أما المسألة الثانية التي عملت العصبة الماسونية على استغلالها وإنعكست رخاوةً في مواقف المهدي إزاء النظام، فقد تمثلت فيما يخص طائفة الأنصار أو الكيان الذي يستمد منه الحزب والمهدي معاً إكسير الحياة السياسية والاجتماعية. ونحن إن كنا قد وصفنا الحزب الاتحادي بأنه حزب خاص، فإن حزب الأمة يختلف عنه نسبياً في إنه حزب لجماعة، ولكن ليد آل المهدي نفوذ في الجماعة لا تخطئه العين، وضمن أولئك يبقى للسيد الصادق المهدي شخصياً اليد الطولى. وسنضطر مرة أخرى أن نستشهد بما ذكره مبارك الفاضل في المقال الذي ورد ذكره من قبل، برغم إنه ورد في لحظة احتدام الوغى بين أبناء العمومة، ولكنه كان بحضور آخرين ذكرهم بأسمائهم مما يمكن أن يخفف من وطأة الافتراء، قال مخاطباً المهدي: «بدأت الاجتماع بفاتحة حديثك أن هذا حزبي أنا فمن يريد العمل فيه عليه أن يفهم ذلك ومن لا يريد فأمامه الشارع والمؤتمر الوطني» وفي الواقع يقول النفسانيون إن حب التملك يعد أقسى أنواع الحب الذي انحرف عن مساره الطبيعي، أما أنا فأعتقد أنه شعور ينتاب الأشخاص الموفرين نشاطاً مختلف المشارب، وأزعم أن المهدي واحد منهم بلا شك. لكن من الحب ما قتل كما تعلمون. بيد أنني لا أدري ما إذا كان للأمر علاقة بذاك الشعار القميء الذي روج له بعض الرجرجة والدهماء في فترة تاريخية مضت من بواكير تأسيس الحزب. على كلٍ يمكن القول إن هواجس المهدي بالطائفة والمآلات التي تنتظرها، يعد أمراً متوقعاً، أي يَعلى ولا يُعلى عليه، ولكن كيف؟
في النزاع المزدوج المذكور، كان الجميع يعلمون أن إمامة طائفة الأنصار ظلت مصدر نزاع بين السيد الصادق وعمه السيد أحمد المهدي. وفي الوقت نفسه كان الحزب هدفاً لتربص آخرين من آل البيت المهدوي. وعلى رأس هؤلاء يقف مبارك الفاضل متوثباً وبعض أبناء الإمام الهادي المهدي ينتظرون. كذلك فثمة آخرون كانت صراعاتهم أدنى من الإمامة، مثلما هو الحال عند بعض أحفاد الخليفة عبد الله التعايشي ومن جاورهم. ومن جهة أخرى كان المهدي الذي يعلم تماماً بسنن الحياة في الفناء والبقاء، يدرك إن الوضع الماثل لن يدوم طويلاً. إذ إن بقاء الكيانين مستقرين يعتمد بالدرجة الأساسية على من يخلف السلف، أي القادر مثله بالأمر نفسه في خضم صراعات مرئية ومخفية. لهذا ففي تقديري أنك لو نظرت لرجال حول الإمام الحالي، بل وكررت البصر مرتين سيعود لك بصرك خاسئاً وهو أسير!
من هنا توجهت الأنظار نحو إبنه عبد الرحمن الصادق، بل هو خياره المتاح للاستخلاف بالرغم من أنه يتمتع بقدرات سياسية وفكرية متواضعة لا تؤهله في صد سهام المتربصين برئاسة الحزب والمتطلعين لإمامة كيان الأنصار. من هنا انطلق دهاقنة العصبة الماسونية في كيفية التعامل مع المهدي باستغلال نقاط ضعفه تلك. فقدمت له عرضاً كان فحواه أن حزبهم (المؤتمر الوطني) الحاكم يمكن أن يرشح إبنه عبد الرحمن لانتخابات رئاسة الجمهورية العام القادم أو يدعم ترشيحه إن كان ذلك خيار حزب الأمة. وقالوا له إن كلا الخيارين يتطلبان انضمام الإبن لعصبة المؤتمر الوطني مساعداً لرئيس الجمهورية لكي يتعلم أصول الإدارة والحكم. كان ذلك عرضاً وفق ما استقيناه من مصادر عليمة لم يستطع المهدي معه رفضاً أو تمنعاً، وبالطبع لا يمكن أن يسر به حتى لأقرب الأقربين، ليس لأنه يحل إشكالية كبرى يعيشها، ولكن لأن ردود فعله السلبية المتوقعة لا تشكل قلقاً له، فقد سبق أن فعل مثلها في ديكتاتورية نميري، ويومئذِ وبعدئذٍ كانت السدانة محض تنظير يكتبه الكُّتاب مثلنا وليس لها ثمة تأثير على المعنى بها ولا الطائفة ولا الحزب. إذاً فما الذي سيقع على الإبن مستقبلاً لو أعاد التاريخ نفسه؟ لذا قام المهدي بإخراج سيناريو فطير، كان مصدر تندر الناس بقولهم (إذهب يا بني للقصر حاكماً وسأبقى في ود نوباوي معارضاً) فلم يقنع حتى راعي الضأن في الخلاء. والمفارقة أن الإبهام ازداد غموضاً بتعيين الإبن الثاني (بشرى) في جهاز الأمن، وإمعاناً في تغوير الجروح لم يستح المذكور في الظهور خلف والده في يوم احتدم فيه الوغى، وقد امتشق ذات السلاح الذي تقتل به العصبة شباب أهل السودان!
ثمة مفارقة تاريخية جديرة بالتأمل، لأنها وضعت المهدي في امتحان عسير وهو صانعها. كان كما تعلمون قد بدأ حياته السياسية بالدعوة لفصل إمامة الطائفة عن رئاسة الحزب. وفي ذلك خاض حرباً ضروساً بينه وبين عمه الإمام الهادي المهدي، وهي الحرب التي أعادت للأذهان صوراً ضجت بها قصور الأمويين والعباسيين ولم تنته برحيل الإمام الهادي، فقد ظهر السيد أحمد المهدي مطالباً بإمامة يظن أنه وارثها. وبدأت سلسلة معارك لم ينجل غبارها إلا عندما أعادها السيد الصادق إلى حياضه. وفي تقديري أن الزمن لو رجع به القهقرى للوراء لنكص عن دعوته تلك في إطار محاولاته الراهنة في استبقاء الحزب والإمامة في عقر داره ولا يغادرانها. فلا شك أنه قد ظهرت له الآن سوءات الجمع بين الضرتين. فإبنته الدكتورة مريم تعد أكثر أنجاله التصاقاً بالعمل الحركي السياسي ولها مواقف مشهودة في مناهضة النظام الحاكم، بما يمكن أن يؤهلها تنافساً أو تزكية برئاسة الحزب. لكن تبدو المعضلة أمامها في أن إمامة الطائفة أمر دونه خرط القتاد، وذلك لاعتبارات لا تخفى على الناظرين!