينامون في اطمئنان حسدتهم عليه‘ ثلاثة اطفالي و كلب عجوز‘ و صور معلقة على الجدار‘ و صورة منقوشة في خاطري‘ كل شيء يغط
في أمان الظلمة‘ عجبت من قدرة الروح على اختزان الألم‘ خوفها منه‘ وولعها بأجتراره‘ تمنيت لو ان ارواح البشر تأتي مجهزة بمفتاح مثل مفاتيح المصابيح‘ حتي يكون بأمكان
الأنسان أن يوقف تيار كهرباء الأسى العنيد‘ بضغطة‘ أو أن يكون بأمكانه ‘ فتح نوافذ لتصريف اكاسيده الخانقة‘ بيد انني وجدت عزاءا و لذة في استحلابه
و الغوص في اتون لهب الهامه الفائر‘ و حينما ادركت القاع ‘ انتفي فعل الجاذبية‘ سكنت الكهرباء‘ و سكت نباح الجرح‘ واستوت النفس على قوائمها‘ حتى
لم يبق من اثر الخطيئة شيء سوى‘ وخز بعيد بعيد بعيد.

تعالى صدى الهمس بين أبي و أمي في الليلة التي سبقت رحيلها‘ تحدثا كعادتهما عبر اللغة الوسطى‘ و حين باشرت الشمس الى معاودة سطوعها‘ عادت أمي الى مخاطبة قومها باللغة التي لا يدرك مشارفها أبي‘ قضت معظم سنوات زواجها معه‘ تخاطبهم و يخاطبونها‘ و أبي منحبس داخل فقاعة من اللا أنتماء‘ سعيدا في جهله مثل طفل كبير بشوارب كثة‘ تحيرت كثيرا و انا احاول حل معضلة زواجهما‘ أى قدر ذاك الذي رمى به‘ بها في طريق الآخر‘ و لكن القدر يأتي بأغرب من ذلك في حيوات البشر‘ عدا أن الحيوانات لا تتزوج من غير نوعها مطلقا. لم يكف يوما عن تلبية رغباتها ‘ ولا توانى رمشة جفن عن ارضاء نزواتها‘ فلم يزدها ذلك الا نفورا و تأبيا منه‘ كانت لا تدع سانحة تمر دون أن تلاحقه بعبارات السخرية‘ و لا فرصة تدعها تفلت دون أن تستثير غيرته الهادئة‘ الا انها أحبتني‘ أحبتني بكل ما تملك‘ كانت تضمني اليها و أنا يافع‘ تهصر روحي في قبضة حبها المتدفق لتقضي ما يشبهه في داخلي‘ لقنتني لغة قومها‘ و عقيدتهم‘ و أعدت راحلتي و غطاء رأسي و لثامي‘ وأحكمت لجام مطيتي‘ و حينما خرجوا الى كالأشباح من ظلمة العاصفة الرملية‘ خرجت اليهم عاصفا كاللظى من بين اللغتين ‘ جاءوا على متن الركائب و المطي يهزون سياطهم في الهواء‘ كانوا رجالا متشابهين ‘ أشفقت على أمي من تعذر الأختيار بين هذي الوجوه المتشابهة ‘ و لكنها كانت تري ما لا أرى.
تباروا في كسب ودها‘ كل حسب موهبته‘ تهافتوا كالقردة على تسلق اشجار عجفاء‘ و منحوها ثمرا من زقوم‘ أنشدو شعرا أنتزعوه من بين بقايا خرائب و أطلال ‘ تناحروا و تباغضوا و اقتتلوا فيما بينهم‘ نهارا اثر نهار‘ عكفوا في ثبات عقائدي عل تلاوة فصول من مسرحية مملة مقيتة‘ و لكنها كانت سعيدة بمرأى الرجال يذهبون و لا يرجعون‘ كانت سعيدة بمرأى الدم المسفوح حتى أطراف بساطها‘ شعت مقلتيها بالفرح و المتعة العميقة‘ حين أنصرف الغبار ‘ و أهلت بوادر المساء‘ هامت على وجهها في البرية‘ تقلب في أجساد ضحاياها‘ تبكي تارة‘ و تضحك تارات ‘ أدركني النعاس فأخلدت الى النوم في أحضانها‘ و في الصباح الباكر قامت تبذر الشجار بين الذين أخلدوا الى النوم في أحضان الحياة ‘ انعقد الغبار ضحى ذاك اليوم‘ فاشتعلت جذوة الشغف في عينيها الواسعتين المضيئتين ‘ حتى تهالك القوم من التعب و الجوع و العطش و اليأس.
أنقضى عام و نحن في متاهة السديم ‘ قضى من قضى‘ و مضى من مضى‘ و سرح قوم في غفلة منها وراء قوافل الغجر‘ و آخرون وراء حوريات الرمل و ملائكة الصحراء‘ بقينا أمي و أنا و رجلين من قومها‘ زارني ابي عدد من المرات‘ كانت تشير الى مكان تواجدي‘ دون ان تكلف نفسها مؤونة النظر الى وجهه‘ مستسلمة الى أغراء حدة الجدل بين الرجلين و قراعهما الذي لا ينفك الا لينشب من جديد‘ حسبت أن أحدهما سيكون أبي لا محالة‘ وددت في خاطري لو علمت أيهم.
بدا لى لوهلة ‘ أنها تميل الى أحدهم اكثر من الآخر‘ كانت تخلو اليه‘ فأسمعها تارة تضحك من صفاء قلبها‘ و تارة تبكي من وجع فؤادها‘ تغضب تارة و تثور تارات‘ تهرب‘ تنأى‘ تصفح ‘ ثم تأتي تحوم حوله مثل مزنة‘ و حينما يكاد يشهق روحه من العناء‘ تنسكب عليه مثل شلال الماء على الصوان‘ تغسله و تنزلق عنه الى الوادي‘ لم تقطع حبال ودها عن الآخرين‘ ألا أنها خصته بتحية المساء حين تتهيأ للنوم‘ و همست بين اليقظة و سكرة الكرى وقالت بأنها تحب جنونه و تخافه في اللحظة ذاتها‘ و لمنها تبغض حديثه الى نساء الغجر و تبسطه معهن‘ كانت تود كل أغنياته لها‘ و لم تكن تود أى من أغنياتها له.

( أنا ليهم بجر كلام
دخلوها و صقيرا حام)


و خالتي ( زينب)‘ يتملكها فرح‘ عزيز‘ نادر‘ حينما يجىء ذكر أسمها في الأغنية‘
( اركزو... زينب وراكم)
تهزهز رأسها‘ تكشف عن مقنعها بلا اكتراث‘ تهوم في نشوة سعادة قصيرة الأجل‘ حتى يناغمها شبح بوارها ‘ ثم يطل بوجهه القمىء فيفسد عليها ثأرها من الذين حامت الصقور حول اجسادهم الملقاة في الصحاري‘ فتتأكد وحدتها و تشتد‘ و تزداد عزلتها في غرفة عاطلة الجدران‘ خالية من الصبيان و الصقور الحائمة‘ تفيق خالتي ( زينب) من وهم الشعر و جاذبية الكلمات‘ و جدتي ترقبها من مقعد في طلاقة الحوش المسور بالشوك‘ تعبر في جذل الى نهاية القصيدة‘ فكأنما المغني يتنفس الكلام دون توقف‘ دون لحظة ينظر فيها الى الوراء‘ يهدر بها هدير القطار في العتمور‘ يشقها في ثقة و امان‘ جدتي تطوح رقائق من الفضة المنحولة تنسدل على جبينها المغضن‘ هي ما تبقى من ضفائر و عمر مديد و ذكريات لا تمل تكرارها. خالي ‘ كنت تحس فورة الدم في عروقه‘ يتأمل الكلمات و تتأمله‘ فكأنما يود الأمساك بها او تود الأمساك به‘ يود التمسح بها‘ فكأنما هي رقية ضد الفناء‘ أو كأنما شاعرها لا يعني بمدحه أحد غيره‘ ثم أنه لا يتمالك نفسه‘ حين تقتحم أذنه انفاس المغني
( زى السندالة قلبو)
يقف منتفضا على ساقه المعطوبة‘ كاشفا عن اسنان ناقصة العداد‘ سوداء حفوفها من أثر التبغ‘ و التمباك‘ مستجمعا ما تبقى له من عزم صحيح في مكان ما من جسده العتيق‘ يصيح في جمع من قوم يسكنون ذاكرته
( أبشر .. بشر.. شر)
ألا أن قلبه ( السندالة) توقف عن الخفقان في خريف العام الذي تلا عام الرمادة‘ فمات في سعادة الوهم الذي تصنعه الأغنيات‘ و تمدد على عرش امنياته التي لم تصب‘ فما عاد له ذكر في الأغاني.



تعددت زيارات أبي حين استبد به و بعقله‘ جنون الغيرة و الفضول‘ لمعرفة الرجل الذي سيحل محله‘ أو لعله يجيء متمنيا في قرارة نفسه موت الرجل موتا طبيعيا‘ فتعود امرأته اليه‘ صاغرة نادمة‘ تعض على نواجذه حسرة على عمرها الذي تصرم في الصحراء‘ ستطلب منه الصفح و الغفران‘ فيهبها ما تريد حبا و كرامة‘ سيحدثها حديثا متأملا طويلا ‘ حديثا حكيما عن الحياة و الحب و الأمل و الوفاء‘ و سوف يعود الى صنع طفلتيه اللتين طالما تمناهما‘ سيدعي بأنها لم تكن غرضا من أغراضه‘ لا يطيب له طلبه ‘ الا حين يضيع.
كان يتحدث بالصوت العالي حينما يزورني‘ و كنت أعلم علم اليقين انه لا يعنيني بحديثه‘ حدثني و حدثها و حدث سكون الصحراء‘ عن ترقيته في الوظيفة‘ و عن سيارة جديدة‘ ‘ أغدق على المال و الهدايا و العطايا‘ كان كأنما يستنهض حنينا عازبا في قلب امرأته‘ يعيد على دروس لغته التي بدأت رحلة اندثارها‘ في عقلي و ذاكرتي‘ رأيت تحت قناع الثقة الذي يرتديه‘ شبحا ذابلا ذاويا‘ يتحرج عن الخروج الى الضوء‘ شبح رجل أسرف في عواطفه‘ فأسرف الحزن في أقامته‘ أخلد و سكن الى روحه المعذبة‘ و في ذات زيارة باكرة في غير ميقاتها‘ تهاوى قناع أبي‘ فبكى في تضرعه غير عابيء بسخرية القوم‘ و صرخ مستعطفا ( متى تعودين الى البيت؟؟؟)‘ أشاحت بوجهها‘ حتى لا تسرف فى الشفقة عليه‘ فانطلقت حمائم بيضاء من تحت أكمام جلبابه‘ حمائم بيضاء لم يرها أحد غيره‘ ألا أنني صدقت الرؤيا.

أخذتني أمي الى حلقة المادحين في صبيحة الجمعة‘ رأيت أبي يدور حول نفسه‘ في سرعة و عجلة‘ يحمل عصا السلم التي أغتيل بها الرجل في يد‘ و المبخرة في يده الأخرى‘ كان يدور في سرعة و عجلة‘ فكأنما يدافع الخواطر التي تزاحمت علي عقله‘ ثم انهار الجرف تحت ثقل جسده‘ و لكنه و لدهشتي صعد الى أعلى‘ صعد دون أن تعي بصعوده الأرض و جاذبيتها‘ أو انها لم تعد تكترث لصعوده أو هبوطه‘ مثلما لو أن أمره لا يعنيها. حملته الطائرة بعيدا‘ و القطارات من بعدها‘ الى أعلى المدينة‘ و عندما عبر بوابة المدينة الحديدية‘ أوصد حراس بابل باب الحديد من خلفه‘ هام في طرقات ( البرونكس)‘ ( يانكرز) , و ( سر من رأى)‘ مستلب الخواطر متنازعها في حضرة نساء الدومينيكان و الكاريب و بحور الغزال‘ و لكنها كانت تسكن وحدها جوارحه‘ أعانه اللصوص على لقاءها آخر الليل‘ عبر ارقام الهواتف المسروقة‘ و العسس في سياراتهم المصفحة‘ يذرعون الشوارع جيئة و ذهابا‘ لم يطابق وصفه في نظرهم أوصاف الهارب‘ كان صوتها يأتيه مبللا في حرقته المتأصلة
( سم اب درق البصقع)
تلح عليه في العودة و هي لما تبل بعد من عشقها له‘ نذرت النذور لعودته‘ أوفت بجميع نذورها‘ و لكنه لم يعد‘ و حينما ذاقت طعم الحليب المتخثر في حلمها‘ نفضت راحتيها عن الرمل الذي طوق أقدامها ‘ و انتحبت في صمت.


حملناها الى العيادة الخارجية ركضا‘ و هي تنزف حتى لم تقو ساقيها علي الأجتماع‘ و طاقم العيادة يتآنسون في استرخاء يقترب من سأم‘ سأم من مشهد الموت و الدم و الذباب و الأبر المعقوفة و الأنين و الدعاء‘ و على سطح طاولة قذرة مددوها‘ تناوبوا النظر ما بين ساقيها‘ الطبيب و مساعديه و المارة يدفعهم الفضول‘ تلاشت متعة الأسترخاء و اللامبالاة من على الوجوه‘ ران صمت‘ أتوا بالضمادات و السوائل الصفراء و الزاج الأخضر‘ القطن و الأبر المعقوفة‘ و لكن واحدا من أهلها لم يمد يدا للمساعدة‘ مثلما فعلوا و الرجل يفتك بها في الغرفة القصية الخربة‘ الغرفة المسكونة بالجن‘ لم تكن هناك حينما تناوبوا تهشيم عظامه‘ حتى فارق الحياة‘ و لكن كل ذلك لن يعيد لها ابتسامة بريئة حالمة‘ انطوت الى الأبد عقب عودتها من رفقة الذئب‘ امسكت بيدها الصغير ‘ كف ابيها و غابت في فضاء التخدير.



أشتد عنت الكوابيس و الضفة تتشقق مثل قطعة الجبن الجافة‘ أو مثل جدران الطين حين يفاجأها السيل العرم‘ انثال مني عرق و تأبى على محجري رأسي النوم‘ عددت الخراف في خيالي‘ فثار الراعي في وجهي و طلب أجرا‘ هدد و توعد‘ ثم جلس يندب موت زوجته التي رحلت في عنفوان شبابها‘ كان يصحبه أبناؤه‘ الأكبر يتبعه الأصغر‘ و حين تكيد له الخمر‘ ينفث حنقه فيهما‘ يجرجران اسمالهما وراء القطيع في ذلة و مهانة و انكسار‘ و حين يحل المساء‘ ينامون وسط الأغنام في ( حوش) جدهما- أبيه-و يبدأ تبادل السباب بين ابيهم و أخوته و زوجاتهم‘ يستلون المدي من أغمادها‘ ثم يساقطون صرعى من الخور قبل أن تسيل قطرة دم واحدة‘ ثم لا يلبث الصمت أن يطوق المكان‘ و تعود الكوابيس أقل عنتا و أكثر رحمة من السابق‘ لم يكن للولدين حظ في الأناشيد المدرسية‘ فكل الحظوظ عواثر‘ و لكن أبي كان يرى غير ذلك.....



التعديل الأخير تم بواسطة الفاتح ; 31-10-2009 الساعة 02:17 PM. سبب آخر: تنسيق
تاج السر الملك غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 28-10-2009, 11:48 AM   #[2]
خالد الصائغ
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الصائغ
 
افتراضي

هنا نص باذخ

ذو حبكة فاتنة تغري بمساكنتها طويلا



متعك الله بكل الخير يا ملك



خالد الصائغ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 31-10-2009, 02:39 PM   #[3]
الفاتح
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية الفاتح
 
افتراضي

ياتاج..
أدين لهذه الأسافير بأنها قد جمعتني بك
هذا نص عميق جداً ، ولغة فنتازية عاليه
وتصاوير تتقاطع لتطرح قضايا وجودية
لكنها لم تخل بالموضوع..
أحب أن أقرأ كثيراً ما بين وتحت أسطرك
وأحب كذلك أن أفكك شيفرات لغتك المرهقة..
مرهق أنت وعميق.
ــــــــ
مشتاقين للدين ،
أبقى طيب



الفاتح غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 01-09-2010, 06:15 PM   #[4]
تاج السر الملك
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية تاج السر الملك
 
افتراضي

خالد الصايغ العزيز
اسفي على التأخر عن الرد
لك شكري و مودتي العامرة
الملك



تاج السر الملك غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 01-09-2010, 06:19 PM   #[5]
تاج السر الملك
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية تاج السر الملك
 
افتراضي

شليل

شكري الجزيل على القراءة و التعليق
و للأسافير دين على مثل الذي لها عليك
التي قربت من وجداننا و بعثت بيننا المودة و الحب
الملك



تاج السر الملك غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 09:55 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.