واجفاً...
يقتصُّ شُرُودَ الظِلِّ،
... مَعبراً
يحتسي لذّةَ القفرِ..
الشجنُ كلالةُ المُعتركِ،
... رصيفُهُ
روحٌ فسدتْ تجاويفُ أحلامِها،
ثُقُوبٌ ينزُّ منها رحيقُ التفاؤُلِ..
يجرحُ خِرقَ الخيالِ
/البياضُ قانٍ/
كامرأةٍ فتّقَ العشقُ براكينَها،
/فتنزّلتْ عناقاً
... تتَّسعُ الثُقُوبُ/
وطأةُ الظِلِّ..
الرحيقُ/
الحريقُ/
تراتِيلُ الصحوِ/
الصحوُ/
الارتعاشُ/
النواحُ/
الندى...
خُذَّ أكثر من النَبيذِ،
واحتسِ مقدِرَتكَ على التشبُّثِ
... الليلةُ مُداهنةٌ،
خلعتْ سترَ النُجُومِ،
وتبرَّجَ جسدُ الحديثِ المُكفهِرِّ
... يتحوّرُ حالما تُلامّسُهُ – شرراً- ملامِحُ الطريقِ المُسترقُّ دمَ
الحُواةِ...
احتوِ الليلَ،
وأهرب في مِزقِ المُتجاسّرِ،
مُبصراً...
21/10/2005م
قراءة في النص من لدن الصديق الشاعر (عدنان المقداد):
الموجود - بماهو-ذاته / قراءة في تقمص بله الفاضل :
خارج السياق :
1 - في قراءتي للشعر - عموماً - و هو أمر نوهت إليه من قبل ، لا يهمني ما الذي أراد الشاعر قوله ، على مستوى وعيه ، و لكني أنطلق من نقطة واضحة عندي :
أن الشاعر هو إنسان له تاريخ من الحوادث و الأفكار الشخصية و العامة - بكل تفاصيل ذلك من ورقة صغيرة على مكتبه إلى الزلازل و الحروب - بما يعنيه ذلك من تداخل و تشابك ، و هذا الشاعر ، من جهة أخرى ، لديه حصيلة معرفية لغوية ، و قاموس لغوي ، و قراءات سابقة و حصيلة نحوية ( يسميها تشومسكي الكفاية اللغوية ) .
و بالتالي فهو عندما يكتب نصاً ، انطلاقاً من حالة نفسية معينة ، أو حادث معين ، على مستوى الوعي ، فهو يظن نفسه واعياً لما يكتب ، غير أن الذي لا يراه هو أن " ذاته " تكتب من خلالها أشياء كثيرة ، من منهل هذا التاريخ الذي يحمله كإنسان ، و هذه الأشياء محمولة على حاملي اللغة و الكفاية اللغوية ، و الموهبة هنا هي التي تحدد إذا كان الشخص قال ذلك بفنية عالية ، و بعمق ، أو بسطحية في حال عدم وجودها .ثم يأتي دور الثقافة و الوعي و الحصيلة الثقافية ..ليفاجأ الكاتب بأن ما قاله كان أكثر مما وعاه .
و من هنا قراءتي هذه .
2 - هناك حواجز بنائية تقف بيني و بين بعض نصوص بله ، كنت قد تحدثت معه بشأنها من قبل ..و لما قرأت هذا النص قلت له : أعجبني هذا أكثر من غيره ..و ها أنا أفسر هنا ..لماذا أعجبني ..
3 - زدت على نص بله كلمة " منها " بعد كلمة ( ينزّ ) و هذا لا يغير شيئا في المكان الذي حدث فيه التعديل ، فقط زدتها لأن هذا ما كان ينبغي فهذا الفعل يتعدى ( معنوياً ) بهذا الحرف ، و يبقى المعنى نفسه في الحالين .
العنوان / تقمّص :
التقمص يعني لي - في حصيلتي اللغوية - ظلالاً كثيرة ، أولها " اللبس " و في الحديث قوله " إن الله سيقمصك قميصاً " و من هذا المعنى العام معنى خاص هو عقيدة التقمص التي اهتممت بها في فترة من فترات حياتي و ما زلت أذكر أحد أوائل الكتب " الخيالية " عنها لرون هابارد .
غير أن التقمص مشتق أساسه قمص ، و ثمة مشتق آخر يعني في ما يعني ( الشخص القلق الذي لا يستقر )
و عموماً فكل إيحاءات هذا الجذر تعطي معنى " عدم الاستقرار و القلق " بما في ذلك الكلمة المعبرة عن عقيدة التقمص ( حيث الروح لا تستقر على جسد : كلما بلي واحد انتقلت إلى آخر ) .و بالتالي فهذا هو المعنى العام الذي تنبثق منه كل الدلالات الأخرى .
و ...ما علاقة هذا المعنى بالقصيدة ؟
المقطع الأول : شخص ما ..قلق ..
افتتاح النص يبدأ بشخص غُفْلٍ واجف ..لكن القصيدة لا تقولها بهذا الطول ، بل توجز ذلك كله بكلمة حالية واحدة :
واجفاً ...
و الوجوف : هو الاضطراب ، كذلك . و هذا الشخص الواجف :
يقتص شرود الظل
فالظل له شرود ( إن كانت الشين بالضم ) أو هو ذاته شارد ( إن كانت بالفتح ) ، و في الحالين ثمة ربط بين الشرود و الظل..و هذا الواجف يقتص ذلك الشرود !
لكن ..
الظل لا يكون شيئاً قائماً بذاته ..بل هو موجود ( لوجود ) ..قل هو حصيلة وجود شئ أساس ، و هذا الشئ يأتيه " نور " من طرف مقابل ، ليتكون من ذلك " ظل "
ثم ..شئ آخر : الظل ، بداهة ، ملازم للشئ - صاحبه ، فيزيائياً ، و هم يقولون مجازاً ( يلازمه كظله ) ، غير أن النص يعطينا ظلاً غريباً : فهو منفصل عن صاحبه ( شارد ) و غير ملازم كما عودتنا الطبيعة أن يكون ..!
حتى الآن لدينا :
شخص ( لا نعرفه ) ، مضطرب ( لسبب لا ندريه ) و يقتص ( يقص ) - مع اعتراضي على الكلمة - يقص ظلاً ليس له ..
و لا يزال بعض الإبهام في الموقف ..
هنا تأتي حال أخرى ( لعلها تمييز ) :
مَعبراً
و هذه الكلمة تفصل فصلاً بيّناً ، عن إتمام فعل الواجف الذي هو الآن :
يحتسي لذة القفر
الكلمة المفتاح هنا هي " القفر " ، و القفر هو الخلاء من الأرض ( لا نبات و لا شجر و لا حيوان ...).
الشخص الغفل القلق المضطرب يحاول أن يصطنع ظلاً ليس له ، في محيط لا شئ فيه مقفر ، و هو يحتسي هذا القفر ( يشربه على مهل ) و الاحتساء كذلك عند ربطه بالنفس هو : اختبار النفس ( كما هو احتفار الأرض عند ربطه بالأرض ) ..
شخص قلق في محيط مقفر يحاول أن يختبر أو أن يجد حقيقة ذاته بشئ ما يدل عليها ، حتى لو كان هذا الدليل هو ظل ليس له ( يتقمصه ) تقمصاً ..( لعل في هذا إحالة إلى التفكير حسب كوجيتو ديكارت : أنا أفكر ، إذن أنا موجود - فإن ديكارت أراد أن يجد نقطة انطلاق صلبة يبدأ منها في المعرفة بالشك و إعادة النظر في أشياء أخرى ، و قرر أنه عليه أن يثبت ذاته أولاً و إلا لظل كل شئ مشكوكاً فيه ) !!
و بين هذا الاضطراب ، من جهة ، و محاولة " اصطناع ظل يدل على الوجود بدلالة انعكاس الظل عنه ، بين هذين ثمة ( معبر ) هو الذات ..ذات الواجف ..معبر ..
قد تبدو هذه حالة وجودية " سارترية " تحديداً - لكن لن أقبل هذا الآن .
المقطع الثاني :
هذا المقطع يوسع المدلول الوجودي قليلاً ، ليعيدنا من إيحاءات العدمية إلى إرهاصاتها الممتعلق بالمسؤولية - الوجودية كذلك -
فالشجن -لغوياً - ليس - بكل بساطة - أي حزن بسيط ، بل إن جذره يحيل إلى حزن أو هم متشابك ، كالغصن ، و الشجن يعني ، فيما يعني : الغصن ، كذلك ..و لست أرى سبباً لهذا التشابك سوى تنوع مصادر هذا الهم : مصادر شخصية و أخرى عامة ..
و حامل هذا الهم ( معترك ) و المعترك هو المشتبك في حرب و الشديد المعالجة فيها ..ثم إن العرِك هو المتداخل بعضه ببعض ..( مما يعيدنا إلى معنى الشجن الأساس : الذي هو الاشتباك ) !!
فعندنا هم متشابك ، من ناحية ، و شخص قادر على ( إدارة الأزمات المتشابكة ) - إن جاز التعبير -
لكن ..هذا الشخص ، أمام الهم الذي يحمله يعاني ( التعب / الكلالة ) ..فخبرته لم تجد نفعاً ..
و هذا الشجن " رصيف " المعترك بما في الرصيف من دلالة " التحييد " عن منطقة الاشتباك الأساس ..فالشجن لا يكتفي بالتغلب على " الذات " بل و يحيدها عن أي صراع آخر .
الأحزان قامت بعزل هذا الشخص و تقييده و تحييده !!
و للروح أحلام ، و للأحلام تجاويف فسدت ، و مقابل هذه التجاويف الفاسدة ثمة ثقوب ينزّ منها رحيق التفاؤل .
و النزّ خروج - لا يعبر عن كمية معتد بها بالمناسبة - غير أنه كذلك " عدم الاستقرار في مكان محدد ..( و هذا يعيدنا إلى فكرة الاضطراب ..و التقمص الذي هو القلق )
و هناك بياض ..مثل امرأة فتّق العشق براكينها فتنزّلت عناقاً ( و هي صورة أريد أن أبدي إعجاباً شديداً خاصاً بها كصورة منفردة )
غير أن كل هذا ( التفاؤل - البياض - المرأة ) - كل هذا سببه ( وطأة الظل ) ..
الظل الشارد ذاته في المقطع الأول ..فبسبب تلك المعالجة غير المنطقية باقتصاص ظل من خارج الذات لإثبات الذات ( التقمص ) ، - تلك المعالجة سببت وطأة ( دوساً ) للذات الخاطئة بمثل هذا التقمص غير المرضي عنه ضمناً .
و كل ذلك التحييد ، و التعب ..من جهة ، و رحيق التفاؤل و البياض و المرأة ..من جهة أخرى ..إنما هي تقلبات نفسية لذات تعالج ظلا لتقتصه لنفسها ( و هو لغيرها أساساً ) .
المقطع الثالث :
هذا المقطع تأكيد للتقلبات النفسية في المقطع السابق .
المقطعان الرابع و الخامس :
يدخل هنا شخص جديد ( لعله وعي كامن ، أو ضمير كانت تغالبه الذات و هي تحاول خداع ذاتها ) و هذا الشخص آمر أو ناصح :
خُذْ ..أحتسِ ..
و ماذا ينبغي أن يأخذ ؟
النبيذ ليس مشروبا فقط ..بل هو كل ما ينبذ ..
فالشخص الجديد يطلب / يأمر / ينصح : من أجل إخراج الذات من كل هذا الوهم ، و يطالب بتحديد موقف عاجل : ابتعد و استسلم ..أو تشبث !
خذ أكثر من النبيذ
احتسِ المقدرة على التشبث .
و ذلك لأن الليل آت ..و حسم الأمر مطلوب نهاراً قبل أن تأتي هذه الليلة ، لأن كل الظلال تختفي ليلاً - ظلال الذات أو ظلال الذوات الأخرى - حتى النجوم ستختفي فلا مطمع و لو بظل شاحب بسيط !
و حتى ملجؤك الذي اعتدته من أجل التعبير عن همومك لن يجديك نفعاً لأن ( جسد الحديث مكفهر ) و ما الحديث سوى شكل للتعبير عن الذات - غالباً هو الشعر هنا - ملجؤك هذا سيتبرج جسده فلا يعود معبّراً عن الحقيقة كما ينبغي أن تكون ، بل كما يشاء التصنع و التبرج ، و الخداع أن يفعل !
فما الذي حدث ليتغير الحديث ( وسيلة خلاص الشعراء - أو البشر بما هم ناطقون ) :
إنه الطريق : الذي يسرق دم الحواة ( و الذات هنا هي من هؤلاء الحواة ، بدلالة المقطع التالي ( احتو الليل ) )
الحواة اتلذين يريدون استيعاب ( احتواء الليل ) و ما يتبعه من انعدام الظلال ..
هنا ينتهي المقطع إلى ميل لاستيعاب هذا الليل الذي يحتمل أن يسرق دمه ، و ميل إلى الشجاعة التي يمثلها متجاسر لم يبق منه سوى مزق ..
و نتيجة مهمة : أن يكون مبصراً ..في هذا الليل .
القصيدة إذن تصف ذاتاً قلقة تتناولها الهموم كلها - عامة و خاصة - و تغلبها - رغم أنها مهأة للعراك - و هذه الذات ترى الطريق يسلب ممنها القدرة على وصف ذاتها ، و تتحاول أن تحل الأمر خطأ في البداية : بتقمص ظل ذات أخرى ..غير أنها تحاول أن تحسم الأمر بعد اكتشاف أن هذه الطريقة غير صحيحة فالذات لايثبتها شئ من خارجها ..خصوصا في هذا الطريق ( الحياة ) الذي يزور حتى إمكاني التعبير عن ذواتنا ..و القصيدة ترى أن هذا العالم قفر ، و مزور ، و مداهن و الأشياء فيه مختلطة ..و لاسبيل إلا بالبدء بإثبات الذات ، و هذا لا يأتي من خارج الذات ..و إن هذا هو العراك الأهم في الحياة .
فإما أن تجد الذات " ذاتها " على الحقيقة ..أو لا شئ : ستكون معرضة لطريق يسلب من يحاولون احتواءه بالنفاؤل المفتعل ، و المعرفة الزائفة للذات - سيسلب الطريق هؤلاء حتى دمهم !!
تحية لك يا بله ..فلقد عشت مغامرة رائعة هنا .