(الرحمن على العرش استوى) قرآن، الآية (5) سورة الرحمن.
فالعرش هو ما يُجْلَسُ عليه، بما يُمَكِّن اللغة الدارجة في السودان من تسمية هذه العملية بـ(التعريش).
البرهان الذي يخدم تأكيدات (بوبا) بشكلٍ آخر، هو أنَّ الليركس السوداني لا يستخدم هذا الفعل إلا مع الكائنات التي لها (بيض).
ليكون التعريش بعداً رمزياً جاء من الجلوس على البيض، لأجل تدفئته بالطبع. وقد تتناول قطعة الليركس الواحدة، جميع هذه الرموز، ولكن دون أن يقع أدنى خلط، في أية جزئية منها. فكل رمز، يوصّف من خلال دواله التي من طبيعته تماماً.
لذا ليس بوسعنا الحكم على الليركس إجمالاً، إلا من خلال المقطع الشعري الواحد، لهذا السبب أعلاه، وأيضاً لأنَّ بعض الرموز المستخدمة تكون متداخلة، لتنوع الرموز/ الآلهة المستمدة منها، التي كانت لها ذات المهام الرمزية "أو" ذات المقام التبجيلي. ولنثبّت هذه الخلاصات أدناه في شكل نقاط موجزة، عن "بعض" الرموز الكبرى فحسب، وهذه الرموز ذاتها لها عشرات المرادفات.
1- رمزا (
الدود) و(
اللدر) يستخدمان لـ(
التمساح) و(
الأسد).
2- رمزا (
الدود) و(
الدابي) يستخدمان لـ(
التمساح) ، و(
الثعبان) تستخدم معه (الدابي) وحدها، لا يقال له الدود في ثقافة بيئات الجعليين.
3- رمز (
أب كريق) يُستخَدم لـ(
التمساح) وحده. والرمز فيه واضح، لأنَّه توصيف منطقي لذيل التمساح حين يأخذ به فريسته مثل "الكوريق". والكوريق التي أخذت كبددٍ من رمز هذا التمساح ها هي بطول الزمان تُستخدم في رحلة عكسية، لفك رمزه.
فالأسد (اللدر، الدود) لا يستخدم معه (الدابي) ولا (التعريش) مطلقاً، ودالّته عادةً هي "النتران" من نتر، ينتر. فالتعريش مرتبط بـ"البيض" و(بوبا) فقط. والتعريش يستخدم مع الدابي، لأنَّ غالبية الثعابين تضع بيضاً، والقليل منها فقط ما يلد صغاراً، ولهذا دلالاته الأخرى.
ومن دوال الرموز أعلاه أنَّ الإله Apep الذي يُشكّل مرجعية تنسيب حتى تاريخ اليوم في الدارجة السودانية. فلا يقال (ذو) أو (صاحب)، وإنّما "أب" كذا. أب رأس، أي الذي له رأس، "أب كذا" الذي له كذا.
وفي صيغ أخرى تميت الحصر مثل "آبديك" الشيء الفلاني، بمعنى لن أعطيك الشيء الفلاني. ويُضاف صوت باء غريب للأفعال، الشامي مثلاً سيسألك، شو عم تقول؟ الخليجي، إيش تقول إنت؟ ولكن السوداني والمصري غير، بتقول في شنو؟ والمصري بتقول في إيه؟ ويستخدم للفئات، اشتريت منقه من أب عشرة جنيه، من أبو كم دي؟
أرى أنَّها كانت بادئة استفتحاح ونداء إلهي، مثل، يا الله. بالله؟ بالله عليك! ولذلك فهي راسخة في محل الاستفتاح والنداء هذا.
و(Apep) هو إله (التمساح)، الذي رمزه (الثعبان) أي يُصَوَّر في المعابد ثعباناً. لذا فالتمساح يُمَثِّلُ قاسماً مشتركاً بين هذه الرموز الأربعة، من طبيعته التطورية، التي غذَّت مقامه الرمزي. هذا الإله مكروه في مصر، مثل الإله ست Set "وحقيقتهما" التي تأكدتُ منها تماماً، أنّهما إلاهان سودانيان. أبب من جنوب السودان الحالي، وست من شمال السودان الحالي. وهذا ليس مقام عرض هذه الرؤية وسأفلتها لحين ذلك. ولكن الآلهة القديمة كلّها، من نوع أبب القديم تحديداً، نجد أوصافها واحدة ومكروهة، تاريخها شحيح، وفي الغالب تستمد رموزها من عينة كائنات تليق بها البيئة الطبيعية في السودان أكثر من مصر. أفلا يسأل أحدٌ نفسه أين يُوجد وحيد القرن الآن، والأسد والقرنتية، وأين تتوفّر السمّيات هذه بشكل أكبر، وأين تعيش ثقافتها ناصعة حيّة وواضحة إلى تاريخ اليوم؟
فهذه المسألة يمكن الولوج إليها من باب الرموز هذه ذاتها، فهي الباقية لو اختفت المعلومات القديمة عن هذه الآلهة القديمة. فالحقيقة، وليست الملاحظة، هي أنَّ بعض هذه الرموز تحكمها بيئة وجودها الطبيعية بالأساس. وهي متوفّرة في الثقافة الحيّة إلى يوم الناس هذا في بيئات الثقافات التي أنتجتها قديماً.
زهرة اللوتس على سبيل المثال، لن تصلح لتكون رمزاً مهيمناً في السودان، لأنّها غير منتشرة فيه، بعكس مصر، لذا فهي ببساطة لن تسيطر على قانون الرموز فيه، حتى لو تمدّد سلطان الملوك الكوشيين إلى مصر. والبردي كذلك. أمّا أخشاب الأرز لصنع المراكب، فكانت تجلب من لبنان، ما يرشح أعواداً أخرى ودلالات ثانية للمراكب الكوشية. والحقيقة الثانية، وليست الملاحظة، أنَّ الرموز الفرعونية بمصر تسيطر عليها الجوارح الطائرة لأنّ بوسعها أن تُوجد في مساحات أوسع من تلك المساحات المتوفّرة لوحيد القرن والقرنتية والتمساح والأسد. فالمنحوتات على مقبرة (باقيت) بتل العمارنة مثلاً، منها ما يتحَدَّث عن جنوب السودان تصويرياً بشكل واضح وقاطع. فاللوحات تصوّر حلباتٍ على طريقة مصارعي القبائل النيلية الحالية والنوبة. مع حيوانات غابة مثل الظباء ووحيد القرن ووحوش تركيبية أخرى، مما أُسمّيه الكائنات الميكائيلية، وهذه شرحها يطول.
بأي حال، فلنستفتح بعض النظرات في مراجعة الرموز أعلاه في الليركس، لأجل (بوبا) البيض تلك وبراهينها، بمستهل أنَّ الدينكا يسمّون الروث الصلب (طور/ تور) بـ"بوب" أيضاً.
Puɔp: dry dung of cattle
راجع، قاموس لغة الدينكا، المذكور فيما سَبَق.
نماذج من حميراء العظيمة
أغنية (مختار)
التي مطلعها
اقتباس:
عَرَّش ود ملوك الدار
لييه المو فَشَّار
سمحة وخايلة فوق مختار
|
الممدوح البشري هو الوحيد الذي تضعه في مقام الرمز تماماً. يُستثنى رُغم أنَّه إنسان لا يبيض، ولا (بوبا) له إلا تلك القديمة التي جاء منها أصله، حينما كان "بابو" في الوجود. فالمقطع الأصلي الذي يُردِّدَه الكورس وتردِّده هي بجوف الأغنية كلّها، يقول
وهذا هو التمساح، الدالَّة هي (السَّار)، وهي الحجارة البيضاء في باطن النهر "أو" الآبار "أو" المغارات، راجع الكوشرثيا لمزيد من الشرح.
ويستمر الليركس إلى أن تضيف
اقتباس:
حَبَاب دَابِي العبيديَّة
وكَت دَخَل المديريَّة
|
والدابي أيضاً مما له بيض و(بوبا).
أغنية محكر الديوان
وهذه الأغنية تقوم فيها حميراء بترديد أحد المقاطع ست مرّات، والتكرار ذاته يقع مرتين بوسط الأغنية، وتقوم في المرتين بإبدالات حماسية كثيرة، توقّعت أن يحدث فيها خلطٌ، ولكنه لم يقع.
فقد كَرَّرت
اقتباس:
ميل يا أب كريق
وضاير الرخم منّي
|
وأب كريق دالّة التمساح كما تقدَّم.
ثم استبدلتها بـ
اقتباس:
ميل يا صقر
وضاير الرخم منّي
|
و"أب كريق" و"الصقر" يجمعهما البيض و(بوبا).
ثم تضيف في آخر الأغنية
اقتباس:
الدابي العشاري
الحَجَّر مشارع ألمى
|
وكما تقدَّم "الدابي" من دوال التمساح، و"العشاري" مفهومة أنّها قد أتت من طول التمساح الذي يبلغ عشرة أذرع.
فإلى النهاية ما زلنا مع التمساح Apep "أو" ما يبيض ويرتبط بـ"بوبا" مثل الصقر، دون أن يقع خطأ باستخدام دالَّة "التعريش" مع مخلوق لا يبيض. أي أنَّ (التعريش) حكرٌ على ما له بيض، و(بوبا).
مترادفات ودوال:
أرجو ملاحظة التقارب بين أصوات هذه المفردات في عمومها.
1- الدَّقَر، مرادف للدابي، الثعبان.
2- الكَرْكَرة، دالّة على التمساح، وهي الجزر الحرشية في النهر. وتسميتها متحدّرة من طائر التمساح. وبها يزجر الطير كالدجاج بـ(كَرْ).
3- الكَرَد، الكَرَدة، بذات معنى الجزر الحرشية في النهر.
4-
أب دَرَق Apep، مرادف للدابي الثعبان. ولفظة
أبْ ياك في لغات الدينكا تعني أثر ودرب التمساح "أو" الثعبان.
5- قَرْقَر، دالّة، قد تستخدم للدود، بمعنى الأسد غالباً، وهنا تفيد الزئير. أحياناً تستخدم للتمساح، وهنا تكون بمعنى الحَفْر وتجويف الطين أو الرمل للتعريش.. إلخ.
وهذا جوهر فحسب، لوسيلة اختبار أقدَّمها هنا مختصرة لمن يودُّ فحص ذلك، أو استكماله، في دراسات مطوَّلة.