الـــــسر الغميــــــــس !!! النور يوسف محمد

حكــاوى الغيـــاب الطويـــــل !!! طارق صديق كانديــك

من الســودان وما بين سودانيــات سودانييــن !!! elmhasi

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > مكتبة شوقي بدري

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-12-2006, 10:26 PM   #[1]
شوقي بدري
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية شوقي بدري
 
افتراضي من كان منكم بلا خطيئة....حزب الأمة؟؟

رحلة البحث عن الشين

أنا شوقي بدري أنصاري بالنشئة والتربية نشأنا وكل ما حولنا ينطق بالأنصارية والآن وأنا لست بالشيوعي أقول بملء فمي أن الشيوعيين يعدوا في مجموعة شرفاء السودان لهم حسناتهم وغلطاتهم مثل الآخرين واجهوا كل الوقت ولا يزالوا يواجهون اقسي التحديات . لا يصير الإنسان شيوعيا إلا إذا قرر أن يطلق الراحة والدعة وراحة البال (والترطيب) .
المتوقع من الشيوعي أن يضحي وان يكون متجردا وان يتقبل النقد ويمارس النقد الذاتي
من المؤكد أن كثير من الشيوعيين يشتطون ويحتدون في عداوتهم لان المخاطر والمواجهات التي يواجهونها يوما خاصة في أيام العمل السري تتطلب مقدرة عالية من الانضباط والالتزام والتضحية . وعندما يتقاعس البعض او يغير جلده يكون رد الفعل قويا وأكون كاذبا إذا قلت أنهم لا يمارسون اغتيال الشخصية والتجريم والتجريح ككل قطاعات المجتمع السوداني.

المؤلم جدا أن الجميع مطالبين بمقاطعة ومعادات الشخص المجمد أو المحارب ولكن هذا ليس برنامج الحزب وهدفه في الحياة . فعندما يقررون تطبيق الشريعة الإسلامية لا يفكر الناس إلا في الحد والقطع والجلد والسجن والتعذير .
الشيوعيون والذين هم مدرسة مهمة من مدارس الاشتراكية يدعون إلي العدالة الاجتماعية والوقوف مع حقوق المرأة والقضاء علي الظلم والتفرقة العنصرية والشوفينية ،وكل ما هو جميل ، أوروبا التي تقف الآن أمام أميركا وستكون القوة المخلصة من السيطرة الأميركية تحكمها الأنظمة الاشتراكية . والكلام علي أن الاشتراكية قد انتهت هذا كلام خاطئ فالاشتراكية تكسب وستكسب كل يوم وهاهي لاتين أميركا قد كسرت أغلالها . وصار مونرو دوكترين في حكم المنتهي .
وهذا خط سياسي استراتيجي رسم بعد الحرب العالمية الثانية جعل لاتن اميركا منطقة نفوز امريكي لا ينازعوا عليها.
لقد كثر الهجوم مؤخرا علي الحزب الشيوعي السوداني وممارسة الشيوعيون لاغتيال الشخصية نعم لقد حدثت تجاوزات بخصوص اغتيال الشخصية . ولكن ليس هذا خط سياسي شيوعي يدرس في مدرسة الكادر .
اذا كان الشيوعيون قد مارسو قتل الشخصية فقد مارس حزب الامة قتل البشر .

لقد اعتدي علي الأستاذ عبد الله رجب رئيس تحرير وصاحب جريدة الصحافة وهو العصامي الذي علم نفسه, و تعلم الانجليزية بنفسه ومترجم وثيقة حقوق للعربية وخلق مصطلح أهلنا الغبش، ومحمد احمد دافع الضرائب وسمي الأبيض عروس الرمال وعندما لم يرعوي تقرر قتله وهاجمه تيم كامل من أشداء حزب الأمة بقيادة صديقي البناء ياء الدين (ود فاطنة) وتركوه لأنهم حسبوا انه قد مات وذهب (الدين) للسجن بتهمة الشروع ف القتل السبب أن الأستاذ عبد الله رجب أورد اسم الصديق المهدي الصديق أفندي عبد الرحمن المهدي وهذا هو اللقب الرسمي لكل من تخرج من كلية غردون . وزعم أن وصف حفيد المهدي بالأفندي إساءة . صديقي الدين كان من سكان ود نوباوي لا يصلي ولا يمارس أي شعائر دينية ويرتكب كل موبقات الأرض.
في بداية سنة 1963 تعرض العالم المعروف السراج زوج والدة الصادق المهدي لعملية قتل بشعة فلقد قطع إلي قطع صغيرة وهو لا يزال علي قيد الحياة ولقد سمعت من الدين انه يعرف أولاد الأنصار الذين قطعوه وان الشيخ السراج يستحق القتل وأكثر لأنه تطاول علي أهل المهدي.
في سنة 1956 اعترض المحامي شمس الدين عبد الله بدوي علي احد قرارات الهادي المهدي او في الحقيقة لم يبدي رضائه التام فاحل والده العم عبد الله بدوي دمه فهرب المحامي شمس الدين من الجزيرة ابا وعاش منبوذا خائفا طيلة حياته .
احد أبناء الغرب واسمه كلول لم يقبل يد احد أبناء المهدي فسمع والده واحل دمه
لقد أتي حزب الأمة بجموع الأنصار عدة مرات إلي الخرطوم في 1954 الأول من مارس وقتل رجال البوليس وكثير من الأبرياء احدهم ميرغني عثمان صالح لأنه كان لابسا أفرنجي وعندما صرخ أخيه بعد ذبحه ده أنصاري كان الرد إلي جنة الخلد وعندما طالب الوزير ميرغني حمزة من أزهري أن يقدم الصديق المهدي إلي المحاكمة هلع الأزهري وقال له أنت جنيت؟ وقدم آخرين منهم الأمير نقد الله الرجل الشجاع وتقبل الحكم بشجاعة ثم الغي الحكم بعد الاستقلال وصار وزيرا للدفاع ووزيرا للداخلية . الفيتوري الذي لا يزال عائشا كتب قصيدة لم تعجب رجال حزب الامة فبعثوا بأشداء حزب الأمة وكان الفيتوري قد هرب من الجريدة وتدخل السر قدور الأنصاري زميل وصديق الشاعر الفيتوري المعروف
واتصل السر قدور بالفيتوري قائلا الناس ديل حا يكتلوك . تسوي ليك قصيدة سمحة تشكر فيها الأنصار وبعد يومين ننشرت قصيدة في نفس مكان القصيدة الأولي تمجد الأنصار . افيتوري ولسر قدور لا يزلا عائشان .
وكما ذكر الفيتوري في مقابلة تلفزيونية قبل سنتين أن الصادق المهدي قال له أنا لو ما كنت راجل ديمقراطي كنت أرسلت ليك ناس دقوك
الإنقاذ ذاهبة إذا أردنا ديمقراطية يجب علي كل حزب أن يلتفت إلي أخطاءه قبل أخطاء الآخرين

التحية
شوقي



التوقيع: [frame="6 80"]

العيد الما حضرو بله اريتو ما كان طله
النسيم بجى الحله عشان خاطر ناس بله
انبشقن كوباكت الصبر
وتانى ما تلمو حتى مسله
قالوا الحزن خضوع ومذله
ليك يا غالى رضينا كان ننذله



[/frame]


http://sudanyat.org/maktabat/shwgi.htm

رابط مكتبة شوقي بدري في سودانيات
شوقي بدري غير متصل  
قديم 10-12-2006, 10:41 PM   #[2]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شوقي بدري



في بداية سنة 1963 تعرض العالم المعروف السراج زوج والدة الصادق المهدي لعملية قتل بشعة فلقد قطع إلي قطع صغيرة وهو لا يزال علي قيد الحياة ولقد سمعت من الدين انه يعرف أولاد الأنصار الذين قطعوه وان الشيخ السراج يستحق القتل وأكثر لأنه تطاول علي أهل المهدي.

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شوقي بدري

الإنقاذ ذاهبة إذا أردنا ديمقراطية يجب علي كل حزب أن يلتفت إلي أخطاءه قبل أخطاء الآخرين

سلامات عزيزي شوقي
قالها عمدة بنفسه يا شوقي (الجمل ما بشوف عوجة رقبتو) ...
هذا الحزب حزب الأمة كان ولا يزال أس البلاء في تأريخ السودان منذ أن سلم السيد عبد الرحمن المهدي سيف جده الإمام المهدي لملك إنجلترا كهدية وأعاده إليه الملك الحصيف قائلآ له : إحتفظ به للدفاع عن إمبراطوريتي ؟؟
وحتى هروب رئيس الوزراء صادق المهدي حالقا ذقنه وشاربه ولابسا ثياب النساء الإسلامية (نقاب) وهروب وزير داخلية السودان مبارك الفاضل وهما المناط بهم حماية النظام الديمقراطي ؟؟؟ .(سيأتي دليلي هنا لاحقا علي هذه الحادثة)



(الوزير ميرغني حمزة الذي نادي بمحاكمة السيد الصديق المهدي فكان رد اسماعيل الأزهري "إنت جنيت" )


أسمح لي يا صديقي أن أجعل بوستك هذا ساحة لأثبت فيها كيف يكون الجهل (حزبا) .
كنت دوما أعمل وأدعو إلي وحدة الصف وعدم الإلتفات للصغائر وكنت أقول أن العدو واحد يجب أن نتوحد حياله وكانت النتيجة أن أطلق حزب الأمه (برشمه)* محمد حسن العمدة علي الحزب الشيوعي فقام الأخير بجمع كل ما وصل إلي يديه بصورة كوبي بيست لاعنا الحزب الشيوعي ومظهرا خطاياه ؟؟؟ ومن من الأحزاب السودانية بلا خطيئة ؟؟؟!! وليت كل ما جاء به كان حقيقة؟؟

سيكون البوست وكل ما أأتي به مدعما بالوثائق والمستندات.
لن ألجأ للشتم أو الألفاظ الجارحة .

تحياتي ... وبسم الله نبدأ


*برشم .
هو لاعب فريق الهلال الأمدرماني في الثمانينات كان وبالا علي الهلال لا تعرفه حقا لعبا للهلال أم ضده.



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 10-12-2006, 11:30 PM   #[3]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

[align=center]البيجر خيشك بتجر حريرو كمان
والسيف إن طلع ببين السجمان
البحر إن طلع لا بد يجيبلو خبوب
والفقري إن شبع بحوجك صبر أيوب

شوقي بدري
[/align]




سوف أبدأ سردي والذي سيكون ضخما جدا من حيث عدد الصفحات وكمية الوثائق والصور من أواخر آخر عهد ديمقراطي كان فيه صادق المهدي رئيسا للوزارة وكان وزير داخليته إبن عمه مبارك الفاضل المهدي وسنبحث هنا عن كيفية إستلام عدد قليل من المدنين من رجال الجبهة الإسلامية السلطة من أحفاد الإمام المهدي وكيف كان أداءهم لواجبهم وقد ملكوا كل الحقائق عن الإنقلاب حتى يوم التنفيذ ؟؟؟ ونعود بعدها لسرد كل المخازي للسيد مبارك الفاضل والسيد الصادق المهدي وكيف تهون الأوطان حين يكون قادتها مثل هؤلاء

اقتباس:
هذا التقرير، الذي أصبح يُعَدُ من أهم الوثائق التي تجاوزت أحاديث الشفاهة, فيما كان يصل إلى مسامع رئيس الوزراء في شأن الذي كان يجري فوق -وتحت- سطح الواقع السياسي السُوداني, ماذا كان حظه؟! كتب السيد الصادق مُلاحظاته عليه بخط يده، ووجَّهه إلى ”أخي الحبيب“.. ورغماً عن أن الوثيقة المنشورة كشطت الاسم, إلاَّ أن قرائن الأحوال تشيرُ إلى أنه واحدٌ من اثنين، لا ثالث لهما: إما وزير الداخلية نفسه، السيد مُبارَك الفاضل، بحُكم أن إدارة الأمن المذكورة تقع تحت دائرة مسؤولياته, أو رئيس جهاز أمن السُودان، السيد عبدالرحمن فرح، الذي تتكامل مسؤولياته مع الإدارة المعنية, وكلاهما من قادة الحزب العتيد.. بل إن رئيس الوزراء وصف التقرير لأحدهما، بأنه: «كالعادة، مُبتسرٌ من حيث الحقائق والتحليل»!! وتساءل باستخفافٍ مُمعنٌ في السُخرية: «متى يرقى الأمن الداخلي للإحاطة بالحقائق والتحليل الأشمل؟».
اقتباس:
ففي إحدى حلقات النقاش التي دأب المعتقلون على عقدها داخل سجن كوبر، بعد الانقلاب, بُغية طرد الملل وتبديد السأم الذي يضجر النفوس, صَدَرَ عن السيد الصادق المهدي قولٌ أراد به تعميم المسؤولية، فقال: «كلنا مسئولون عن الانقلاب».. فبادره السيد محمد إبراهيم نُقد بعبارة اعتراضية، قائلاً له: «الحقيقة أنتم لوحدكم المسئولون».. فسأله المهدي قاطباً جبينه، كتعبيرٍ عن حالة الضيق التي اعترته: «كيف؟!».. فقال نُقد: «أبلغناكم به».. فردَّ المهدي: «أبلغتم مَن؟!».. فرد نُقد: «أبلغنا صلاح عبدالسلام (أحد قيادات حزب الأمَّة وكان يشغل منصب وزير شؤون الرئاسة) الذي يجلس بقربك»، مشيراً نحوه بسبابته.. فسأل المهدي الأخير: «صحيح الكلام ده يا صلاح؟!».. فقال صلاح: «نعم»!! ساد صمتٌ عميق، تبَعثرت خلاله نظرات الجالسين، واهتزَّت له جدران السجن العتيق، والمتشققة أصلاً من هول أحداثٍ جسام، عَبَرَت خلالها طوال عقود زمنية.



(1)
اقتباس:
المَشْهَدُ الأوَّل: عَشِيَّة الكَارِثة(*)

تميَّز الانقلاب الأخير في السُودان عمَّا سواه من الانقلابات الماضية, بأنه الأول الذي تواترت أخباره من وراء الحدود.. وخلالها، كان هناك من يُحاول القيام بواجبه, وقرع ناقوس الخطر قبل فترة طويلة, مُستشعراً السُلطة التنفيذية التي يقف على رأسها السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء.. «في يوم 18/3/1989في حديث عابر مع سفير دولة أوروبية, سألني عن الأوضاع بالسودان, وقال لي إنه سمع من بعض المسئولين المصريين أن انقلاباً سوف يحدث بدون شك, وأن الأمور لا يمكن أن تستمر على تلك الحالة, وبعدها حدثت محاولة انقلاب صلاح الضوي والمرحوم الزبير محمد صالح, وبعدها قمت بإرسال تقرير ضافٍ باليد للسيد رئيس الوزراء, مقيّماً الوضع بين السودان ومصر على ضوء التصريحات المتبادلة بين البلدين, وأشرت فيه إلى موضوع الانقلاب». ثم بعدئذٍ تكاملت الرؤى والمعلومات والوقائع مع ما كان يجري داخل الحدود.

صباح الجمعة، 23 يونيو/حزيران 1989، تحلَق حول السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء ”المُنتخبُ“ آنذاك، بعض ضيوفه، في منزله الكائن بمدينة أمدرمان ”حي المُلازمين“.. دخل عليه ضابط من ذوي الرتب الوسيطة في القوَّات المسلحة، وكان يتأبَّط خبراً مزعجاً، تشيبُ له الولدان، وقد جاء تحديداً لإبلاغ المهدي به، فقال له: «هناك ترتيباتٌ تَجرِي لتنفيذ انقلابٍ عسكري لتَغيير السلطة الديمقراطيَّة»!!

سألَه المهدي في البداية -ولم يُبدِ اكتراثاً ملحوظاً لمجالسيه- عن مصدر معلوماته.. فقال له الضابط: «ليس هناك مصدر معيَّن».. لكنه شرح للمهدي أنه، بعلاقاته المتشعِّبة وسط زملائه من العسكريين، استطاع التقاط كثير مِن الهمس الذي يدور بين ضبَّاط المؤسَّسة العسكريَّة, لدرجة أصبح ذلك في حكم اليقين.. وأضاف أنه لا يعلمُ متى سيحدث الانقلاب، ولا كيف؟! وبعد فترة ران فيها صمت رهيب على المكان, باغته المهدي بسؤالٍ استنكاري: «تفتكر مُمكن ضابط يغامر ويهِد الشرعيَّة الدُستورِيَّة؟!».

لم يكن المُساءل في حالٍ يستطيع معها أن ينفى ولعاً شرهاً وطموحاً أرعن، أصاب كثيرين من منتسبي تلك المؤسَّسة بداء الانقلابات العسكريَّة, عبر سنوات من تأسيسها، لحماية ”الأرض والعِرْض“.. فردَّ على سؤال المهدي بقوله: «يا سيِّد الصادق، الضابِط المُغامر عندما يركب الدبَّابة، لا يعرِف ”المؤسَّسة الشرعيَّة“, وكلُّ تفكيره يكونُ مركَّزاً في اتجاه أن حياته في خطر، ممَّا يحفِّزه لتنفيذ تلك المُهمَّة فقط»!!

عاجلَه المهدي بسؤالٍ تَقريري آخر، ينضح تواضعاً: «تفتكر ما الذي يمكن عمله؟».. لَم يتحذلق المُساءل في سؤالٍ يعلم أن سائله بمقدوره أن يؤلِّف فيه كتباً, فحصر اجتهاده فيما يعلمه، وقال له: «مِن الناحِية العسكريَّة، أستطيع أن أقول لك إن قادة الوحدات العسكريَّة يجب أن يكونوا ملازمين في وحداتهم بدرجة استعدادٍ قُصوى، وتَأهُّبٍ كامل, كما يمكن أن توضع كتيبة، أو أكثر، في منطقة ”فتَّاشة“ تحسُّباً».

بدا السؤال الذي ألقى به المهدي فضفاضاً، يغري بالاجتهاد, فكسر حاجز الصمت الذي خيَّم على الحاضرين, وتمطَّى الحديث بنهمٍ، تنظيراً وتفعيلاً، باستدعاء كل شاردة وواردة.. فمن قائل بأهمية تسريع خطى اتفاقية السلام, ومن رأى ضرورة طواف السُلطة التنفيذيَّة -التي على رأسها رئيس الوزراء- على الوحدات العسكرية المختلفة، لتوضيح أهميَّة الحفاظ على النظام الديمقراطي، وحماية ”الشرعيَّة الدُستوريَّة“.. وشمل الحديث ضبط الأسعار الفالتة في الأسواق، لإشعار المواطنين بأنَّ هنالك سلطة ترعى شئونهم!!

كان المهدي يصغي -كعادته- بإيحاء من تدبَّر لغده أمراً، أو هكذا ظنَّ مجالسوه, فانفضَّ سامرهم، كلٌ مضى إلى حال سبيله، بِما فيهم ناقل ”الكُفر“ بالنظام الديمقراطي.. ونودي على المهدي ليدرك صلاة الجمعة.

بعد يومين مِن ذلك التاريخ، وتحديداً في يوم 25 يونيو/حزيران 1989، كان بِضعة أفرادٍ مِن جهاز الأمن الداخلي يحاولون رصد وقائع اجتماعٍ هام لعدد من قيادات ”الجبهة القومية الإسلامية“ في ضاحية ”المنشيَّة“، شرقي الخرطوم، منزل ربيع حسن أحمد, وكانت الإجراءات التأمينيَّة لهذا الاجتماع مثيرة بدرجة تثير الفضول, وتَشي باحتمالات حدثٍ قادم.. «ومن المفارقات العجيبة، أن يمر بهم السيد عبدالرحمن فرح، رئيس جهاز أمن السودان، في ساعةٍ متأخرة من الليل، وهو في طريقه إلى منزله بالمنشيَّة, وحرص أحد هؤلاء الضباط على إطلاعه على مهمَّتهم، وتنويره بما يجري في هذا الاجتماع المصيري.. ومن أطرف الحوارات التي دارت في تلك الليلة، المشحونة بالتربُّص، حوارٌ بين رئيس الجهاز وذلك الضابط، الحريص على أداء الواجب في تلك الساعة المتأخِّرة من ليلٍ خانق، اشتدَّت فيه وطأة الأحداث، ووطأة الحرِّ.. في هذا الحوار، قال الضابط، وهو برتبة نقيب أمن، لرئيسه: يا ريِّس، نحن الآن نقوم بِرصد اجتماعٍ هام لقيادات الجبهة الإسلاميَّة.. وعلى الفور سأله رئيس الجهاز: وما هي الأسباب من وراء هذا الرصد؟ أجاب النقيب: سعادتك.. الجماعة يرتبون لشيء ما.. أعتقد أنه انقلاب.. وقد وزَّعتُ القوة لمعرفة ما يدور، ولمتابعة الأمر.. ضحك عبدالرحمن فرح، وقال باستخفاف: الجماعة ديل يعملوا انقلاب؟! ثم تابع قائلاً للنقيب: إنتو مشغولين بالفارغة.. عينكم لـ”المايويين“ متحرِّكين وبيعملوا في انقلابات، وإنتو ترصدوا في ناس الجبهة؟ ثم طلب رئيسُ الجهاز في هذا الحوار القصير من ضابط أمنه أن ينهوا هذه المهمَّة، ويعودوا إلى أشغالهم، والاهتمام بالمايويين».

”المايويُّون“ الذين عناهم رئيسُ جهاز الأمن، هم بقايا الرئيس المخلوع جعفر نِميري, وقصد بحديثه ذاك محاولة انقلابيَّةَ مزعومة، قيل إنها كان ينبغي أن تحدث في يوم 18 يونيو/حزيران 1989، لتغيير الحكم, وكان اللافت فيها صمت كل المسؤولين في أجهِزة الدولة، بأجنحتها المختلفة, عدا ثلاثةٌ من الجهاز التنفيذي، جميعهم بهويَّة حزب الأمَّة, انبروا في الحديث عنها بسيناريوهاتٍ مثيرة, وتفاصيل استخفَّت بالعقل الجمعي لأهل السُودان بصفة عامة، وساسته بصفة خاصَّة.. ابتدرها السيِّد مُبارَك الفاضل المهدي، وزير الداخليَّة آنذاك، بالحديث إلى عدَّة صحفٍ محليَّة ودوليَّة، مؤكداً أن الخطة الانقلابيَّة كانت ستنفَّذ يوم 18/6/1989، لتتزامن مع مخاطبة رئيس الوزراء للجمعيَّة التأسيسيَّة, حيث كان من المتوقع أن تهاجم المجموعة الانقلابيَّة البرلمان، وتقضي على القيادتين، العسكريَّة والسياسيَّة، وتشل الحركة في الدولة، فيما يعود نميري.. ثمَّ أضاف شيئاً من ”المشهِّيات“ اللازمة، بما يجعل من السيناريو حدثاً مهضوماً!! فيما رأى رئيس جهاز الأمن، المسكون بـ”فوبيا المايويِّين“، أن الأمر يتطلب مؤتمراً صحفياً, عقده بالفعل يوم 20/6/1989، واسترسل فيه بخيال خصب, بدءاً مِن اكتشاف مبالغ مالية كبيرة في حوزة المعتقلين, مروراً بخططهم, وانتهاءً باتخاذ الحكومة لإجراءاتٍ أمنية مشدَّدة، في المطارات والموانئ، لئلا يهرب ”المتورِّطون والمتعاملون معهم“ من البلاد.

أما رئيس الوزراء، الصادق المهدي، فلم يتوان في خلع جلبابه المدني، وارتداء بزَّة الجنرالات، وهو يخاطب الجمعية التأسيسية صباح اليوم التالي 21/6/1989، فأكد أن الانقلابيين كانوا يزمعون إطلاق قذائف مدفعية على مبنى البرلمان، للقضاء على السلطة التنفيذية والتشريعية, وتحريك الوحدات العسكرية المختلفة، والمبعثرة في أرجاء العاصمة وضواحيها، للاستيلاء على مبنى الإذاعة.. وتجاوز رئيس الوزراء في حديثه سقف الخيال، في التأكيد أيضاً بأن الانقلابيين، حال ما تؤول لهم السلطة، فإنهم سيقومون: «بإحضار السفاح نميري، وتصفية كل المعارضين, وبعد ذلك تتم تصفية السفاح نفسه»!! وأحكم رئيس الوزراء الحبكة الدرامية، بتحديد ساعة الصفر، والتي قال إنها: «الحادية عشرة صباحاً».

واقع الأمر، كان ذلك أمراً عصياً على الفهم والإدراك، في روايات المسؤولين الثلاثة, ولكن بغضِّ النظر عن خيالاتها الشاطحة, وبرغم المثالب التي اعتورتها, فقد كان من الطبيعي أن يستدعي الحدث -بمقاييس الفعل ورد الفعل- الشروع في تحوُّطات عسكرية وأمنية وسياسية, تحمي ”الشرعية الدستورية“ وتكسبها واقعاً مُهاباً. غير أنَّ البديل، كان ”استرخاءً“ سمجاً، حشرت السلطة نفسها في دولابه, ونام كل من أدلى ببيانه للناس قريرُ العين، هانئها, علماً بأن الفارق الزمني بين الانقلاب المزعوم والواقعي الذي حدث بعدئذٍ, لم يتجاوز العشرة أيام.. والمسؤولون الثلاثة، هم المُناط بهم بالدرجة الأولى السهر لحماية ”الشرعية الدستورية“.

أكد كثيرٌ من المراقبين، والمحللين السياسيين أن الانقلاب الحقيقي في 30 يونيو/حزيران 1989، استخدم الانقلاب المزعوم كغطاء تمويهي لتعزيز نجاحه, وهو افتراضٌ -بغضِّ النظر عن جدليته- يوضح مدى استخفاف الانقلابيين بـ”الشرعية الدستورية“، لأن الفاصل الزمني يستلزم التحوطات التي ذكرنا، وليس العكس.. بالتالي، فالذي أقدم على ”مغامرة“ كتلك، كان يدرك تمام الإدراك أنها سلطة لن تحرِّك ساكناً، طالما أن ”حرَّاسها“ في أوهامهم سادرون.

سواءٌ كان الانقلاب المزعوم غطاءً تمويهياً للانقلاب الفعلي، أم لا, فالأنكى والأمرُّ في كل تلك الرواية, أن الانقلاب المزعوم نفسه, والذي تبارى السادة المذكورون في رسم سيناريوهاته بخيال ”هوليودي“ استند من جهة في حقيقته على طموحٍ أقرب إلى الهذر والسذاجة، ممن سُمِّي بقائد المحاولة، ”العميد أحمد فضل الله“، نائب مدير كلية القادة والأركان.. ومن جهة أخرى، ألبس ذلك الطموح ”اللواء صلاح مصطفى“، مدير الاستخبارات العسكرية، ثوباً فضفاضاً، وقدَّمه لمرءوسيه في هرم القيادة, حيث التقط القفاز بعضهم، وطرحوه طازجاً بين يدي السلطة التنفيذية, والتي أضافت له من خيالها الخصب ما جرى ذكره.

كنا قد توقفنا حيث أنهى نقيب الأمن مهمة مجموعته، استجابة لطلب رئيس الجهاز عبدالرحمن فرح.. انصرفوا لقضاء ما تبقى من الليل مع أسرهم, على الرغم من أنهم كانوا قد استيقنوا -دونما تفاصيل تشبع رغبتهم- بأن الاجتماع كان محوره الأساسي التخطيط لتنفيذ انقلابٍ عسكري لصالح الجبهة القومية الإسلامية.

بَيْدَ أن المهمة لم تنته في صباح اليوم التالي 26/6/1989، بالنسبة لمدير إدارة الأمن الداخلي، اللواء صلاح الدين مطر, الذي أعدَّ تقريراً ”خاصاً وعاجلاً“ إلى رئيس الوزراء، بنسخة منه إلى وزيري الدفاع والمالية، رصد فيه بصورة شاملة ردود الفعل المتباينة في أوساط الأحزاب، والتنظيمات النقابية والعسكرية، وكذلك آراء المواطنين، بالنسبة لما أُعلِنَ عن المحاولة الانقلابية المذكورة، جاء فيه: «يرى بعض العسكريين أن القوات المسلحة كان لها رأى واضح في الوضع الراهن بالبلاد, عكسته مذكرة الجيش في فبراير 1989, وما أوردته من أسباب موضوعية فيها -على حد تعبيرهم- يجعل أمر التحرك العسكري لتغيير الحكم شيئا متوقعاً, وأنه سيلقى الدعم من الوحدات».. وخلص فيه إلى أنه: «ظل يتردد أن بعض قيادات الجيش صرَّحت بأنها لن تتمكن من السيطرة والتحكُّم في من هم تحت إمرتها، ومنعهم من المغامرة، طالما أن الأسباب لقيام الانقلابات قائمة».. وأورد التقرير أيضاً مواقف الأحزاب المختلفة، بما فيها الجبهة القومية الإسلامية, ثم آراء المواطنين بصورة شاملة.. وختم مدير الأمن الداخلي ما جاء في التقرير بتعليقٍ وضع فيه قلمه على الجرح النازف، ذاكراً: «من خلال استطلاع آراء المواطنين، اتضح أن الكثيرين، وبسبب المعاناة المعيشية والحياة, أبدوا تعاطفهم مع ”التغيير“، وليس ”الانقلاب“».. ثم أسدى النصح لرئيس الوزراء، الذي لم يستبنه إلا ضُحى الغد: «والبعض الآخر يرى، ولتفادي السلطة لأي مغامرة جديدة, أن تعالِجَ مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية، وتحارِب الفساد، وعلى أعلى المستويات، وتقديم كل من يثبُت فساده للمحاكمة، وأن تمضى قدماً في مساعي إحلال السلام في الجنوب والغرب».

هذا التقرير، الذي أصبح يُعَدُ من أهم الوثائق التي تجاوزت أحاديث الشفاهة, فيما كان يصل إلى مسامع رئيس الوزراء في شأن الذي كان يجري فوق -وتحت- سطح الواقع السياسي السُوداني, ماذا كان حظه؟! كتب السيد الصادق مُلاحظاته عليه بخط يده، ووجَّهه إلى ”أخي الحبيب“.. ورغماً عن أن الوثيقة المنشورة كشطت الاسم, إلاَّ أن قرائن الأحوال تشيرُ إلى أنه واحدٌ من اثنين، لا ثالث لهما: إما وزير الداخلية نفسه، السيد مُبارَك الفاضل، بحُكم أن إدارة الأمن المذكورة تقع تحت دائرة مسؤولياته, أو رئيس جهاز أمن السُودان، السيد عبدالرحمن فرح، الذي تتكامل مسؤولياته مع الإدارة المعنية, وكلاهما من قادة الحزب العتيد.. بل إن رئيس الوزراء وصف التقرير لأحدهما، بأنه: «كالعادة، مُبتسرٌ من حيث الحقائق والتحليل»!! وتساءل باستخفافٍ مُمعنٌ في السُخرية: «متى يرقى الأمن الداخلي للإحاطة بالحقائق والتحليل الأشمل؟».

تساؤل لم يكن الله وحده -جلَّ شأنه وعلا- يعلمه، كما قال المهدي في ختام تعليقه, فالثابت عندئذٍ أنه هو أيضاً كان يعلمُ إجابته.. والمُوقنون بهذه القدرية -فيما نعلم- يشمِّرون عن سواعد الجد، ليدرأوا الشبهات بالحيطة والحذر, ويَعمَدون إلى السياسات التي تطعم المُسغبين, وتحارب المُفسدين, وتبُثُ الأمن والطمأنينة في نفوس المُتعبين, وتُعِدُّ القوة ورباط الخيل للمستهترين بمصائر الخلق, وبعدئذٍ سيجدون أن الخالق الذي سألوه إلهاماً وإلحافاً أقرب إليهم من حبل الوريد!!

في اليوم التالي لتقرير مُدير الأمن الداخلي, كان ثمة سيناريو يجري في موقع آخر.. فقد أورد سياسي ينتمي أيضاً للحزب الكبير شهادته عنه, ولكن بعد عشر سنوات من وقوع الطامة الكبرى، إذ قال: «في يوم الثلاثاء 27/6/1989، زرتُ الأخ إدريس البنَّا، ممثل حزب الأمة في مجلس رأس الدولة (قيادة جماعية) في مكتبه بالقصر الجمهوري، للتشاورِ معه حول ما كان يتردَّد عن انقلابٍ يوشك أن يقع، فيما رئيس الوزراء لا يحرِّك ساكناً.. اقتحم علينا خلوتنا الأخ أحمد عبدالرحمن محمد، وهو من قيادات الجبهة القومية الإسلامية، وهو يقول ”قفشتكم يا رجعيين, قاعدين تتآمروا على كيفية الفرار من الانقلاب؟ والله جاييكم.. جاييكم“.. هكذا أكد لنا عن مرئياته حول المتوقع».

غير أن السيد إدريس البنَّا نفسه كان أكثر تحديداً في تحميل رئيس الوزراء -وهو رئيس حزبه أيضاً- المسؤولية، حيث قال في حوارٍ نشر مبكراً, بعد نحو عامين من الانقلاب, في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 7/11/1991: «ذهبتُ إلى المهدي في مكتبه قبل خمسة أيام من وقوع الانقلاب، لأخطره بمعلوماتٍ تؤكد حدوث انقلابٍ وشيك, إلا أن المهدي لم يهتم.. بل استبعد تلك المعلومات». ولعل المُفارقة الغريبة فيما أدلى به من اعتراف, أنه بالرغم من عُضويته في أعلى هرم سيادي في السلطة الديمقراطية, إلا أنه، هروباً من المسؤولية التاريخية أيضاً، جعل من نفسه رسولاً يلقي البيان المُبين على مسامع رئيس الوزراء، دون إقرارٍ بمسؤولية المجلس الخماسي نفسه، فيما يمكن اتخاذه من تدابير، تقطع الطريق على الانقلابيين, علماً بأن ذات المجلس كان قد فاجأ المواطنين السُودانيين, بعد نحو عام ونيف من اختياره, وتحديداً في 25/7/1987، باستلهام آليات النظم الديكتاتورية، وتلبيسها للنظام الديمقراطي، حيث أصدر بياناً أعلن فيه فرض حالة الطوارئ: «تأميناً للجبهة الداخلية في مواجهة أعداء الديمقراطية والوطن».. والمُدهش أن الأعداء المُفترضين والمُتربصين بالوطن، وديمقراطيته, كانوا في واقع الأمر طلاَّباً ومواطنين، قاموا بتظاهرات تطالب أُولِي الأمر برفع أعباء المعيشة المُتصاعدة عن كاهلهم، المُنهك أصلاً ببلايا ورزايا من انتخبوهم لتمثيلهم.

ما أكثر الرواة، والحدث واحد.. فقد تعدَّت أخبار الانقلاب دوائر الخرطوم العاصمة، التي لا تعرف الأسرار، والتي ”نامت نواطيرها عن ثعالبها“, ووصلت إلى بعض الأقاليم، فشاطرتها العلم بها.. ففي مساء الثلاثاء 27/6/1989 أيضاً، كانت نذرها قد وجدت طريقها إلى راعي الحزب الشريك في الائتلاف.. جاء قادماً من مدينة كسلا العميد محمد عثمان كرَّار، حاكم الإقليم الشرقي، إلى الخرطوم، وقصد منزل السيد سيد أحمد الحسين, وزير الخارجية والأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي, ووجد معه أحد كوادر الحزب ”محمد المعتصم حاكم“, وأوضح أن سبب مجيئه تواتر أخبار مؤكدة عن حدوث انقلاب, فاقترح عليه الحسين إبلاغ السيد الميرغني بذلك، فذهب ثلاثتهم إليه، وأطلعه اللواء كرَّار على المعلومات التي من أجلها قطع الفيافي، وترك تصريف شئون الإقليم، وهو يقود سيارته بنفسه.. كان رد الميرغني عليه: «الحديث عن انقلاب مالي البلد.. لكن دا ما حيحصل.. مُجرد إشاعات»!! وكرَّر الأخيرة هذه ثلاث مرات، حتى يبث الطمأنينة في نفوس زائريه, وطلب من اللواء كرَّار العودة صباح اليوم التالي إلى إقليمه، لأن هناك مهام كثيرة في انتظاره!!

ثم جاءت شهادة أخرى ”بعد أن حلب الدهر أَشطرَهُ“، كما تقول الأعراب, وقائلها هو من وردت مسئوليته فيما سبق, ولكنه هنا أراد التحلحل منها، ورميها على كاهل رئيس الوزراء، وصنوِّه الآخر، الذي يحلو له إدارة الشأن السياسي من وراء حجاب.. ففي أول إفادة مقروءة له، بعد عقدٍ ونصف من وقوع الكارثة, قال السيد عبدالرحمن فرح: «كنت مستشاراً، أو وزيراً مركزياً للأمن، وكنت أعلم بالكثير، حتى بهذه الإنقاذ وخلافها, غير أنني كنت مغلول اليد, مبتور اللسان.. ورغم ذلك بلَّغتُ لطرفي الحكم في ذلك الوقت، رئيس الوزراء السيد الصادق المهدى، والآخر السيد محمد عثمان الميرغني يداً بيد, ولا أملك غير التبليغ». ويضيف بما هو أسوأ: «سقط الحكم على يد الإنقاذ, وإن لم تفعل كان سيسبقها عليه آخرون».. وبالرغم من إقراره -أو إن شئت- علمه بأن السُلطة المسؤول عن أمنها قد تزلزلت هيبتها، حتى تبارت فيها الحركات الانقلابية.. وبالرغم من رد فعله حيال الذين كانوا يرصدون اجتماع قيادات الجبهة القومية الإسلامية، وفق ما جرى سرده من قبل, فهو يقول إنه كان ”مبتور اللسان“, ”مغلول اليد“ و”لا يملك غير التبليغ“!! والذي أوصل من خلاله الرسالة إلى المصب، الذي تتجمَّع فيه أسرار الدولة العليا.. ومن عجبٍ، لعله هنا قد روى الرواية أعلاه، ليضاعف مسؤولية رئيس الوزراء، ويستثني نفسه منها.

كانت المعلومات تتدفق، حتى قبل ساعاتٍ من ساعة الصفر.. ففي يوم الخميس 29/6/1989، الساعة الواحدة ظهراً, كان السيد جيمس جرانت، مدير اليونيسيف، على موعدٍ مع رئيس الوزراء.. قبيل ذلك بلحظات قليلة، لاحظ السفير علي حمد إبراهيم، رئيس مكتب التنسيق بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، وأحد قيادات حزب الأمَّة, أن ضابطاً برتبة عقيد -سقط اسمه من ذاكرته- يذرع ردهات مجلس الوزراء جيئة وذهاباً, بصورة قلقة، تلفت الانتباه.. فسأله عن غرضه, فقال إنه يريد مقابلة رئيس جهاز الأمن لأمرٍ هام, ثم أفصح له عنه، دون مُداراة: «أنا ضابط ملحق بمؤسسة الزبير رجب, وبناء على معلومات توفَّرت لي، هناك انقلاب سيحدث غداً».. أبدى السفير اهتماماً شديداً برواية الضابط، وأثناء ذلك، دخل إلى المبنى السيد عبدالرحمن فرح، فانتحى بحامل الرواية جانباً، وقضى معه وقتاً ليس بالقصير، غادر بعدها الضابط المبنى، بعد ما أفضى بمكنون صدره.. فسأل السفير السيد فرح، الذي قال له: «المعلومة ما جديدة عليَّ.. الحاجة الماعندي هي ساعة الصفر.. وأنا رئيس جهاز، لا أستطيع أن أعتقل, وإنما لدي سلطة تبليغ مجلس الأمن الوطني». ثم دخل على رئيس الوزراء, ولا يُعرَف إن كان مجيئه لهذه الغاية, أو تداول معه المعلومة؟! وبعده حضر السيد جرانت محمَّلاً بعرضٍ جاذب لرئيس الوزراء، وهو تخصيص الهيئة الأممية لمبلغ 500 مليون دولار للحكومة السُودانية، لتعمير ما دمَّرته الحرب في الجنوب, إن هي مضت في اتجاه تنفيذ مبادرة السلام!! وأيضاً لا يُعرَف إن كانت أخبار الانقلاب قد طرقت آذان المسؤول الأممي، وبناء عليه جاء بذلك العرض المُغري, أم أنها الآلية الوحيدة التي تعرفها الأمم المتحدة في مثل تلك المواقف؟!

ثم جاء التوثيق الأخير -بعد أن سبق السيف العذل- وكان أكثر شمولاً، لأنه أُثير في جمعٍ من المُصابين بتعدُّد مشاربهم السياسية, وقد أمَّن على تفاصيله كل من كان عليه شهوداً.. ففي إحدى حلقات النقاش التي دأب المعتقلون على عقدها داخل سجن كوبر، بعد الانقلاب, بُغية طرد الملل وتبديد السأم الذي يضجر النفوس, صَدَرَ عن السيد الصادق المهدي قولٌ أراد به تعميم المسؤولية، فقال: «كلنا مسئولون عن الانقلاب».. فبادره السيد محمد إبراهيم نُقد بعبارة اعتراضية، قائلاً له: «الحقيقة أنتم لوحدكم المسئولون».. فسأله المهدي قاطباً جبينه، كتعبيرٍ عن حالة الضيق التي اعترته: «كيف؟!».. فقال نُقد: «أبلغناكم به».. فردَّ المهدي: «أبلغتم مَن؟!».. فرد نُقد: «أبلغنا صلاح عبدالسلام (أحد قيادات حزب الأمَّة وكان يشغل منصب وزير شؤون الرئاسة) الذي يجلس بقربك»، مشيراً نحوه بسبابته.. فسأل المهدي الأخير: «صحيح الكلام ده يا صلاح؟!».. فقال صلاح: «نعم»!! ساد صمتٌ عميق، تبَعثرت خلاله نظرات الجالسين، واهتزَّت له جدران السجن العتيق، والمتشققة أصلاً من هول أحداثٍ جسام، عَبَرَت خلالها طوال عقود زمنية.

ذلك غيضٌ من فيض.. ولو شاء المرء حصر كل الشواهد والأدلَّة, لما وسِعَه هذا الكتاب.. ويمكن القول بأن تداعي النظام الديمقراطي, والترتيبات التي كانت تجرى لتنفيذ الانقلاب, كانتا كتاباً مفتوحاً، قرأه معظم السودانيين, أو بحدٍ أدنى غالبية المُتابعين للحراك السياسي. ومن المؤكد أن الروايات السابقة، المثبتة، ليست هي كلُّ -أو جُلُّ- ما وصل لمصبِّ رئيس الوزراء، والآخرين الذين يشاطرونه المسئولية.. ولعلَّ القليل الذي وصل، واستنطق الصخر العصيَّا، كان المهدي قد عالجه -بما جرى سرده- بكثير من اللامبالاة, وهى الوجه الآخر للعجز في الأداء، والفشل في اتخاذ القرار.

غير أن المُفارقة، أنه لا يرى الأمر كذلك, حينما عزا العيب إلى البلاد التي اضطر لإدارة شئونها: «إنني كنت أتمزَّق ما بين 1986-1989 وأنا مضطرٌ لإدارة بلادٍ معجِّزة، وظروفها لا تسمح بمواجهة قَدرها بحزمٍ, فاضطررتُ لتسيير البلاد بالاستجداء، والصلات الطيبة». وبالطبع يعجز أي كائنٍ أن يفسِّر مغزى هذا الاضطرار!! ليس هذا فحسب، فهو يلقي بعجزه على الديمقراطية نفسها.. ففي سؤالٍ استصحبه الصحفيون دوماً في حواراتهم معه، منذ أفول نجم الديمقراطية الثالثة، حول مسئوليته في التفريط الذي أدى إلى سقوطها, يوردُ المهدي -في سياق مبرِّراته غير الواقعية- تناقضاً عجيباً، فيقول: «أما مسألة التفريط في الديمقراطية, فهي مسألة تتلخَّص، وببساطة شديدة، في عجز أي حكومة ديمقراطية في مقاومة الانقلابات العسكرية, ومن الصعوبة بمكان أن تحول، من خلال وسائل قانونية، دون وقوع انقلاب عسكري, وإزاء وجود تآمر من بعض القوى الحزبية غير الملتزمة ديمقراطياً. لقد كان في إمكاننا وقف أي انقلاب عسكري خلال الفترة الماضية».

وبغض النظر عن جدلية أن الديمقراطية تحميها الوسائل القانونية، أو المواثيق الوضعية وحدها, لكن فيما بدا أن الصحفي الذي أجرى الحوار بُهِتَ في تصحيف عبارته الأخيرة، التي ادعى فيها أنه: ”كان بإمكانه وقف الانقلاب“.. فأردف الصحفي متسائلاً: «كيف؟!».. فأجابه المهدي: «من خلال اتخاذ وسائل غير قانونية.. كأن ننشئ مليشيات مسلحة.. كان بالإمكان عمل ذلك, لكن النظام الديمقراطي يفترض مبادئ معينة.. افتراض أن القوى المدنية ملتزمة ديمقراطياً, أي ليست لها مطامح في استلام السلطة عن طريق العنف, وافتراض أن القوى العسكرية منضبطة, فإذا رفضنا هذين الافتراضين، سوف تصبح لدينا قوى ضاربة خارج الجيش, وعمليات استقطاب من داخل الجيش. مشكلتنا الأساسية أننا أطعنا القانون, على الرغم من أن لدينا [50] ألف مسلح ”تحت الطلب“»!! بالرغم من أن المهدي افترض خطأً بأن الخروج على القانون هو السبيلُ الوحيد لتحصين النظم الديمقراطية، من داء الانقلابات العسكرية, لكن لو سأله الصحفي: «أين؟!»، تعليقاً على عبارة ”50 ألف مسلح تحت الطلب“ لما وجد عنده إجابة شافية, وذلك استناداً إلى ما جرى على لسانه يوم أن كان على سُدة الحكم، وقبل ثلاثة أشهرٍ فقط من الانقلاب: «لا وجود للمليشيات في حزب الأمة، فكيان الأنصار قام برفع السلاح ضد نميري, ولكنهم قاموا بتسليم ذلك السلاح للجيش عند عودتهم من الخارج، بعد سقوط نظامه».

هكذا ينسخ رئيس الوزراء أقواله, ويجعلُ لكل مقامٍ مقالاً.. ومرة أخرى ينسى أنه قائل النفي أعلاه، وبمهارة لاعب سيرك متمرِّس، يتلاعب بالأرقام، قال: «نحن باختيارنا لم نقم بعمل عسكري, كرئيس وزراء كنت أستطيع إنشاء جيش فيه عشرون ألفاً من المليشيا من دون صعوبة مادية أو بشرية.. هم يعلمون أننا كأنصار في دمنا تربية جهاديَّة، يمكنها بسهولة أن تتحول إلى طاقة قتالية, لكننا علقناها كي نلعب في المجال السياسي بالقواعد الليبرالية». ويمضي في محورٍ آخر من الحوار، بنفس الحيوية، فيقول: «نحن لدينا إمكانيات بشرية ومادية وعسكرية كافية لأن نقهرهم سبع مرات».. والمُبشَّرون بـ”القهر“ هنا هم الذين اغتصبوا السلطة!! وبالنظر لتاريخ الحوار، سنرى لاحقاً ما الذي حدث، حينما طبَّق المهدى نظريته، و”تمرَّد“ على القانون الذي لم يكن بوسعه أن يتمرَّد عليه وهو في السلطة, وذلك حينما دعا أنصاره ”المنتظرين تحت الطلب“ إلى ”الهجرة“, بغية قهر النظام، لمرة واحدة، وليس سبعاً كما تمنى وأكَّد!!

من جهةٍ ثانية، لم يجد المهدي حرجاً في سرد بعض الوقائع، فيما حدث يومذاك، بطريقة لولبية: «في مارس من عام 1989، زارني السيد أحمد سليمان، وعرض عليَّ أن نقيم نظاماً رئاسياً أقوده ليحكم البلاد، ويحسم مشاكلها، وتدعمه الأمة والجبهة، ويُفرَضُ على الآخرين بالأغلبية النيابية، إن أمكن، وبالقوَّة إن لزم.. رفضتُ ذلك الاقتراح, وأوضحتُ أني مع إدراكي لعيوب الديمقراطية، أرى أن إصلاحها ينبغي أن يكون بالوسائل الديمقراطية, ولكن التسرُّع المعهود، والإعجاب الخفي بالوسائل اللينينة والبعثية العراقية, دفعتهم نحو مغامرة الإنقاذ, فأقاموا نظاماً ألحق بهم كحزب سياسي ذي برنامج فكري، وبالإسلام، أذىً بالغاً». المُفارقة، أن المهدي يُسمِّي ”التآمر“ اقتراحاً, ولا غروَّ إن بلغت الجرأة بأقطاب الجبهة الإسلامية أن يطرحوه مُباشرة على رئيس الوزراء، ولا يحرِّك هو ساكناً!! وكُتِبَ على أهل السودان، أن يطالعوا ذلك في مُذكراته، مقروناً بتفسيراتٍ لن تحرِّك شعرة في رأس أحد, سيَّما وأن النظام ألحق أذىً بالغاً بالسودان والإسلام، فذلك لن يختلف فيه اثنان, ولن تنتطح فيه عنزان.. ولكن، من المسئول؟!

لأسبابٍ غير مفهومة، أسقط المهدي اسم د. حسن الترابي من تلك الزيارة, وكأن أحمد سليمان -الذي جاء بصحبته- قد عرض ذلك ”الاقتراح“ عليه قبل مجيئهما معاً، مؤكداً للترابي بأنه لن يرفضه: «لأن به وَلعاً للرئاسة، بغضِّ النظر عن النظام الذي يستند عليها».. وقد استحسن الترابي ”الفكرة“، رامياً بأثقالها على صاحبها.

بَيْدَ أن هذه الرواية، رغم ما احتشاها من هزال، إلاَّ أن لها تكملة أخرى، لم يشأ المهدي أن يذكرها، لأن فيها طرفاً كان يهمه أمره، يومذاك.. فقد قدِّم له نفس ”الاقتراح“، مرة أخرى، وبذات السيناريو، في أواخر مارس/آذار نفسه من السيدين مُبارَك الفاضل، وزير الداخلية، وأحمد عبدالرحمن محمد، قطب الجبهة الإسلامية.. حضرا إليه معاً، لإقناعه بما تمنَّع عنه من قبل, وكان ردَّه مكرَّراً.. وتلك مثالية، وإن كان البعض لا يسميها كذلك، ويُسبغون عليها النقيض الذي لن يُرضي متوخيها.. لكنها على كلٍ، محمدة تنقصها الشفافية مع المحكومين, وينقصها التدبير، تحسُّباً لما هو قادم!!

وأيضاً يجافي السيد مُبارَك الفاضل الحقيقة، بمكافيليته المعهودة، في تغبيش وقائع التاريخ, ويدَّعي أنه نصح رئيس الوزراء يومذاك، في مذكرة 5/5/2004، أي وثيقة اللواء شرطة صلاح مطر التي تمَّت الإشارة إليها.. وذلك خطلٌ في أحاديث السياسة، فالمسئولية -كما هو معروف- طالته أيضاً.. إلاَّ أنه يجافي الحقيقة مرة أخرى، فيقول: «الذي قطع شعرة معاوية بيني وبين الجبهة الإسلامية، هو من خرج عن الخيار الديمقراطي, لذا اتخذتُ موقفاً حقيقياً، حتى من أصدقائي الشخصيين المنتمين للجبهة». وتلك فرية، ظلَّ يردِّدها منذ وقتٍ مبكر، وأراد بها أن يدحض ما عُرِف عنه، إبان الفترة الديمقراطية، بأنه ”رجل الجبهة الإسلامية في حزب الأمَّة“، وهو الاتهام الذي وجَّهَهُ له المؤلف من قبل، فجاء رده على النحو التالي: «القضية بالنسبة لي قضية مبدأ, وأنا ملتزمٌ لمبادئ حزب الأمَّة، والديمقراطية التعدُّدية, وبالتالي تلقائياً أجد نفسي في مواجهة أي جماعة أو نظامٍ يدعو لمصادرة حقوق المواطنين، وإقامة نظام ديكتاتوري تعسُّفي, وفى إطار هذه المواجهات، أنهيتُ كل علاقاتي الشخصية مع قيادات الجبهة الإسلامية، باعتبار أنهم خونة, وأنا أرى أن العلاقة الشخصية لابد وأن تقوم على الصدق والأمانة، وطالما انعدمت المصداقية والأمانة، بالتالي تسقط كل الاعتبارات الشخصية, ومنذ يوليو 1989 رفضتُ رفضاً تاماً مقابلة أي من قيادات الجبهة الإسلامية، التي اتصلت بي في الخرطوم قبل خروجي إلى طرابلس، وفي لندن، وغيرهما». بالطبع لن يحتاج القارئ لمصباح ”ديوجين“ لاكتشاف الصدق فيما ظلَّ مُبارَك الفاضل يردِّده، دونما اكتراثٍ للواقع، الذي ناقض أي حرف فيما ادعاه, وفي ذلك تفاصيل سنأتي على ذكرها لاحقاً.

مواصلة للمبحث الذي ابتدرنا به هذا الفصل، يمكن القول بأن مسئولية رئيس الوزراء لم تتوقف عند حدود العلم المُسبق بالانقلاب, أو عجزه ولا مُبالاته في اتخاذ التدابير المُمكنة, وإنما في الإسهام الفعلي في الأزمات التي صاحبت النظام الديمقراطي، وهيَّأت المناخ للانقلاب, وذلك في محورين أساسيين:

• سياسياً: ثمة افتراض ردَّده كثير من المراقبين السياسيين، حتى بات في حكم اليقين, وهو التأكيد على أن انقلاب الجبهة الإسلامية تم لقطع الطريق أمام تنفيذ ”اتفاقية السلام“, باعتبار أن مجلس الوزراء كان سيجتمع صباح الجمعة 30/6/1989، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتزويد اللجنة الوزارية للسلام، بما هو مطلوب في اجتماعها المشترك مع الحركة الشعبية يوم 4/7/1989، والذي افترض أيضاً أنه سيُفضي إلى الموافقة على ترتيبات انعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989، كمحطة نهائية لرحلة مرهقة، وضعت لبناتها اتفاقية السلام, المُسمَّاة بـ”اتفاقية الميرغني- قرنق“ في 18/11/1988.

واقع الأمر، إن وضع الوقائع بالطريقة أعلاه، ينطوي على قدر كبير من اختزال ما كان يجري حقيقة في دهاليز صناعة القرار, منذ توقيع الاتفاقية، وحتى لحظة تنفيذ الانقلاب.. فقرائن الأحوال تشير أيضاً إلى أن تلك الصورة المتفائلة, يقابلها، على قدرٍ سواء، احتمالات مواصلة الأمور لجريانها في ذات الحلقة المُفرغة، التي رَدَحَت فيها طوال تسعة أشهر, ولم يرشح عنها شيء ملموس.

في الأصل، فإن انعقاد ”المؤتمر الدستوري“ المذكور كان قد تحدَّد له تاريخ 31/12/1988.. استقال وزراء الحزب الاتحادي قبله بيومين، لأن حزب الأمَّة والجبهة الإسلامية صوَّتا في الجمعية التأسيسية ضد المُبادرة, وكان علاج رئيس الوزراء لتلك الأزمة، الاستمرار في التحالف مع الجبهة الإسلامية، تحت مظلة ”حكومة الوفاق“, أو بالأحرى ”حكومة الحرب“ كما نُعِتت, وذلك بالرغم من أنها لا تملك من أدواتها نصباً, سوى الصوت الجهير المؤجِّج لنيرانها!! ولم يكن ثمَّة منطق يدعو الطرفين إلى رفض الاتفاق، سوى النزعة الذاتية, التي لم تكترث لأشواق غالبية أهل السُودان للسلام, خشية أن ترتفع أسهم الغريم السياسي.

وبرغم المواقف التي وحَّدت القوى السياسية، والنقابية، والعسكرية فيما تلا من شهور, إلاَّ أن موقف رئيس الوزراء، حيال الاتفاقية، ظلَّ مبهماً ومراوغاً, وأهدر كثيرٌ من الوقت والطاقات، فيما لا طائل من ورائه.

بناء عليه, فالزعم بأن اجتماع مجلس الوزراء ”الطارئ“ ذاك، في صبيحة الجمعة 30/6/1989، كان مُخصَّصاً لتحضير ملف الحكومة الخاص بتنفيذ بنود اتفاقية السلام, أمرٌ فيه نظر, ودوننا في ذلك ما خطَّه بنان رئيس الوزراء نفسه، توثيقاً لتلك الفترة: «كتبتُ إلى رئيس الوزراء المصري، د. عاطف صدقي، بشأن قرارنا الخاص بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك, والتي صار إلغاؤها رسمياً تقنيناً لواقع ماثل, وقد ردَّ عليَّ بالموافقة على ذلك، ما دامت هذه هي رغبة السودان, أما البروتوكول السوداني- الليبي الذي وقَّع عليه من الجانب السوداني وزير الدفاع في الفترة الانتقالية، اللواء عثمان عبدالله, فقد استنفد مدَّته, وبهذا أعلَنَت ليبيا، على لسان العقيد أبوبكر يونس، ترحيبِها ودعمها لمساعي السلام السودانية».

أما بشأن تجميد الحدود، فقد مضى رئيس الوزراء في تفسير الماء بعد الجهد بالماء، بقوله: «رأينا أن يكون تفسير التجميد بعد تداول وتقنين ذلك الإجراء كالآتي: 1- توقيع العقوبة على الجرائم الحدية تعزيراً دون الحد وتقنين ذلك الإجراء. 2- يُصدِر رأس الدولة عفواً عاماً على المحكومين بالقطع وذلك على أساس أن العيوب الموجودة في قوانين سبتمبر شبهة تدرأ الحد. 3- الذين عليهم دِيات وظلوا في السجون لمدة طويلة، لأنهم لا يستطيعون دفعها, تدفعُ عنهم الدولة دياتِهم من الزكاة».

إذا ما كان ذلك هو الملف، الذي ستحمله اللجنة الوزارية للقاء نظيرتها في أديس أبابا، يوم السبت 4/7/1989، فذلك أدعى للقول بأنه مرفوضٌ سلفاً من الطرف الآخر, وذلك لعدَّة أسباب، منها إن الاتفاقية تحدَّثت في موجز يسير عن قضايا أوضح من الشمس في رابعة السماء: «1- تجميد الحدود وكافة المواد ذات الصلة في قوانين سبتمبر 1983 إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري.. 2- إلغاء الاتفاقيات العسكرية التي تؤثر على السيادة الوطنية.. 3- رفع حالة الطوارئ.. 4- وقف إطلاق النار».

حتى ذلك الوقت, بل حتى بعد وقوع الكارثة، فالسيد رئيس الوزراء يتحدَّث عن حيثياتٍ وإجراءات في البند الأول، مع أن الاتفاقية تشير إلى ”التجميد“، ولا شيء غيره. ويتحدَّث عن ”إلغاء نظري“ من الأطراف المعنية في الاتفاقات العسكرية, علماً بأن لمثل هذه الاتفاقات طرقاً قانونية معروفة في إبرامها ونقضها, دائماً ما تكون موضَّحة في ذات النصوص.. ولا يحسبُ المرء أن ذلك أمرٌ تغفله دائرة المعارف الخاصة بالسيد رئيس الوزراء, الذي استهان بالأمر، لدرجة اعتماده على حديث طيَّره الهواء لمسؤولين ليس بينهم وبينه حجاب.. وحتى افتراضه في اتفاقية الدفاع المشترك، فقد نسخه السيد مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور, والمقرَّب من دوائر صنع القرار في مصر, في مقالٍ له صادف نشره يوم 30/6/1989, أورَدَ فيه ما قاله الرئيس حسني مبارك لوفد نقابة الصحفيين السودانيين، الذي زار القاهرة تلك الفترة، حول مسألة الإلغاء: «إن مصر ليست غاضبة من طلب السودان بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك, ولكنها غاضبة لأن حكومة الخرطوم طلبت من مصر اتخاذ الخطوة الأولى باتجاه إلغاء الاتفاقية».. ذلك ما يؤكد أن للإلغاء طرقاً معروفة، لم يجتهد فيها رئيس الوزراء، لغرض في نفسه يعزُّ عليه الإفصاح عنه.. والمعالجة ”النظرية“ تنطبق على البروتوكول مع ليبيا، اعتماداً على حديث الشفاهة الذي أدلى به مسؤول للإعلام، ويمكنه التنصُّل منه ببساطة النطق به.

أما السبب الثاني، فقد ذكرَته الحركة الشعبية في بيان، نشر على الملأ يوم 13/6/1989، أي قبل أن يصلها وفد اللجنة الوزارية للسلام بجناحٍ مهيض: «اتفق الطرفان على الخطوات التي اتخذتها الحكومة فيما يتعلق بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر, وأصرَّت الحركة على تأكيد ذلك بقرار من الجمعية التأسيسية. أما محضر الاتفاق العسكري مع ليبيا، فقد اختلفت حوله الآراء, حيث أكَّد وفد اللجنة الوزارية أن الإجراء الذي اتخذ يفي بالمطلوب, بينما رأت الحركة أنه غير كافٍ».

كان ذلك مهرجان المُزايدات الكبير, والمُماحكات التي تدثرت بها الأجندة الخفية, وعليه فالصورة لم تكن وردية بالكامل، كما رآها كثيرٌ من المتفائلين يومذاك. ذلك حتى لو افترض المرء جدلاً أن تنفيذ بنود الاتفاقية تمَّ وفق ما هو مطلوب، بحذافيره, وحملته اللجنة الوزارية، والتقت به الحركة الشعبية, فهل يظنَّن أحدٌ أن ذلك سيقع موقع صدقٍ في قلوب قادة الحركة، ويكون بمثابة فصل الختام في كتاب الحرب والسلام؟! افتراضٌ كان يمكن أن تكون إجابته ميسورة بـ”نعم“، إذا ما أغفل المرء ظروف الحركة يومئذٍ, فقد كانت في أوج تماسكها التنظيمي، وقمة عنفوانها العسكري, حيث كانت الحاميات والمدن في أعالي النيل والاستوائية تتساقط على يدها، كما أوراق الأشجار الذابلة، بصورة وصلت في مُنتهاها إلى إحكام الحصار على مدينة جوبا, وأدركت من خلال عملياتها العسكرية أنها تواجه خصماً مفكَّك الأوصال, بلا عدة سياسية ولا عتاد عسكري، علاوة على إدراكها أيضاً أن الحكومة التي تواجهها غرقت في لججِ الخلافات الائتلافية، بقيادة ربَّان تمرَّس في خلق الأزمات, ولا يهنأ له العيش إلاَّ في كنفها.

إلحاقاً بالسؤال السابق، هل يمكن القول إن القضايا الأربع المحدَّدة، والبسيطة، التي تضمنتها الاتفاقية تمثل طموحاً أعلى بالنسبة للحركة الشعبية آنذاك؟ وبما أنه سؤالٌ افتراضي، فإجابته بالطبع اجتهادية، وإن كانت مُستندة على مُعطيات الواقع في تلك الفترة, والتي تشير إلى النفي, باعتبار أنه لو كان الطموح بتلك السهولة، وذاك اليُسر, لأمكن التوصل إليه, بل ربما إلى أفضل منه مع القوى الوطنية والديمقراطية، عشيَّة سقوط الرئيس المخلوع نِميري العام 1985.. ولربما كان ذلك من شأنه أن يلقي بظلال كثيفة على كثير من القضايا, بدءاً بتغيير موازين القوى في النظام الديمقراطي, مروراً بتغيير خارطة التحالفات, وانتهاءً بقطع الطريق على القوى الظلامية التي باضت فساداً، وأفرخت سِفَاحاً في 30/6/1989.
(*)
المصدر
الفصل الأول من كتاب سقوط الأقنعة للكاتب فتحي الضوء



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 10-12-2006, 11:38 PM   #[4]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

(2)



اقتباس:
كلمة ”خوف“ في خطبته، متهماً رجاله بهذه الصفة المنغِصة، والتي تكتسب لدى الجندي ذات الدرجة في التشكيك في فحولة الرجل عند المدنيين.. انبرى له جنديٌ من آخر الصفوف، متقدماً بسلاحه إلى أن بلغه.. وحينما وقف في مواجهة الصفوف، حيَّا الجندي قائده, ثم أبدى اعتراضه على رميه بتلك الصفة الذميمة, وطفق يحكي: يا سعادتك، أنحنا رجال، وما فينا واحد بخاف الموت, ولو كنا بنخاف الموت، ما كنا من الأول دخلنا الجيش، وشِلنا السلاح.. إحنا يا سعادتك ما ناقصانا الرجالة, لكن ناقصنا كل شيء ثاني! ناقصانا التعيينات (الغذاء) وناقصنا اللبس وناقصنا السلاح.. وقد صَدَقَ الرجل الذي كان حافي القدمين، وعليه ”خرق“ عسكرية بالية, وهو في مقصده البسيط، كان يلومُ الدولة، في عجزها عن توفير الأساسيات لمن تناط بهم مهمة حماية ترابها، والموتُ بالوكالة عن الآخرين.. وبدون تردُّد أو مقدمات، أشهد الجندي الجمع الماثل إن شجاعة اتخاذ قرار الموت, حتى لو كان في حماقة تنفيذ الإعدام على النفس، لا يهابه رجال تلك الكتيبة.. أفرغ الجندي المجهول خزينة سلاحه على رأسه عياناً أمام قائده، وعلى مرأى من زملائه، وسقط ميتاً».
اقتباس:

من نافلة القول، إن الموقف السلبي للحركة الشعبية ساعد في تعميقه، ولأسباب ذاتية بحتة، الدكتور منصور خالد.. فبعد سقوط نظام نميري، جاء إلى الخرطوم منتشياً، وكان يظنُّ أنه سيُحتفى به، بفضل ما جاد به قلمه -في الساعة الخامسة والعشرين- من مقالاتٍ ناقدة للنظام.. وعوضاً عن ذلك، وجد نفسه يقف في مواجهة حملة عاصفة، قام بتحريكها بعض السياسيين والصحفيين, باعتباره أحد الموصومين بلفظ ”السدانة“, فغادر الخرطوم إلى نيروبي، ليستعصم بكهف الحركة الشعبية المنيع, حيث لا يمكن لأحد بعدئذٍ أن يعيدها على مسامعه, لا سيَّما وأن في الحركة نفسها من تنطبقُ عليهم الصفة، ولو بصورة نسبية.

عموماً، ما سبق أسئلة تتدفق, ليس من باب نكئ الجراح, وإنما لتنظيفها.. وليس من زاوية التباكي على الماضي، وإنما للنظر إليه بموضوعية, إن كان حسبُنا وضع الأمور في نصابها الصحيح، حتى يستقيم تحليل المواقف بشفافية.

عوداً على بدء, يحق للبعض الاستغراق، في الصورة الوردية المتفائلة، التي أكدت أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مُبادرة السلام, إلا رئيس الوزراء، الذي كانت أقواله وأفعاله تسبح في وادٍ آخر. وواقع الأمر، أن تأزيم السيد المهدي للواقع السياسي, بدأ مُباشرة عقِب تسلمه لمسئولياته, فكانت أولى خطواته هي تنكره لبرنامجه الانتخابي.. فقد فوجئ الناس بارتفاع بورصة ”قوانين سبتمبر“ في أجندته, وأصبح ثمنها عنده يساوي أضعاف ”ثمن الحبر الذي كتبت به“.. ثم تعثرت خطواته السياسية في عقد التحالفات، وفض الائتلافات، لأسباب لا علاقة لها بنبض الشارع، أو قضاياه الحقيقية, مثل شخصنته لمسائل بعينها مع الحزب الشريك في الحكم، مثل موضوع د. محمد يوسف أبوحريرة، ود. أحمد السيد حمد، والتي أدَّت إلى اهتزاز النظام الديمقراطي بأكمله, في حين اتهم صراحة -حتى من قِبَل أعضاء في حزبه- بالتستر على مُمارسات السيد مُبارَك الفاضل في الفساد, فكان جزاؤه الانتقال من وزارة إلى أخرى، برشاقة الفراشات.. الصناعة, فالتجارة, ثم الداخلية.. وكدأبه دائماً في الهروب إلى الأمام، عندما يقف عاجزاً أمام قضايا من صميم مسئولياته, امتدَّت يد التأزيم إلى خارج الحدود, فتسمَّمت علاقات السودان الخارجية.. فمع مصر، وصلت إلى درجة المُكايدات, مُستذكراً ومُسقطاً دوماً ثورة جدِّه الإمام محمد أحمد المهدي على العلاقة هناك: «قطاع من أهلنا في مصر ممَّن يصرون على رفض فهم الشعب السوداني.. هذا القطاع فشل في فهم أكبر الثورات في القرن الماضي بالسودان، وثورة أكتوبر، وثورة رجب/أبريل». وبادلته مصر ذلك العداء, واجتهدت أجهزتها في البحث عن الكيفية التي توقفُ بها ذلك الصداع, ولم يكن غريباً بعد ذلك أن تكون تلك الأجهزة على علم بالانقلاب قبل حُدوثه.. ولكن الغريب حقاً، أن ذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ العلاقات ”الأزلية“ بين البلدين, علاوة على أنه كان أمراً نشازاً في العلاقات بين الدول, وإن تَكرَّر حدوثه في بعض البلدان العربية والأفريقية: «...والمدهش أنه في يوم الانقلاب، كان معي عدد من السودانيين بالمنزل لمعرفة الأحداث, وعرفتُ من المخابرات المصرية، وقبل إذاعة البيان الأول اسم قائد الانقلاب وأعضاء المجلس، وحينما اتصل بي زميلنا ميرغني سليمان سفيرنا بتركيا يستفسر عن الانقلاب، وذكرتُ له الأسماء, أبدى دهشته. وحينما ذهبت لمقابلة اللواء التيجاني آدم الطاهر وإخطاره بما حدث، وأنه أصبح عضواً بمجلس قيادة الثورة, سألني عن بقية الأسماء!!».

تفسير تلك المُلابسات سبق أن أجلاها آخرٌ من قبل, وإن لم يُشِر صراحة إلى مصر لأسباب موضوعية، بالنسبة له، تتعلق بزمان ومكان نشره لها: «كانت تقف سيارة مدنية بلوحة تحمل رقم 5757 أمام سفارة دولة عربية, حيث ذكر تقرير أحد ضباط جهاز أمن السودان -القسم الخارجي- أن جهاز الأمن كان يراقب السفارة منذ فترة طويلة وأنه رفع تقريراً بأن العميد حقوقي أحمد محمود صاحب السيارة يتردد على هذه السفارة, وأنه في هذا اليوم، 29/6/1989، ظلَّ هناك إلى ما بعد الساعة الثانية بعد الظهر ثم عاد مرة أخرى في مساء نفس اليوم, ويرجَّح أنه قام أثناء الزيارتين للسفارة بإطلاع عناصر مسئولة بأن هناك تحركاً وسط الضباط يستهدف الاستيلاء على السلطة دون تحديد الموعد وأن مجموعة الضباط هم من الوطنيين الذين يستهدفون التخلص من حكومة الصادق المهدي فقط وبناء علاقات متوازنة مع مختلف الدول العربية بعيدا عن المحاور». وسواءٌ بدوافع العِلم، أو التنسيق, وبالوقائع التي ورد ذكرها -بلا شك- فإن رئيس الوزراء مسئولٌ بالدرجة الأولى عن هذه المُلابسات، التي أدَّت إلى أن تكون مصر طرفاً في الحدث.

إضافة إلى ذلك، شمل التوتر العلاقات مع دول الخليج، وبخاصَّة المملكة العربية السعودية، والكويت, ولحقت بهِم العراق، إثر انحيازه - بلا مُبرِّر- لإيران، خصمها في حرب الخليج الأولى!! ولم تكن دول الجوار الأفريقي استثناءً, فطال التوتر إثيوبيا, كينيا, وأوغندا.. أما تشاد، فقد انتفخت حكومة حسين حبري، وحاكت صولة الأسد، وهى تطارد معارضيها (قوَّات حسين جاموس الذي منحته الحكومة السودانية اللجوء السياسي)، وأعلنت -من غير أن تخشى في ذلك لومة لائم- توغلها لمسافة 150 كيلومتراً داخل الأراضي السُودانية.

الجديرُ بالمقارنة، في هذا الصدد، أن الدول التي عكرت سياسات رئيس الوزراء صفو العلاقات معها, كانت سبَّاقة في الاعتراف بالانقلاب، قبل أن تعرف هويته؟! ومن المُفارقات، أن القادمين الذين جاءوا على أنقاض حكومة رئيس الوزراء، شاركوه الرذيلة نفسها, وإن اختلفت المشارب!! وبالطبع، انعكس كل ذلك على قضية الحرب والسلام، ويتحمَّل الطرفان بعدئذٍ مسئولية أقلمتها، ثمَّ تدويلها، وتوابع الأمرين.

كانت مُبادرة السلام بمثابة الماء البارد، الذي انهمر على رأس رئيس الوزراء.. وعوضاً عن إيقاظه من سباته العميق, كانت ردود فعله تكريساً للعجز والفشل معاً.. بدأها -كما أشرنا- بالتسويف والمُكابرة, ومن ثمَّ وضع العراقيل أمامها, إزاء تزايُد ضغوط القوى المؤيِّدة لها.. خاطب رئيس الوزراء الجمعية التأسيسية في 14/12/1988، راهناً قبولها ”بتوضيحاتها“، وهى الكلمة الجدلية التي رمى بها في حلبة الصراع, وصرفت الأنظار عن القضية الأساسية, حتى مضى التاريخ الأول المفترض لانعقاد ”المؤتمر الدستوري“ في 31/12/1988، دون سميع أو مجيب.. ومع اتساع دائرة الضغوط -بعد مذكرة القوَّات المسلحة- خاطب رئيس الوزراء الجمعية التأسيسية مرة أخرى في 27/2/1989، حيث قرن أيضاً موافقته بطلب تفويض لتوسيع قاعدة الحكم، والمُضي في تنفيذ سياسات عامة, وأكد أنه في حال عدم توفر التجاوب والسند العسكري والنقابي الذي يروم إليه، بما يمكنه من تحقيق تلك الغاية, فإنه سيتقدَّم باستقالته للجمعية في 5/3/1989!! وعندما جاءته ردود الفعل من ”المثلث الذهبي“ الذي حدَّده, بعدم منحه التفويض الذي طلبه, حبست البلاد والعباد أنفاسها.. فرئيس الوزراء وضع نفسه في موقف لا يُحسد عليه, ولجأ إلى وسيلة غالباً ما يُلَوِّح بها الديكتاتوريون، إما توخياً لشرعية معدومة, أو استدراراً لتعاطف مُرتجى.. ومع ذلك، فحينما نطق بها لأول مرة في تاريخه السياسي, استحسن الكثيرون صواب رأيه, لأنه من جهة أكد لهم عكس ما يشاع عنه، بأنه يحب السلطة حباً جماً.. ومن الجهة الأخرى، فقد كانت الحتمية سلوكٌ طبيعي مفترضٌ في أي سياسي عَجِزَ عن إيجاد الحلول الناجزة لقضايا بلاده المصيرية.

بقدوم التاريخ المذكور، استفتى رئيس الوزراء قلبه، إذ عقد مؤتمراً صحفياً، خيَّب فيه ظن الذين استحسنوا الفكرة, وقال إنه عدل عن الاستقالة، وأورد روايات ألجمت الألسن، وألبست الدهشة ثوباً مزركشاً!! قال إنه كان يتجوَّل في يوم الجمعة مع د. علي حسن تاج الدين، عضو مجلس رأس الدولة, ممثلاً لحزب الأمَّة في العاصمة, وقابل شيوخاً وأطفالاً، وجد منهم دفئاً، وطالبوه بعدم الاستقالة.. وإنه استلم رسالتين، واحدة من رجل دين مسيحي، وأخرى من رجل دين مسلم, يطالبانه فيهما بعدم الاستقالة أيضاً, ويصفانه بالوطني الغيور على بلاده.. من أجل تلك الرجاءات، قال إنه باع نفسه لمشاعر أهل السودان.. ولم ينس أن يؤكد - حتى تكتمل المُعادلة- أنه تلقى تأكيدات من مجلس رأس الدولة بالتزام القوَّات المسلحة بالديمقراطية والشرعية الدستورية, والتزام النقابات والاتحادات بوقف الإضرابات!! لا يسألَنَّ أحدٌ عمَّا كان يمكن أن يجنيه رئيس الوزراء، في حياته السياسية، لو أنه نفَّذ وعده، أو وعيده.. أمَّا ما كان يمكن أن تجنيه البلاد، التي باع نفسه لمشاعر أهلها, فذلك لن يعجز أي مجتهد في رصده، وأدناها ما كان يمكن أن يقال: «جاءت توضيحات الصادق المهدي إضعافاً لحيوية الاتفاقية، وسبباً في إحداث بلبلة وسط الرأي العام, وعاملاً إضافياً في تآكل شعبية الحكومة, فقد كانت الاتفاقية تُرضي طموح الشعب السوداني في ذلك الوقت، وتوفر له أملاً كاد أن يضيع نهائياً بإمكانية تحقيق سلام لدولة افتقدت السلام أزمانا طويلة». وأعلاها، كان يحق لكثيرين أن يقولوا إن استقالة رئيس الوزراء قد غيَّرت التاريخ السياسي للقطر كله, حيث أنه من المؤكد أن الأمور كانت ستتجه نحو شاطئ آخر، أكثر هدوءاً من الشاطئ المُضطرب، الذي سبحت فيه بعدئذٍ لأكثر من عقد ونصف، تحت إبط الجبهة الإسلامية.

تلك التساؤلات، التي أرَّقت البعض، شملت آخرين أعياهم البحث عن السبب أيضاً.. «تساءل الناس عن الحكمة من رفض اتفاقية لا تلزم بأي شيء سوى توفير الظروف الملائمة لعقد المؤتمر الدستوري بمشاركة كل القوى السياسية والنقابية في البلاد, وتساءلوا بشكل خاص عن أسباب رفض الصادق المهدي لاتفاقية هي تتويج لجهود مضنية شارك هو وحزبه في كل مراحلها، بدءاً من كوكادام في مارس 1986 وحتى اتفاقية الميرغني- قرنق في العام 1988؟ وتزامن هذا الموقف مع تصاعد عمليات العنف المسلح في الجنوب واتساع الحرب الأهلية واحتلال حركة قرنق لعدة مواقع ومناطق في أعالي النيل والاستوائية, الأمر الذي أدى لحالة من الإحباط العام وسط قطاعات واسعة من جماهير الشعب امتدت إلى صفوف القوات المسلحة».

آخرون حاولوا سبر غور تلك التساؤلات باجتهادات مقاربة.. «الذين يعرفون تطلعات وطرائق تقييم السيد الصادق المهدي للأشياء, وهذا ما لا ندعيه, يقولون إنه نظر للمبادرة المذكورة بمنظار محض في الشخصانية والذاتية, فقد أرَّقه تمكن (مولانا) الميرغني من تحقيق مثل هذه الخطوة الجبِّارة التي عجز فيها هو, رئيس الوزراء المنتخب ورئيس حزب الأمة، والمنظِّر والفيلسوف والمفكِّر للكثير من قضايا العالم الثالث التي عرفها وخبرها منذ أن تولى رئاسة أول وزارة وهو لم يبلغ الثلاثين بعد, وبرغم كل هذه الخلفية فشل في حل أكبر قضية تتهدَّد حكمه, وفي المقابل يتمكن منافسه الحزبي, الذي لا يتقلد منصباً, من صياغة أول حل محدَّد على درب السلام, وعلى المستوى (المقارن) فإن (مولانا) لم يتتلمذ مثله في أكسفورد, ولا تعرفه السمنارات الدولية في مراكز البحوث المتخصصة والجامعات, خطيباً في منهجية التشخيص الأكاديمي, لما يعرف بـ”حل الصراعات“-”Conflict Resolution“، كل هذا تحليلياً ربما كان مدعاة لاستكثار الإنجاز ومحرِّضاً لإفشاله».

ذلك ما كان يجري على الصعيد السياسي.. أما ما كان يدور في المحور الآخر, فقد كان أشد مرارة, وأكثر إيلاماً, وأفدح أثراً.. شاطر آخرون فيه رئيس الوزراء المسئولية, وأصبحوا مثله، يبحثون في كيفية استرداد ما فرَّطوا فيه بالأمس.

• عسكرياً: كانت الحركة الشعبية قد استثمرت أجواء الخلافات الحادة في الخرطوم, والمُماحكات السياسية التي كان رائدها رئيس الوزراء، بانتصارات عسكرية متتالية.. وبدون استغراق في تفاصيل كثيرة، تلاحقت على المؤسسة العسكرية, نقف على نزر منها، حدثت في ربع الساعة الأخيرة من النظام الديمقراطي.

كانت مذكرة هيئة القيادة، التي سلَّمتها لمجلس رأس الدولة ورئيس الوزراء يوم 20/2/1989، تمثل حداً فاصلاً للمواجهة السياسية والعسكرية, بوقائعها المُعلنة والمُستترة معا.. غير أنه قبل ثلاثة أيام منها، وتحديداً في 17/2/1989، ثمة حدث كان ينبغي أن يسترعي انتباه رئيس الوزراء, ويُحيطه بكثير من الاهتمام، لأنه كان بمثابة المقدِّمة للنتائج.. فقد وضع الفريق عبدالماجد حامد خليل، وزير الدفاع، استقالته بين يديه.. ويُذكر أنها حملت نفس مضامين مذكرة هيئة القيادة، بل تجاوزتها بالإشارة الواضحة لمكامن الداء, وسَمَّت الأشياء بمُسمَّياتها الصحيحة.. ويُذكرُ أيضاً أنها تزامنت مع استقالة كوادر قيادية في حزب الأمَّة، لأسباب اقتربت وتباعدت مع استقالة وزير الدفاع.

أورد الفريق عبدالماجد أربعة أسباب، حملته على الاستقالة, قال فيها ضمناً إنه يرى تحت الرماد وميض نار يوشك أن يكون له ضِرام, وذلك عندما أكد بأن انعكاساتها السالبة لم تكن وبالاً على المؤسَّسة العسكرية فحسب, وإنما على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية:
1- سياسة البلاد الخارجية أدَّت إلى إضعاف قدرة السودان على استقطاب العون العسكري والاقتصادي, وذلك ما انعكس سلباً على القوات المسلحة.
2- تباطؤ الحكومة في التحرك الإيجابي نحو مبادرة السلام.
3- هيمنة الجبهة الإسلامية على مركز القرار، وتوجيهه إلى الوجهة التي تريد، مما أضعف مقدرة الحكومة في التحرك داخلياً وخارجياً.
4- تضييق دائرة المشاركة في الحكم خلق استقطاباً وتمزقاً داخلياً (المشاركة المذكورة كان يتناصفها حزب الأمَّة والجبهة الإسلامية، فيما سُمِّى بحكومة الوفاق، بعد انسلاخ الاتحادي الديمقراطي من الائتلاف مع الأول).

ربما لأن مُغنِّي الحي لا يُطرِب، أو لأن الفريق عبدالماجد عزف ”مارشاً“ عسكرياً لأُذنين أصابهما وقرٌ سياسي، أو لأن رئيس الوزراء استحسن في دواخله تقريع د. الترابي (وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء) للفريق عبدالماجد، قبيل تقديم استقالته في آخر اجتماع حضره لمجلس الوزراء، أو ربما لكل هذه الأسباب مجتمعة, وافق رئيس الوزراء على استقالة وزير الدفاع بسرعة من كان يتمنى حدوثها, دون أن يُكِر البصر مرتين في الأسباب الموضوعية التي أوردها.. وأقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها قرعت ناقوس الخطر بعنف, قبل وقوع الكارثة.

كان رئيس الوزراء يعلم تماماً تلك الأسباب, ويعلم تفاصيل أخرى لم يشأ الفريق عبدالماجد الخوض فيها, لا سيَّما ما حاق به شخصياً في التقريع المذكور في اجتماع مجلس الوزراء.. ففي تلك الجلسة، تحدَّث وزير الدفاع بإسهاب حول ضرورة السلام، بعد أن شرح الأوضاع العسكرية المتدهورة، لمؤسَّسة يتحمَّل مسئولية قيادتها, فتصدَّى له د. الترابي بتهكمٍ لاذع، وقال إنه كان آخر ما يتوقَّع أن يتحدَّث وزير الدفاع عن السلام.. وأضاف بأنه إذا كان وزير الدفاع يتحدث عن السلام, فعن ماذا يتحدث وزير السلام؟!

لم يجد المهدي غضاضة في أن يُسَطِّر تلك الخطيئة في مذكراته لاحقاً، بعد أن أصبحت مجرَّد ذكرى في أرشيف الحكم الضائع، فقال: «كان وزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل يشعر بالآثار السلبية لبروز الجبهة الإسلامية, ويحاول موازنة الموقف، بكثرة الحديث عن السلام وضرورته، والتزام الحكومة به, فتصدَّى له بعض وزراء الجبهة الإسلامية في الحكومة، وعلى رأسهم د. حسن الترابي, وأخذوا عليه تكرار حديثه عن عمله, وأنه لا يترك مهمة السلام للآخرين, وتناول إعلام الجبهة ”غير المهذب“ الخط، وفتح تهجماته على وزير الدفاع».

بالرغم من أن لا شيء يمنع وزير الدفاع من تكرار حديثه عن السلام, بغضِّ النظر عن الظروف السيئة للمؤسَّسة العسكرية, إلا أن المهدي لا يجد حرجاً في التأكيد على أن الوزير -وحده- هو الذي استشعر تلك الآثار السلبية.. كما أنه لم يقل ماذا كان رد فعله وقتئذٍ, خاصة وأن الظروف تحتم عليه نصرة وزير الدفاع، ظالماً أو مظلوماً.. وصمته في الحالين، يؤكد ما ذكرنا، بأنه استحسن التقريع المذكور في دواخله!!

واقعُ الأمر, لا رئيس الوزراء، ولا نائبه -وزير الخارجية- ولا أي من حاضري الاجتماع، كان بمقدوره أن يشكِّك في صدقية وزير الدفاع، في حديثه المُتكرر عن السلام, بدليل أن الرجل تخلَّص من أي مشاعر إنسانية سالبة, وغَلَّب حسَّه الوطني، والمهني، في لحظة تاريخية حرجة, وذلك إثر نجاته من كارثة مُحققة, بعد يومٍ واحد من توقيع اتفاقية السلام, أي في 17/11/1988.. «كان الفريق عبدالماجد في زيارة تفقدية لمدينة واو، وبصحبته القائد العام للقوات المسلحة، ووفد عسكري كبير, عندما أصاب صاروخ سام 7 المضاد للطائرات - أطلقه أحد مقاتلي الحركة الشعبية- طائرة الوفد، عند اقترابها من المطار. كادت أن تسقط الطائرة، لولا براعة وحنكة قائدها، العميد طيار عامر الزين». وعند عودته إلى مطار الخرطوم، تحدَّث الفريق عبدالماجد للصحفيين، وأورد تعليقاً حصيفاً من وزير دفاعٍ يتعرَّض لمثل ذلك الحادث، فقال: «إن الحادث لا يشكل عائقاً أمام عملية السلام، أو إجهاضاً لمساعيها, والمؤسسة العسكرية لا زالت عند موقفها، من أن الحرب ليست هي الوسيلة التي تحقق السلام, بل إن الحل السلمي ما زال خيار المؤسسة العسكرية لحل مشكلة الحرب في الجنوب».

بعد سنواتٍ من الحدث، أضفى صحفي أبعاداً شخصية عليه، باعتبار مواقف الفريق عبدالماجد الاعتراضية على منحة التفرغ التي طلبها د. جون قرنق، لتحضير درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية, عندما كان الأول نائباً لرئيس هيئة الأركان للعمليات, والثاني ضابطاً في القوَّات المسلحة، إثر انضمامه لها بعد اتفاقية أديس أبابا, وهو افتراضٌ يصعب التحقق منه, مثلما يصعُب التحقق من آخر ناقضه في الرؤية.. «كان من بين هؤلاء الدكتور جون قرنق، الذي أثنى على اختيار عبدالماجد، ليس فقط وفاءً لضابطٍ كبير، تولاه بالرعاية عندما عمل تحت إمرته, وإنما تقديراً لقدراته المهنية، وحسه السليم في تقدير المواقف».

أياً كان التأويل، سلباً أم إيجاباً, فالحركة الشعبية نفت وقتها تورُّطها في الحادث, لكن قرائن الأحوال تؤكد بأنها الجهة التي أطلقت الصاروخ.. لربما أن الذي صوَّبه لم تصله أنباء التوقيع على الاتفاقية.. أو لربما أن بنود الاتفاق ما زالت حبراً على ورق، ولم تدخل حيِّز التنفيذ بعد, والمتصارعون يخوضون حرباً - شأنها شأن كل الحروب- لا أخلاق فيها.. غير أن المهم أن وزير الدفاع، بردِّه المذكور، حاول أن يمنحها تلك الصفة المستحيلة.

استناداً على كل هذه الوقائع، لم يكن من اللائق سياسياً، أو أخلاقياً، أن يمر رئيس الوزراء على استقالة وزير الدفاع مرور الكرام, ناهيك عن أنه ليس وحده الذي استشعر التوجهات الخطيرة للجبهة الإسلامية, سيَّما وأن العمل الجاد في اتجاه معالجة أسبابها، كان كفيلاً بتغيير المسار السياسي للقطر كله.

ليس هذا فحسب, ففي إطار رصدنا لتداعيات الأحداث, ثمة اجتماعان هامان كان رئيس الوزراء قاسمهما المشترك, وهما بالضرورة يجسِّدان الكيفية التي تعامل بها إزاء الأوضاع، على الصعيد العسكري, وهما بالضرورة أيضاً كانا نتاج استقالة وزير الدفاع، ومن بعده مذكرة هيئة القيادة.

كان الأول بعد سقوط عدة حاميات في الجنوب, آخرها ”ليريا“ في يناير/كانون الثاني 1989, حيث اجتمع السيد الصادق المهدي بهيئة القيادة, ممثلة في وزير الدفاع والقائد العام، ورئيس هيئة الأركان، ومدير العمليات، ومدير الاستخبارات، ونواب هيئة الأركان, وذلك لأن «تقريرها الذي رفعته له اعتبره سطحياً».. ولأن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين وحدهم.. انتقدهم رئيس الوزراء انتقاداً شديداً, وألحق نقده بنصائح عسكرية, سلسلها بطريقته المعهودة, غير عابئ بالأوسمة والنياشين التي رصَّعت صدورهم، وقال لهم:
- هناك انهيارٌ في المستوى القيادي الميداني، في كثير من المواقع, والدليل على ذلك ما حدث في كبويتا، وليريا، ولواء الردع، والكتيبة 118, هذا الانهيار جعل المعدات الموجودة لا تستعمل بكفاءة, بل جعلها مصدراً لتسليح العدو.
- هناك هبوط مريع في الروح المعنوية, فبعد أن كان مجرَّد ظهور قواتنا يُرعِب العدو, انعكست الآية، وصار ظهور العدو يرعبها.
- إن خطتنا القتالية قائمة على الدفاع وحده, فالعدو هو الذي يختار متى وكيف وأين يهاجم، ونحن لا نهاجم معسكراته, ولا خطوط إمداداته، ولا نهاجمه من خلفه, ولا نبادر بشيء، بل نترك زمام المبادرة له، وهذا يُلحِق بنا الهزائم.
- إن طبيعة القتال الذي نواجهه تقتضي تجنيد عناصر فدائية، تدعم القوات المسلحة.
- إن نظام مايو استغلَّ القوَّات المسلحة، واستخدمها لأغراضه السياسية، مستبيحاً كل قدراتها.

ثم تحدَّث عن تدني الأداء العسكري الذي سمح ”للعدو“ بإيقاف العمل في قناة جونقلي، وفى استخراج البترول، ووقف الملاحة بين الشمال والجنوب.. وكذلك تحدَّث عن التسليح شرقاً وغرباً، والعلاقة مع المعسكرين، والدعم والمساعدات, وخلص إلى أنه: «في هذا المناخ، توالت أنباء التردي العسكري في شرق الاستوائية, وأخيراً حامية ليريا، ذات الموقع الحصين والمحاط بالجبال.. إن المسألة لم تعد مسألة معدات، بل مسألة انهيار في القيادة الميدانية وفي الروح المعنوية».

ما أسهل الحديث عن الحرب من على الكراسي الوثيرة.. وما أصعبُ الحديث عن السلام من قلب ساحات المعارك.. خطبة عصماء كان يمكن أن تجد طريقها إلى أكبر الأكاديميات العسكرية, ولهذا صمت حيالها العسكريون المُحترفون، بعد أن ألقى بهم رئيس الوزراء مكتوفي الأيدي في اليم, وقال لهم إيَّاكم أن تبتلوا بالماء.. والأدهى أنهم يعلمون أن واقع الحرب، الذي أشبعه رئيس الوزراء تنظيراً، عَجِزَت في مثل ساحاته دولٌ تملك ما هو أكثر من العدة والعتاد.. ويعلمون أيضاً أن تقريرهم ”السطحي“ الذي رفعوه له, لا يحتاج لكل ذلك العناء، لأنه ببساطة تلخَّص في موبقاتٍ ثلاث: «تفرُّق الجبهة الداخلية, الإعلام السلبي, وضعف الإمكانات العسكرية».

لكن، وللتوثيق، ما الذي حدث يومذاك في ”ليريا“، التي خصَّها رئيس الوزراء بالاسم، والوصف الإستراتيجي؟!

حاولت هيئة القيادة بخطة عجولة استعادة مدينة توريت، بعد سقوطها في يد الحركة الشعبية, فأعدَّت لواء كاملاً، سُمِّي بـ”قوات الردع“ تسَّلم قيادته اللواء حسن محمد حسن علاَّم من مقر القيادة بمدينة جوبا: «فدفع بثلاث كتائب، كل منها في اتجاه، نحو المدينة المحاصرة، لتلتقي في حامية ”ليريا“. وفي منتصف المسافة بين القيادة والمدينة, تعثرت إحدى هذه الكتائب، نتيجة مكمنٍ أعدَّته قوات الحركة الشعبية, فتعثرت القوة بأكملها، وتبعثرت, وأراد بعضها العودة إلى جوبا, الأمر الذي لم يرُق لهيئة القيادة في الخرطوم, فأبرقت رئاستها في جوبا بعدم السماح لأيٍ من أفراد القوة المسحوبة بدخول المدينة, لحين وصول الفريق عبدالرحمن سعيد، نائب رئيس هيئة الأركان, لمعاينة الموقف ميدانياً، واتخاذ قرار الخطوة التالية, والذي كان قراره حينها التأكيد على عدم الدخول، لأسباب معنوية.. ثم عقد مبعوث هيئة القيادة لقاءً مفتوحاً مع ضباط وجنود كتيبة الردع، قال لهم فيه: إن مثل هذا التصرف يمثل هروباً من الميدان، لا يجوز وشرف الجندية, وكل ما جُبلت عليه القوات المسلحة من استبسالٍ وإقدام أمام العدو.. لقد كان حديث نائب رئيس هيئة الأركان لجنوده صارماً وعنيفاً, وكانت المفاجأة عندما أورد كلمة ”خوف“ في خطبته، متهماً رجاله بهذه الصفة المنغِصة، والتي تكتسب لدى الجندي ذات الدرجة في التشكيك في فحولة الرجل عند المدنيين.. انبرى له جنديٌ من آخر الصفوف، متقدماً بسلاحه إلى أن بلغه.. وحينما وقف في مواجهة الصفوف، حيَّا الجندي قائده, ثم أبدى اعتراضه على رميه بتلك الصفة الذميمة, وطفق يحكي: يا سعادتك، أنحنا رجال، وما فينا واحد بخاف الموت, ولو كنا بنخاف الموت، ما كنا من الأول دخلنا الجيش، وشِلنا السلاح.. إحنا يا سعادتك ما ناقصانا الرجالة, لكن ناقصنا كل شيء ثاني! ناقصانا التعيينات (الغذاء) وناقصنا اللبس وناقصنا السلاح.. وقد صَدَقَ الرجل الذي كان حافي القدمين، وعليه ”خرق“ عسكرية بالية, وهو في مقصده البسيط، كان يلومُ الدولة، في عجزها عن توفير الأساسيات لمن تناط بهم مهمة حماية ترابها، والموتُ بالوكالة عن الآخرين.. وبدون تردُّد أو مقدمات، أشهد الجندي الجمع الماثل إن شجاعة اتخاذ قرار الموت, حتى لو كان في حماقة تنفيذ الإعدام على النفس، لا يهابه رجال تلك الكتيبة.. أفرغ الجندي المجهول خزينة سلاحه على رأسه عياناً أمام قائده، وعلى مرأى من زملائه، وسقط ميتاً».



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 10-12-2006, 11:50 PM   #[5]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

(3)

وتتواصل المخازي والتي لو صدق فيها واصف لوصف هؤلاء القادة باالتساهل لدرجة الخيانة العظمي
هؤلاء القادة خيالات المآتة الذين يقضون أوقاتهم في صرعات لا حد لها وكلام لا ينقطع من رئيس لوزارة سماه الشعب سخرية "أبو الكلام" وسماه "الرئيس السندكالي" . ويتساءلون بكل براءة بعد كل هذا : أين قانون الدفاع علي الديمقراطية ؟؟؟ ويتساءلون لماذا وقف الشعب السوداني متفرجا والديمقراطية تذبح؟؟؟ ...


اقتباس:
بعد يومين من استلامها، أي في يوم 22/2/1989، تحسَّس رئيس الوزراء قلمه, وردَّ على المذكرة بمذكرة مطوَّلة, تحدث فيها بتفصيلات عن واقع ”فانتازي“, وكان لافتاً توقفه في بندين متصلين بالتداعيات اللاحقة, فالبند السابع عشر من المذكرة، جاء فيه: «إننا جميعاً، قيادة وقاعدة، منتشرين في كل بقاع السودان, يجب أن نؤكد بوضوح لا لبس فيه أننا مع خيار الشعب السوداني الأصيل في الحفاظ على الديمقراطية, كما أكدنا ذلك في السادس من أبريل, وإننا نرفض كل أنواع الديكتاتورية, وسنظل أوفياء لواجبنا المقدَّس في حفظ وصون سيادة الوطن».. ردَّ رئيس الوزراء على ذلك بقوله: «هذا التزامٌ إيجابي في حد ذاته, كذلك لا بديل له، فالانقلاب العسكري ممكنٌ وسهل, الثورة عليه ممكنة وحدثت, وعلينا أن نجنِّب بلادنا هذه الدوامة».. ثم البند الآخر الذي جاء في ختام المذكرة، ورمى بتاريخٍ قاطع: «نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة لاتخاذ القرارات اللازمة في ظرف أسبوع من اليوم».. وردَّ عليها المهدي: «هذه نهاية غير موفقة، لأنها تشبِه الإنذار، وتفتح باب ملابسات, فالذين يريدون إحداث انقلاب عسكري سيجدون منها مدخلاً».

بعد أن ردَّ منفرداً، رأى المهدي بعدئذٍ ضرورة إشراك طاقم مجلس وزرائه، الذي قوامه قارعو طبول الحرب, فتضامنوا معه بردٍ في 25/2/1989.. ومع اقتراب العد التنازلي لمُهلة الأسبوع، خاطب المهدي الجمعية التأسيسية في 27/2/1989, وطَلَب إمهالاً حتى الخامس من مارس/آذار, وقرنه بطلب تفويض من الجيش, والتزامٌ بعدم اللجوء لانقلاب عسكري، حتى يُباشر تنفيذ المطلوب في المُذكرة.. كذلك طلب من النقابات الكف عن الإضرابات عن العمل، والاتجاه للإنتاج.. وكما ذكرنا من قبل، قرن عدم تنفيذ هذه الطلبات بتقديم استقالته في اليوم المُحدَّد.
اقتباس:
عاد الفريق عبدالرحمن سعيد أدراجه إلى مقر هيئة القيادة في الخرطوم, وأبلغها بمذكرة تحوي مُجمل الأوضاع، بما في ذلك تفاصيل ميلودراما الجندي المجهول, الذي وُورِيَ الثرى في ذات الموقع الذي شهد ملحمته الشخصية, ووُرِيَت معه قصَّته بكل أبعادها، الإنسانية والمأساوية.. قصة لو حدثت في قطر يحترم ساسته إرادة أبنائه, لاستوجبت في حدِّها الأدنى استقالة عامودية، تبدأ من رأس الهرم في السلطة, مروراً بالجهاز التنفيذي, وانتهاءً بهيئة القيادة العسكرية.. وأما في حدها الأعلى، فذلك ما لا يخضع لاجتهادات بحسب المُثل والأخلاقيات في العمل العام.. لكن المُفارقة، أن شاهد المأساة, وقارئيها في التقارير, وسامعيها من على البعد, طَفِقوا جميعاً يبحثون عن دور جديد في سلطة قادمة.

كانت رواية الجندي قد تعدَّت أروقة هيئة القيادة, واستقرت في أجهزة الدولة العليا.. ولم يكن رئيس الوزراء استثناء.. ذلك هو ما حدا بهيئة القيادة طلب اجتماع مع مجلس الدفاع الوطني, للتفاكر فيما آل إليه الوضع من بؤس وتردٍ, وقد سبق لها -أي هيئة القيادة- طَرق أبواب السلطة التنفيذية، بمذكرات متتالية، حتى كلَّ متنها.

الاجتماع المذكور تمَّ في الأسبوع الثاني من فبراير/شباط 1989, وحضره من مجلس الدفاع الوطني رئيس الوزراء الصادق المهدي, د. حسن الترابي وزير الخارجية, إلى جانب وزراء المالية والداخلية والأمن الوطني.. ومن جانب هيئة القيادة، الفريق عبدالماجد حامد خليل وزير الدفاع, الفريق فتحي أحمد علي القائد العام, الفريق مهدي بابو نِمِر رئيس هيئة الأركان, ونوَّابه: الفريق عبدالرحمن سعيد ”عمليات“, الفريق تاور السنوسي ”إمداد“، والفريق محمد زين العابدين ”إدارة“.

في بداية الاجتماع، قرأ الفريق فتحي أحمد علي بعض نصوص المذكرات التي سبق وأن أرسلتها هيئة القيادة, وتحدَّث الفريق عبدالماجد خليل مُستعرضاً الأوضاع التي وصلت إليها المُؤسسة العسكرية, مُؤكداً في ختامها على تعامل السلطة التنفيذية السلبي مع تلك المذكرات. إلاَّ أن رئيس الوزراء، غضَّ الطرف في تعقيبه عن تلك الملاحظات، وحوَّل حديثه إلى تقصير القوات المُسلحة في القيام بواجبها، بنفس التسلسل سابق الذكر.. أما د. الترابي، فقد التقط القفاز ليصُب اللوم أيضاً على هيئة القيادة، في تقصيرها بعدم متابعة تلك المُذكرات، لأن: «مصيرها دائما ما يكون في الأدراج». فأصبح الحديث بينه ووزير الدفاع سجالاً, لاسيَّما أنه سبق أن أنحى عليه باللائمة، في تكراره الكلام عن السلام وهو وزير دفاع, وفق ما ذكرنا آنفاً. وقبل أن ينفض الاجتماع، طلب الفريق زين العابدين السماح له بدقائق معدودات, فتحدَّث في نقاط ثلاث, مؤكداً على أن المعنويات العالية للقوَّات المسلحة تعتمد على تماسك الجبهة الداخلية, وطالب بجهود دبلوماسية لقطع الإمدادات عن الحركة الشعبية، والتي تتلقاها من دول الجوار, وختم بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها البلاد.

لأن ما قيل في الاجتماع تبخَّر في الهواء, وما كتب في المُذكرات كان مصيره الأدراج, خرجت هيئة القيادة بقناعة مفادها أن السُلطة التنفيذية عاجزة تماماً عن تلبية متطلبات المؤسسة العسكرية.. أما على الصعيد السياسي، المرتبط بتماسك الجبهة الداخلية, فقد تفرَّقت أحزابه أيدي سبأ.. بين راغب، ومتمنِّع، ومعارض لاتفاقية السلام.. والمدهش أن رئيس الوزراء كان قاسماً مشتركاً أعظم في هذا الثالوث المتناقض.

بعد ذلك الاجتماع بأيامٍ قلائل، رأى وزير الدفاع أن استقالته أمرٌ لا مناص منه.. وبعدها بثلاثة أيام، دعا القائد العام كل قيادات القوَّات المسلحة من كافة الوحدات للتشاور, وذلك ما أسفرت عنه المذكرة الشهيرة. ورغم أن الزيارات الليلية تفزعُ السياسيين, خاصة في السودان، الذي كثرت فيه الانقلابات العسكرية, لم ينتظر القائد العام صباح اليوم التالي, فحمل المذكِّرة، وبصُحبته رئيس هيئة الأركان للعمليات الفريق مهدي بابو نِمِر، وأحد نوابه, وسلموها لرئيس مجلس رأس الدولة أحمد الميرغني, ومن ثمَّ إلى السيد الصادق المهدي في الثانية عشرة منتصف الليل.

بعد يومين من استلامها، أي في يوم 22/2/1989، تحسَّس رئيس الوزراء قلمه, وردَّ على المذكرة بمذكرة مطوَّلة, تحدث فيها بتفصيلات عن واقع ”فانتازي“, وكان لافتاً توقفه في بندين متصلين بالتداعيات اللاحقة, فالبند السابع عشر من المذكرة، جاء فيه: «إننا جميعاً، قيادة وقاعدة، منتشرين في كل بقاع السودان, يجب أن نؤكد بوضوح لا لبس فيه أننا مع خيار الشعب السوداني الأصيل في الحفاظ على الديمقراطية, كما أكدنا ذلك في السادس من أبريل, وإننا نرفض كل أنواع الديكتاتورية, وسنظل أوفياء لواجبنا المقدَّس في حفظ وصون سيادة الوطن».. ردَّ رئيس الوزراء على ذلك بقوله: «هذا التزامٌ إيجابي في حد ذاته, كذلك لا بديل له، فالانقلاب العسكري ممكنٌ وسهل, الثورة عليه ممكنة وحدثت, وعلينا أن نجنِّب بلادنا هذه الدوامة».. ثم البند الآخر الذي جاء في ختام المذكرة، ورمى بتاريخٍ قاطع: «نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة لاتخاذ القرارات اللازمة في ظرف أسبوع من اليوم».. وردَّ عليها المهدي: «هذه نهاية غير موفقة، لأنها تشبِه الإنذار، وتفتح باب ملابسات, فالذين يريدون إحداث انقلاب عسكري سيجدون منها مدخلاً».

بعد أن ردَّ منفرداً، رأى المهدي بعدئذٍ ضرورة إشراك طاقم مجلس وزرائه، الذي قوامه قارعو طبول الحرب, فتضامنوا معه بردٍ في 25/2/1989.. ومع اقتراب العد التنازلي لمُهلة الأسبوع، خاطب المهدي الجمعية التأسيسية في 27/2/1989, وطَلَب إمهالاً حتى الخامس من مارس/آذار, وقرنه بطلب تفويض من الجيش, والتزامٌ بعدم اللجوء لانقلاب عسكري، حتى يُباشر تنفيذ المطلوب في المُذكرة.. كذلك طلب من النقابات الكف عن الإضرابات عن العمل، والاتجاه للإنتاج.. وكما ذكرنا من قبل، قرن عدم تنفيذ هذه الطلبات بتقديم استقالته في اليوم المُحدَّد.

أجهضت هيئة القيادة توقعاته في اليوم التالي مُباشرة، وأعلنت في بيان لها أنها: «لا تفوِّض مطلقاً صلاحياتها ومسؤولياتها المنصوص عليها في المادة [15] من دستور السودان الانتقالي».. وعلى حذوها سارت القطاعات المهنية الأخرى, فوضعوا رئيس الوزراء في محك صعب, تحَلحَلَ منه بالرواية التي ذكرنا, والتي لم تخطر على بال بشر!!

واقع الأمر، أن هيئة القيادة نفسها تراخَت في فترة الأسبوع الذي حدَّدته كإنذار, بدليل مُضي أكثر من شهر حتى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 26/3/1989.. والواقع أن التراخي انعكس على رئيس الوزراء برداً وسلاماً, ولربما تواترت إليه أنباء ”القسم الغموص“، فزادت من اطمئنانه, ولم ينس أن يُسمِّي كل ذلك ”تمريناً ديمقراطياً“.. مثلما أبدى قياديٌ آخر ارتياحه بالتقليل من شأن الإنذار, إذ نفى السيد مُبارَك الفاضل وزير الداخلية: «أن يكون لإنذار الجيش أي مدلولات، سوى الحصول على رد, بدليل أن الإنذار انتهى ولم يحدث شيء».

ذلك ما كان من أمر القوَّات المُسلحة عشية دخول البلاد في متاهتها الكبرى.. وتلك بعض ردود فعل رئيس الوزراء إزاء التطورات التي كانت تمورُ بداخلها.. ومن المُفارقات، أنه بعد أن غادر كرسي السلطة، وركن إلى حالات التأمل التي يهواها، أصرَّ في تقييمه لتلك الأوضاع على ما لا رأته عين, أو سمعت به أذن, أو حسَّه مواطنٌ في بلد الثلاثين مليون نسمة: «حققتُ للبلاد أنا وزملائي تمويلاً تنموياً في حدود [3] مليارات من الدولارات, ولسد العجز السنوي والمعدات العسكرية تمويلاً بلغ في السنوات الثلاث [4] مليارات من الدولارات, أنا لستُ فخوراً بالحصول على هذه المليارات السبعة, وما مولتُ من تنمية وبترول وسلع تموينيه، واستهلاكية، ومعدات, وكنتُ أعتبرها مرحلة تنتهي بقيام الانتخابات العامة المتوقعة في أبريل 1990، ليواجه أهل السودان قَدرهم، وكان برنامجنا للانتخابات سيكون في هذا الاتجاه». وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فمن المؤكد أن رئيس الوزراء قد خلط بين التمنيات والواقع, الذي لم يشهد ولو قدراً ضئيلاً من تلك الإنجازات.. فعلاَّّم الانقلاب إن كان ذلك حقيقة؟! ولماذا يقف مواطن أترفته هذه الإنجازات موقفاً محايداً من الانقلاب بعد حدوثه؟!

من جهة ثانية، يبقى اعتراف رئيس الوزراء بتأزيم فترة حكمه أمراً عصياً، رغم تمدد السنين، وتداخل الأحداث.. كذلك يصعب الطلب منه توجيه ذات النقد لنفسه، مثلما وجَّهه لهيئة قيادة القوَّات المسلحة, خاصة أنه تقلَّد، إلى جانب رئاسة الوزارة, منصب وزير الدفاع لعامين من أصل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر, هي فترة حكمه في الفترة الديمقراطية الثالثة, والتي شكَّل فيها خَمس حكومات، رأسها جميعها دون كللٍ أو ملل, وبهمَّة مَن ترجَّحت إنجازاته على إخفاقاته.

غير أن المُتابع لمسيرة المؤسَّسة العسكرية نفسها، منذ سيل المذكرة الذي جرى من عَلٍ, لا يستطيع أن يتغافل عن مسئوليتها فيما حدث بعدئذٍ.. فهيئة القيادة رمت بتهديدٍ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فتقاصر فعلها عن قولها.. ومذكرتها، حتى لو حَسُنَت النوايا حولها كآلية ضغط، إلا أنها تحوَّلت إلى خطأ قاتل، تَجرَّعته قبل الآخرين.. فهي، وفق تقدير أحد منسوبيها: «هيئة القيادة جهَّزت المسرح تماماً لقيام حركة انقلابية بأي مجموعة منظَّمة, إن لم يكن باسم القائد العام كما حدث فعلاً, فقد خلقت لهم المبرِّرات والأسانيد التي جاءت في المذكرة». وكان لافتاً في أكثر من فقرة، تأكيد الدور المُناط بالقوات المسلحة، بما في ذلك حماية النظام الديمقراطي, لكنها في واقع الأمر: «وضعت الجمرة على أنف النظام الديمقراطي, ولم تفعل سوى تجهيز المسرح لانقلابٍ عسكري, قام بتسديد أولى لطماته إلى كل من ساهم، أو كتب، أو شاركَ في إعداد المذكرة». والحقيقة ليسوا كلهم, فبعضُ الذين تآمروا على النظام الديمقراطي، كانوا حضوراً, وآخرون مِمَّن غيَّروا ولاءاتهم، وانغمسوا في سلطة الإنقاذ، كانوا حضوراً أيضاً. لم يكن كل الذين شاركوا في عزف ذلك اللحن الجنائزي للنظام الديمقراطي، من المؤمنين قولاً وفعلاً بمنطوق المادة [15] من الدستور الانتقالي لعام 1985, والتي تمَّ الاستشهاد بها في صدر المذكرة.

القائد العام، الفريق أول فتحي أحمد علي -رحمه الله- حتى بعد أن استنسرت بأرضه البغاث, عزَّ عليه الاعتراف بحُدود مسئوليته.. فردَّاً على سؤالٍ إن كان يشعر بالتقصير، أو المسؤولية، لأنه لم يكتشف تحرُّكات الانقلابيين، وهم ضباط تحت إمرته، قال: «أنا لا أشعر بالتقصير إطلاقاً»!! رغماً عن أنه من المعروف، لدى القاصي والداني، أن الاختراق الحقيقي للقوَّات المُسلحة من قِبَلِ الجبهة الإسلامية، انطلق من حصنه الأمين, بعد أن جنَّدت مُدير مكتبه، ”العقيد بحري سيِّد الحُسيني عبدالكريم“ لصالحها, فأمدَّها بكل حركات وسكنات المؤسَّسة العسكريَّة، التي كانت تصبُّ في مكتب القائد العام.. وقد ركن الفريق فتحي، بعد وقوع الكارثة، إلى تفسير ذلك بمثالية -عُرِفَت عنه- وكانت أقرب إلى ”ندم الكسعي“, وإن صَعُبَ عليه الإفصاح عنه, فكتب يقول عن مدير مكتبه: «مَثلٌ للخيانة والغدر بشرف المهنة، وقسم الولاء للوطن، ولقائده.. لقد باع الاثنين بعد مذكرة القوات المسلحة بمبلغ [3] ملايين جنيه.. لقد نسَّق مع المتآمرين، وأفشى أسرار القيادة، وتحركاتها، وساعد في خطة الخداع على باقي القيادات.. رجلٌ ضرب أمته، وخان أمانتها، وأذلها ببيع ضميره وشرفه وقسمه العسكري.. فهل يُرجى منه أي خير لوطنه وشعبه وجيشه؟! إن الخيانة قديمة قِدَم التاريخ، وبراعة الماكرين والمتآمرين تفوت ولو إلى حين, على الأذكياء».

لأن التاريخ تسلسلٌ لا فجوات فيه, تلاحقت لعنة المذكرة - كما سنبيِّن لاحقاً- على القائد العام، وهو يخوض غمار العمل المُعارض، في تجربة القيادة الشرعية, فلدغ من ذات الجحر للمرة الثانية!! وإن كانت المسؤولية التاريخية قد أناخت بكلكلها يومذاك على القائد العام, إلا أنها شملت كل أعضاء هيئة القيادة تالياً, الذين ازدردوا كلمات المذكرة حرفاً حرفا, وناموا ملء جفونهم عن شواردها، حتى لحظة إنفاذ الانقلاب.. ويضاعفُ من حجم مسؤولياتهم، أن بعضهم كان بمقدوره أن يفعل شيئاً مضاداً يُربِكُ به - على الأقل- خطة الانقلابيين, مثل رئيس هيئة الأركان مهدي بابو نِمِر، الذي عيَّنته الإنقاذ وزيراً للصحة لبعض الوقت, وكان قد أُعتقل من منزله في وقت متأخر من صبيحة يوم الجمعة, بعد أن ذاعَ خبر الانقلاب، وعمَّ العاصمة والقرى، والعالم الخارجي.. فقد ثبت أنه كان بمقدوره -في إطار خطط الإرباك- تحريك بعض الوحدات العسكرية, خاصة تلك التي تقع في منطقة أمدرمان، مقر سكنه, والتي لم تكن ضمن خطة الانقلابيين بالكامل!! ولا يدري المرء إن كان قد استذكر ساعة اعتقاله قولاً مأثوراً، نطق به قبل أقل من أسبوع من الانقلاب, وذلك حينما انفعل في لقاءٍ تنويري بمنطقة الخرطوم بحري العسكرية، وهو يشرح ملابسات الانقلاب ”المايوي“، فقال: «مافي واحد يقدر يعمل انقلاب ونِحنا -أي هيئة القيادة- موجودين». ثم مدير الاستخبارات العسكرية، اللواء صلاح مصطفى, والذي برع قبل أسبوع أيضاً في متابعة سيناريو ذلك الانقلاب الوهمي, وعجز جهازه عن توفير دليل يعتقل بموجبه أصحاب الانقلاب الحقيقي!! أما بقية العِقد النضيد، من أعضاء هيئة القيادة، فلم يكونوا بأحسن حالاً, ”فقد وافق شنٌّ طبقه“.

عوداً على بدءٍ, كانت تلك وقفات في المسارين، أوردناها كأمثلة لنوضِّح من خلالها -دون تعسف أو أحكام مسبَّقة- مسئولية رئيس الوزراء, وكذا الآخرين في ما حدث من تطورات سياسية وعسكرية، أجهضت النظام الديمقراطي، وغيَّرت مسيرة البلاد السياسية, بتأكيد أن مسئوليته تجاوزت حدود العلم المسبق بالانقلاب, وساهمت في تأزيم المناخ السياسي، الذي هيأ الظروف لحدوث الانقلاب نفسه.. وعليه، فلا غرو أن وجد رئيس الوزراء ضالته فيما ردَّده البعض، من أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مبادرة السلام!! وهو التفسير الذي استخلص النتائج دون النظر للحيثيات, ولا ينفي منطلقات الجبهة الإسلامية في تنفيذ الانقلاب حيث إنها أيضاً كانت ضمن الزاعمين بنجاح جولة المفاوضات في 4/7/1989، وانعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989.. غير أن انحياز رئيس الوزراء لهذا المذهب التفسيري، يجيء من منطلق عقدة ذنب سياسية اقترفها يومذاك، ولا يود الإفصاح عنها كحقيقة, أو الاعتراف بها كنقد ذاتي.. فكلاهما ليس لهما متسع في قاموسه.



المَشْهَدُ الثانِي: مُؤامَرَة عَلى المؤَامَرة

نسبة إلى أن هذا المشهد ليس معنياً بالتوثيق الكامل، لبدايات تسرُّب عناصر تنظيم الإخوان المُسلمين، في أوساط القوَّات المُسلحة, لهذا سيتركز المبحث في الكيفية التي خُطط ودُبر ونُفذ بها انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989.. علماً بأنه لم يكن وليد تلك اللحظة، فقد طرحت فكرة الانقلاب أكثر من مرة، وفي فترات تاريخية مُختلفة، كانت تطفو أحياناً صعوداً، وتختفي أحياناً أُخرى هبوطاً، طبقاً لمجريات الأحداث. وبغضِّ النظر عن تفصيلات كثيرة، فقد كان تغلغل كوادر عسكرية إسلامية في أوساط القوَّات المُسلحة، في الفترة التي انخرط فيها تنظيم ”الإخوان المسلمين“ في النظام المايوي ”جعفر نميري“، بمُوجب ما سُمِّي بـ”المُصالحة الوطنية“ في 1977، حافزاً في تكوين جناح عسكري للتنظيم، أوكل أمر قيادته للعميد مهندس ”الهادي المأمون المرضي“, لكنه كان بمثابة ”خليَّة نائمة“، وخملت الفكرة نفسها –أي الانقلاب- إلى حدٍ ما، إثر تحكم التنظيم في النظام المايوي العام 1983، بعد تبني الأخير تطبيق ما سُمِّي بـ”قوانين الشريعة الإسلامية“، أو ”قوانين سبتمبر 1983“ وفق الشهر الذي صدرت فيه. ونشطت مرة أخرى، بعد انتفاضة أبريل 1985، تحسُّباً من الضربة القاصمة التي وجَّهها نميري للكوادر القيادية في التنظيم قبيل الانتفاضة، باعتقالاتٍ جماعيَّة في 10/3/1985، طالت معظم قيادات الإخوان، وعلى رأسهم د. حسن الترابي، وأسماهم وقتئذ تشفياً بـ”إخوان الشيطان“.

في الفترة المذكورة، تولى قيادة التنظيم المُقدم طيار ”مُختار محمَّدين“, بدلاً من العميد المرضي.. وتُجمع المصادر على أن الفترة التي تولَّى فيها ”محمَّدين“ قيادة التنظيم, وهي مطلعُ الثمانينيات، كانت هي البداية الجادَّة لبناء تنظيم عسكري فاعل لحركة الإخوان المُسلمين، داخل القوَّات المُسلحة. ثمَّ تولى بعد ذلك الملف بأكمله في القيادة السياسية للتنظيم، أثناء الفترة الانتقالية، السيد ”علي عثمان محمد طه“، وبرزت فكرة تدبير الانقلاب بشكل جدِّي خلالها، مُوازية للمُشاركة السياسية للتنظيم مع بقية القوى السياسيَّة في الحياة الديمقراطية. ورغم اضطراب وعدم استقرار المناخ السياسي في تلك الفترة، والذي ربما كان مُحفزاً لتنفيذ الفكرة، إلاَّ أن غالبية قيادة التنظيم عارضت تقويتها, بدعوى أن الآثار السالبة التي خلَّفها الحكم ”المايوي“ سياسياً ومعنوياً, ربما تحولُ دون نجاح الفكرة, من حيثُ تأييدها، والتجاوب معها في الأوساط الجماهيرية, وأُرجِئت ريثما تنتهي الفترة الانتقالية, لتقييمُ تجربة مُشاركة التنظيم، الذي اتخذ مُسَمَّى ”الجبهة القومية الإسلامية“ في مايو/أيار1985، قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية, ونظامها الديمقراطي الذي سيتأسَّس عليها.

في غضون ذلك، تمدَّد التنظيم السري العسكري أثناء الفترة الديمقراطية (1986–1989)، وخلال فترتها الزمنية القصيرة, وبما صاحبها من عدم استقرار واضطراب في المُناخ السياسي, تحفزت أوساط ”الجبهة القومية الإسلامية“ لتنفيذ فكرة الانقلاب، بعد أن ساهمت بقدرٍ كبير في إضعاف النظام الديمقراطي نفسه, خاصَّة في النصف الثاني من العام 1988. بَيْدَ أن خُطط الجبهة اضطربت أيضاً، على إثر اختطاف الموت لرئيس التنظيم السري، المُقدم ”مُختار محمَّدين“، بعد تحطم طائرته نهاية العام نفسه، في مناطق العمليات بسماء مدينة الناصر، واختير مُجدَّداً اللواء ”محمد المأمون الهادي المرضي“ الذي حلَّ مكانه لفترة انتقالية قصيرة، ثم اختير العميد ”عثمان أحمد حسن“. ومع ذلك، ظلَّ الأول قريباً من التنظيم, ويبدو أنه كان الأكثر إلماماً بخفاياه: «كانت المفاجأة هي في ظهوره بعد يوم واحد من انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989، كشخص له نفوذٌ كبير في السُلطة الجديدة, إذ قام بتفقد دار الضيافة، التي كانت تضم المُعتقلين من قادة القوَّات المسلحة, وكنتُ شاهد عيان لرُوحِ الغبطَة والتشفِّي التي ظهرت عليه خلال طوافه غير المُبرَّر على منطقة عسكرية، وهو متقاعدٌ خارج الخدمة. عند صدور قرار تعيين مجلس وزراء الانقلاب, عُيِّن اللواء المُهندس الهادي المأمون المرضي وزيراً للأشغال العامة, وكان يقول للمُقرَّبين منه: في واقع الأمر.. ”أنا رئيس هذه الحكومة“.. “I am the defacto Prime Minister of this Government”».. وأصبحت للتنظيم أذرع كثيرة في كل فروع القوَّات المُسلحة داخل وخارج العاصمة.

نشطت فكرة الانقلاب، واتخذت طوراً فعلياً وعملياً، في الشهور الأولى للعام 1989, ثمَّ ”دشَّنتها“ مُذكرة القوَّات المسلحة، التي قُدِّمت للقيادة السياسية في فبراير/شباط من نفس العام, فصعدت الفكرة إلى مرقى مُتقدِّم في الربع الأخير للفترة الديمقراطية.. ففي إطار تداعيات هذه المُذكرة، كان تقييم الجبهة الإسلامية لها أنها: ”عمل انقلابي“.. أو بالكاد، مُقدِّمة ”لمشروع انقلابي“.. وبالرغم من أن فكرة الانقلاب في ملامحها العامَّة، بدأت تظهرُ بمظهر المشروع المنافس والنقيض لـ”مُبادرة السلام“ (الميرغني- قرنق)، وبالرغم من أن المُبادرة نفسها، إن أقدم طرفاها -الحكومة والحركة الشعبية- على تنفيذها ”بمُعجزة“، فإن الجبهة الإسلامية لن تجد ما تعتاشُ به في خطابها السياسي والتعبوي، القائم على النقيض، بقرع طبول الحرب.

إلا أنه، وفق ما أشرنا إليه في محور سابق، لم تكن أولوية التنظيم في قطع الطريق أمام ذلك الهدف، ولكنه جاء تالياً.. ويبدو أن ذلك ما رمى له الماسك بزمام الملف في حديث جاء بين السطور, وإن استجار فيه بذرائع فقه الضرورة، فقال: «على الصعيد العسكري، الانقلابيون الذين عملوا باسم ضباط المُذكِّرة، أو غيرهم من المدارس الانقلابية، هم الذين أنهوا النظامُ الديمقراطي التعدُّدي. وعلى الصعيد السياسي، كانت موافقة رئيس الوزراء صاحب الأغلبية البرلمانية على الامتثال لوجهة نظر بضعة ضباط, هُم ضباط المُذكِّرة التي تمثل انقلابا على الديمقراطية والشرعية والتعددية. ففي مناخ كهذا أعتبر نفسي فيه زعيماً للمُعارضة, وفى أي برلمان أعارض بعد أن تحوَّل البرلمان المُنتخب لجثة هامدة, ورث شئونه آخرون، لا تمثيل ولا وجود لهم في الجمعية التأسيسية؟ إن موقفي وموقف غيري من الذين وقفوا مع الإنقاذ وهُم من مختلف الأحزاب والتيارات والمدارس الفكرية, انطلق من حقائق ثابتة، تقول إن الانقلابيين اليساريين وبعض الذين لا يمكن أن يؤتمنوا على البلد في طريقهم لوأد النظام البرلماني التعددي».. عليه، وبغض النظر عن التبريرات، فقد كان هاجس الجبهة الإسلامية أخذ زمام المُبادرة، باستباق تنظيماتٍ سرية وعلنية، أخذت تتبارى لتنفيذ ذات الفكرة.. ولما كانت القوات المسلحة هي هدف أولئك جميعاً، فقد رأت الجبهة الإسلامية أن المُذكِّرة وفَّرَت فرصة يمكن استثمارها، كغطاء تأميني يزيد من معدَّلات نجاح الانقلاب.

المُفارقة، أن د. حسن الترابي، الأمين العام ”للجبهة القومية الإسلامية“ لم يُظهر مُيولاً حماسية لتنفيذ فكرة انقلاب عسكري لإجهاض النظام الديمقراطي الأخير, إلاَّ في رحلة الشوط الأخير تلك.. ولم يكن ذلك زهداً في العمل الانقلابي نفسه، ولا حُباً في النظام الديمقراطي كمنهج سياسي، ولكن تلك هي إحدى طرائقه في المُمارسة السياسية، كما خبرها المُقرَّبون، ولهذا رغب –التفافاً- أن تأتي الفكرة من داخل المؤسَّسة التنظيمية, وهي هيئة مجلس شورى الجبهة الإسلامية (التناقض أن عملاً غير شرعي يبحثُ عن مؤسَّسية), والتي اجتمعت بكامل عضويتها (60 عضواً) عقب المُذكرة، لمُناقشة فكرة الانقلاب، نزولاً عند رغبة الأمين العام، الذي تظاهر وقتئذٍ بالوقوف على السياج.. وبعد طرحها وتداولها، أجاز المجلس الفكرة بشبه إجماع، ولم يعترض صراحة سوى د. الطيب زين العابدين، وتحفَّظ عليها السيد أحمد عبدالرحمن، ود. إبراهيم أحمد عمر، ويبدو أن تحفظهما كان من مُنطلق التشكك في نجاحها، سيَّما وأن الأول -وفق ما أوردنا في مشهد سابق- كان من أنصار انقلاب مُزدَوج بين الجبهة الإسلامية وحزب الأمَّة. وبعد إجازة الاقتراح، وجد د. الترابي نفسه أمام واقع لن يُجدي معه الحياد فتيلاً, ويُعتقدُ أيضاً أن توجُّسه لم يكن مُتعلقاً بالفكرة نفسها، بقدر ما كان مُتعلقاً بمُنفِّذيها من العسكريين, الذين لا يعلمُ عنهم شيئاً, وليست له صلة مُباشرة معهم, بل إنه لا يملكُ أي معلومات كافية عن أيٍ منهم.. فعلاقتهم المُباشرة كانت، وظلت محصورة مع نائبه، السيد علي عثمان محمد طه، كما ذكرنا.

قرارُ إجازة الانقلاب من الهيئة, تبعته قراراتٌ أخرى, حيث أوكِل للأمين العام الإشراف على تنفيذ الفكرة, على أن يختار بحريَّة من يشاء لإنجازها, وبحيث لا يعلمُ أعضاؤها أسماءهم، أو مهامَّهم, ويقوم الأمين العام كذلك ”بتنويرهم“ كل ثلاثة أشهر.. وبدوره، قام د. الترابي باختيار ستة، هم السادة: علي عثمان محمد طه, ياسين عمر الإمام, إبراهيم السنوسي, علي الحاج, عبدالله حسن أحمد, عوض الجاز.. واستند الاختيار إلى أن الأوَّل هو المسؤول منذ البداية عن المِلف العسكري, بينما كان الأخير مسؤولاً عن التأمين والجهاز الأمني في التنظيم، منذ البداية أيضاً.. أما البقية، فقد انحصرت مهامهم في الاستقطاب، التعبئة، التمويه، التمويل، وتأسيس خلايا هرمية ولجان، وكذلك السيناريوهات السياسية والحملات الإعلامية, وتهيئة الأوساط الجماهيرية (مثل التظاهرات المُتواصلة ضد المُبادرة، بذريعة التخلِّي عن الشريعة والاستسلام ”لحركة التمرُّد“) ولعلَّ تفرُّعاتها معروفة في هذا الصدد.

غير أن أخطر ما طرح في سيناريو التنفيذ، ما اقترحه أحدهم حول ”ضرورة تصفية القيادات الطائفية، وقياديين من الحزب الشيوعي“، الأمر الذي تباينت حوله آراء المجموعة بين مُؤيِّد (3)، ومُعترض (1)، ومُتحفِّظ (2)، فتداولوها مع د. الترابي، الذي رفضها تماماً.. وعوضاً عن ذلك، تمَّ التواصي والاتفاق على سيناريو ”عدم استخدام العنف إلاَّ في حالة مُبادرة الطرف الآخر“. أيضاً وضع المُخطِّطون نسبة كبيرة للفشل، بمعطيات الأمر الواقع نظرياً, مُستندين على أن القوى السياسية والنقابية ربما تلجأ إلى تفعيل ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“, ممَّا سيضع الانقلابيين في محك صعب.. إضافة للحاجز النفسي، الذي يُحتملُ أن يقف حائلاً دون تقبُّل الشارع السُوداني لفكرة الانقلاب نفسها, خاصة أن مُمارسات الديكتاتورية الثانية لم تطمس آثارها بعد. وقد وجد السيناريو علاجاً لهذه الاحتمالات المُتوقعة, بالتراضي حول اتباع الأسلوب الفرانكوي، ”الصدمة الفجائية“, وذلك باستخدام ”العنف بمقدارٍ“ ترهيباً, و”الإغراء بإسراف“ ترغيباً, وهو المنهج الذي استمر لعدة سنوات بعد الانقلاب.

على صعيد الترتيبات العسكريَّة، لم يكن الضبَّاط العسكريون الخمسة عشر, الذين أنيطت بهم مُهمَّة التنفيذ, من المُنتمين فعلياً لتنظيم الجبهة الإسلامية، سوى ستة منهم، وثلاثة ذوي توجهات إسلامية خاصة، والبقيَّة لا من هؤلاء ولا أولئك.. وكلتا المجموعتين، أُلحقت بالفكرة إلحاقاً.. بعضهم قبل التنفيذ بأيام معدودات، وهم لا يعلمون من أمرها نصباً, كما أن الستة المُنضوين تحت لواء التنظيم فعلياً, لم يكن بينهم واحدٌ في الهيكل التنظيمي للجبهة الإسلامية, ويشارُ إليهم جميعاً بـ”التنظيم العسكري السري“, وبأسماءٍ ”كودية“.. لهذا، فقد ارتأى المسؤول عن الملف إدخال عُنصر المال، لأول مرة في تاريخ الانقلابات العسكرية في السُودان, باقتراحٍ وافقت عليه المجموعة, وبموجبه تمَّ تسليم كل منهم مبلغ ستة ملايين جنيه سُوداني، نقداً وعينياً, تحوطاً لتأمين أُسرهِم من غوائل الدهر، في حال فشل الانقلاب، وتعرُّضهم لمُحاكماتٍ قد تصل حدَّ الإعدام. ولعل شراء الذِمَم هذا قد شكل ضمانة في قطع دابر الثرثرة، التي طالما كشفت أسرار معظم الانقلابات العسكريَّة في السُودان.

استلزمت نواحٍ إجرائية تعديل قيادة التنظيم العسكري السرِّي، بإحلال العميد عمر حسن أحمد البشير بدلاً من العميد عثمان أحمد حسن, وذلك نسبة لتردُّد الأخير دوماً، بدعوى ”عدم الجاهزيَّة“.. أما الأول، فإضافة إلى حماسه واندفاعه المعروفين، وعُضويته المُبكرة في التنظيم, ورُتبته العسكريَّة الكبيرة، فإن اختياره تمَّ وفق ما يُسمَّى بـ”التقييم الذاتي“ في الأجندة التنظيمية للجبهة الإسلامية في اختيار القيادة، وهو يختصُّ بتقييم مَلَكَات وصِفات وسُلوك الشخص المعني, وأهمَّ ما فيه، افتراضه عدم خضوع المَعنِي بالاختبار للعاطفة ”في حال وجد نفسه في موقفٍ ينشأ عند التنفيذ، أو بعده، في أي إجراء يتطلَّب توطيد أركان السُلطة في أوقات الشدَّة والأزمات“.. وقد تطابقت ”الظروف الاجتماعية الخاصة“ للعميد البشير في التقييم مع تلك الفرضيَّة، والتي تماثل إلى حدٍ ما ذات ”الظروف“ التي كانت مُحيطة بتكوين الرئيس المخلوع جعفر نميري, ويعتقد بأنها تحكمت في تصرُّفاته، ومُمارساته في الحكم.. ويُذكرُ أن منهج التقييم المذكور, يتم إجراؤه بصورة سريَّة، دون علم الشخص المعني, ويظلُّ كذلك.. وربَّما يعلمه لاحقاً، بطريق غير مباشر، أو لا يعلمه على الإطلاق.

أرسل السيد على عثمان طه -المسؤول عن المِلف- أحد كوادر الحركة الإسلامية، ”علي سليمان“، إلى العميد عمر حسن أحمد البشير، في قيادته بمنطقة المُجلد، جنوب كردفان.. وحضرا معاُ وِفقَ توجيهاته, وأقاما لبعض الوقت في مدينة الأُبيِّض, في منزل مسؤول الحركة الإسلامية ”علي النخيلة“، ومن ثمَّ اتجها نحو الخرطوم.. وكان أول عملٍ قام به العميد البشير، بعد وصوله, تسجيل البيان الأول للانقلاب في استوديوهات ”مُنظمة الدعوة الإسلامية“، وبإشراف فني من مسئول الاعلام فيها”عوض جادين“ وآخرين.. وبعد الاطمئنان على اكتمال كل الترتيبات، حدَّدت المجموعة ساعة الصفر لتنفيذ الانقلاب في الثانية بعد منتصف ليلة الخميس 22/6/1989.

غير أن حدثاً مفاجئاً أربك الخُطة لبعض الوقت, إذ تمَّ في صبيحة الأحد 18/6/1989 اعتقال عدد من قادة وحدات عسكريَّة في العاصمة، على رأسهم العميد أحمد فضل الله، بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري, وهو الحدثُ الذي أشرنا له بتفاصيل في المشهد السابق, وقلنا إنه كان ينبغي أن يكون حافزاً للقيادة السياسيَّة والعسكريَّة لاتخاذ المزيد من التأمين والإجراءات التحوطيَّة, واعتبره كثيرٌ من المُحللين السياسيِّين انقلاباً تمويهياً، للتغطية على الانقلاب الحقيقي, ولم يكن في واقع الأمر كذلك, فقد فوجئت به مجموعة الستة، وسابعهم د. الترابي, وكان الشيء الوحيد المربك -بالنسبة لهم- هو أن الاعتقالات شملت عدداً من كوادر التنظيم السرِّي، المُناط بها تنفيذ الانقلاب الحقيقي, فاستلزمت الخطة تغييراً طفيفاً!! كان المُدهشُ فيها تأجيل ساعة الصفر، لتكون بعد أسبوع واحد فقط من الموعد الأول, الأمر الذي اعتبره البعض أيضاً استهانة بالإجراءات الأمنية, لكن المجموعة استندت إلى عدَّة أسباب, أهمُّها خشيتها من ترهُّل الخطة، وسيناريوهاتها المتعدِّدة، والتي وُضِعَت بإحكامٍ، وقطعت شوطاً بعيداً.. كذلك للاستفادة من انشغال الأجهزة الاستخباراتية العسكرية, والقيادتين السياسية والعسكرية أيضاً بالتحقيقات حول المُحاولة المذكورة.. علاوة على أن رئيس الانقلاب نفسه كان مُقدَّراً له أن يُغادر السودان في الأول من يوليو/تموز، لحضور دورة في أكاديمية ناصر العسكرية بمصر لمدة عام, وجيء به من حاميته بغرض إكمال إجراءات استلام أمر تحرُّكه.. ولذا، فإن تأجيله لفترة طويلة قد يُلفت الأنظار لشيء ما.. المُفارقة، أنه حتى ذاك الوقت لم يحدُث أن التقاه د. الترابي, الذي كان لا يعرفه سوى اسماً، وكذا بقية المجموعة، باستثناء السيد علي عثمان طه.

ضمن إطار سيناريوهات الانقلاب, قرَّرت مجموعة الستة المُشرفة, من باب التمويه ودرءاً للشبهات، أن تشمل الاعتقالات د. الترابي وآخرين، منهم: إبراهيم السنوسي وياسين عمر الإمام، واستثنت علي عثمان طه وعوض الجاز، وطلب من عبدالله حسن أحمد الاختفاء مؤقتاً, ووُجِّه د.علي الحاج بالسفر للخارج, فتجوَّل بين العواصم لأكثر من خمسة أشهر, حتى بعد نجاح الانقلاب!! وتمَّ التأكيد لدكتور الترابي بأن اعتقاله مع الآخرين لن يدوم لأكثر من شهر، على أسوأ الفروض.. ويبدو أن الفكرة قد راقت له, وصادفت هوىً في نفسه, فهي في وجهها الآخر تجعله بمنأى - في حال الفشل- عن فعلٍ بغير المُخاطرة، فهو لا يدفع أي سياسي للافتخار أو التباهي, لا سيَّما وقد عُرف عن د. الترابي أنه من جنس السياسيِّين الميكافيليين والدُهاة, الذين لا يتورَّعون عن بناء مجدٍ شخصي على أنقاض الآخرين. ومع كل ذلك، لم تحقق فكرة التمويه أغراضها المرسومة، وفق ما خططت المجموعة.

في الشوط الثاني من السيناريو، وبعد أن وضعت مجموعة علي عثمان طه الترتيبات النهائية، بتغيُّراتها الطفيفة التي تضمَّنت ساعة الصفر البديلة, عرض الأمر برمَّته على د. الترابي، الذي طلب أن يُحضِروا له الضابط الذي وقع عليه الاختيار ليكون قائداً للانقلاب, فجيء إليه بالعميد عمر حسن البشير قبل يومٍ واحد من التاريخ المُحدَّد، أي في 29/6/1989, وفي ذاك اللقاء، الذي كان قصيراً, فوجئ الأخيرُ بالأوَّل يضعُ المُصحف بين يديه, علماً بأنه أدَّى القسم سلفاً, لكن الترابي طلب منه في المرة الثانية أن يُقسِم ”بألاَّ ينفرد بالسُلطة مُستقبلاً في حال نجح الانقلاب, وتوطدت أركان السُلطة الجديدة“.. لم يكن المذكورُ في وضعٍ يسمحُ له بأن يفكر مليَّاً فيما قاله ”الشيخ الدكتور“, ربَّما ليُبعِد أي شكوك أو هواجس قد تنعكس سلباً على علاقة مازالت تحبو, أو ربَّما كان في عجلةٍ من أمره، لمعانقة مَجد شخصي!! وأياً كان التفسيرُ، فالمُهم أنه أقسم دون تردُّدٍ، ودون تعقيب.. ولم يكن فيما تبقى من حديثٍ غير دعم القسم, بالتأكيد على ما يُطمئِنُ في توجهاته الإسلامية على المستوى الخاص, وزاد عليها بإلحاق غالبية الأسرة على المُستوى العام.. والمُفارقة، أن المُزايدة في التوجُّهات، لم تمنع تكرار القسم، وبذات المشهد، على مدى فترات التوتر في العلاقة بينهُما, وحتى قبيل ما سُمِّي بـ”المُفاصلة“ التي شقَّت صف الحركة الإسلامية، بعد عقدٍ كامل من نجاح الانقلاب.

لم يكن السيد علي عثمان طه نجماً ساطعاً في الحركة الإسلامية، بالنظر إلى آخرين قضوا جُلَّ عُمرهم فيها، منذ بواكير تأسيسها, وإن كانوا جميعاً مِمَّن يدينون بولاء كبير للترابي، وزعامته للكيان، ذلك باستثناء الجناح المُنقسِم عن الحركة، بزعامة صادق عبدالله عبدالماجد وآخرين، تمرَّدوا على قيادته، بذريعة الاختلاف معه حول بعض أفكاره الجدلية، وليس من بينهم من يُمكن أن يُنازعه تلك الزعامة التي تبوأها بملكاته الخاصَّة, وقد تمَّ ترفيعُ علي عثمان طه في المؤتمر الثاني، بمساندة حقيقية من الترابي نفسه، ليُصبح نائباً له.. وبالتالي، فقد كان يتمتَّع بثقته المُفرطة، التي كرَّست الانطباع بأنه وريثه في زعامة الحركة الإسلامية أيضاً. وللسيد علي عثمان طه قدرات ومُميِّزات خاصة أيضاً, سيَّما في العمل خلف الكواليس، وسياسة التخفي, بمثال دوره.. فبالرغم من أنه لعب دوراً محورياً في تخطيط وتنفيذ فكرة الانقلاب، كما أوردنا, إلاَّ أنه ظلَّ في حالة نفي مُستمر، حتى في الوقائع التي صنعها بيده: «لم أُعتقل بالرغم من كوني كنتُ مطلوباً القبض عليّ في قائمة السياسيِّين الآخرين, ولكن الجنود أخطأوا عنوان بيتي, ممَّا منحني فرصة الاتصال بمجموعتي التي قيَّمت الموقف تجاه الطلاَّب, ثم طوَّرته من خلال القطاع الطلابي، والذي تسيطر الجبهة الإسلامية على اتحاداته, حيث قامت اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم بنقل مُساندتها وتأييدها للانقلاب العسكري للفريق البشير».

واقعُ الأمر، رغم أسلوب المراوغة الذي اتَّبعته الطغمة الحاكمة في إخفاء هُويَّة الانقلاب السياسية والأيديولوجية, إلاَّ أن الاتهام ظل محورياً في الداخل والخارج, وبالتالي كان ثابتاً في كل الحوارات التي أجراها الصحفيون العرب والأجانب مع قادة الانقلاب.. لم يتردَّد في طرحه حتى الذين شاركوهم ذات الانتماء الأيديولوجي, مثل الكاتب المصري الإسلامي فهمي هويدي، الذي جاء إلى الخرطوم في زيارة طابعها البحث والتأكد, فطرح السؤال على الفريق عمر البشير، وكالعهد به، كانت إجابته غريبة ومدهشة معا: «الذين يعارضوننا لم يجدوا شيئاً يتهموننا به، سوى مسألة الانتماء للجبهة الإسلاميَّة, وسيظلُّ هذا السيفُ مُشهراً حتى يجدوا شيئاً آخر يأخذونه علينا.. فيلاحقوننا به.. ونحن نفهم دوافع المُلحِّين على مسألة العلاقة بالجبهة, فهم يُريدون حصارنا وعزلنا سياسياً وإعلامياً في الداخل، بوضع الثورة في حدود ذلك المجرى الضيِّق». وبمثل هذا الخطاب المُتلجلِج، سار حتى الذين قلنا إنهم أُلحِقوا بالفكرة إلحاقاً، وهم لا يعون من أسرارها شيئاً: «هذا هراءٌ تجاوزناه، لأننا ثورة قامت لاستقطاب جميع الفعاليات, والدعوة التي وجَّهناها للدكتور الترابي للمشاركة، هي نفسها الدعوة التي وجَّهناها إلى جون قرنق ومحمد عثمان الميرغني والصادق المهدي». لم يكن من السهل على الحاكمين الجُدُد الاستمرار طويلاً في سياسة إنكار هويَّة الانقلاب, وذلك بالنظر إلى الواقع الذي كانت مُجرياته تؤكد بوضوح أيلولة الوضع بالكامل للجبهة الإسلامية.

قبل أن يطوي العام الأوَّل أوراقه, بدأت السلطة بإزاحة القناع تدريجياً, بالإيحاء أولاً بأن الجبهة الإسلامية تعملُ لتأييد الانقلاب، وبأنه ليس من صنعها، فقبَيل الاحتفال بالذكرى الأولى للانقلاب، صدر تقريرٌ تقييمي سرِّي, تمَّ توزيعه في نطاقٍ ضيِّق للمُوالين, وكان بعنوان: ”السودان, حقائق ووثائق“، جاء فيه: «إن تأييد الجبهة الإسلاميَّة للنظام في ظلِّ مُعاداة القوى الأخرى له يؤدي إلى مزيد من التلاحم، ولو من باب المصير المشترك, وستسعى الجبهة لتنمية علاقتها مع النظام كل يوم جديد, بنفس الكفاءة السابقة مع نظام نميري، إن لم يكن بتجويدٍ أكثر».. ومضى التقرير في الكشف الفاضح: «إن ثراء فقه الجبهة في مجال التعاون مع النظم العسكرية هو المدخلُ لفهم العلاقة بين الجبهة والثورة, فإذا كان كل حزب له كامل الحرية في تحمل نتائج سلوكه السياسي, فمن باب أولى أن تسلك الجبهة ما تشاء, فقط أن لا تبني مواقفها على مواقف أحزاب أخرى».

إن إزاحة القناع تدريجياً كانت قد أملتها ظروف نأي جميع القوى السياسية عن المشاركة، أو التأييد.. إضافة إلى اتخاذ غالبيَّة الجماهير موقفاً حيادياً أقرب إلى السلبيَّة, كما أنها جاءت في إطار تحوُّل كلي، أزمعت السلطة الجديدة عليه, بغية عدم إتاحة الفرصة في أن تتحوَّل تلك المُقاطعة إلى فعل إيجابي، مُتمرِّد عليها, فقد جُوبهت حينذاك بأوَّل إضراب نفَّذته ”نقابة الأطباء“، في 26/11/1989, الأمر الذي دعاها إلى تنزيل المنهج القمعي، أو ”الصدمة الفجائية“ ترهيباً لكلِّ من تسوِّلُ له نفسه مُعارضتها, فأصدروا حكماً بالإعدام على نقيب الأطباء، د. مأمون محمد حسين, وحكماً بالسجن لمدة 15 عاماً على د. سيد محمد عبدالله بتاريخ 10/12/1989، في اليوم الذي يُصادف الاحتفال بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وفى ذلك حكمة!! ثم تواصل مُسلسَلُ العنف الدموي بإعدام [28] ضابطاً في شهر رمضان، وعشيَّة عيد الفطر, وتلك حكمة أخرى!! وابتدعت السُلطة ظاهرة المُعتقلات السريَّة التي سُمِّيت من فرط ما يجري في داخلها بـ”بيوت الأشباح“, مارست فيها شتى صنوف التعذيب على المُعارضين, حدَّ التورُّط في جرائم جنائيَّة مُتعدِّدة, على يد عصبة تخصَّصت في ذلك, وبإشرافٍ مُباشر من د. عوض الجاز، د. نافع علي نافع واللواء بكري حسن صالح.. كذلك شرعت السلطة في تصفية جهازي الخدمة المدنية والمؤسَّسة العسكرية، وبقية القوَّات النظامية (الشرطة، السجون، حرس الصيد وضباط الجمارك) بقوائم فصلٍ تعسفي مُتتالية، سُمِّيت بالإحالة للتقاعد ”للصالح العام“, وإحلال كوادرها، وآخرين ذوي انتماءاتٍ هشة، بغرض استمالتهم.

كانت هذه الإجراءات الترهيبية قد خلقت ”علاقة عصبية“, بين السُلطة الجديدة والمُواطنين, تواصل ليلها بنهارها، في ظلِّ القوانين المقيِّدة للحريَّات, ودبَّابات وعربات مجهزة شاهرة فوَّهات مدافعها، ومُرابطة -حتى يومنا هذا- في المواقع الإستراتيجية.. أيقنت السلطة أن القمع هو الوسيلة الوحيدة التي يُمكن أن توطِّد أركان حُكمها, فاستمرَّت فيه على مدى الأيام, لم يمل فيها الجلاَّد أنين الضحيَّة.

بعد يوم مُضنٍ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1989، جاء العميد ”فيصل مدني مُختار“ إلى منزله مساءً، وقبل أن يستجم قليلاً، جاءه ”الرائد إبراهيم شمس الدين“، و”العقيد الطيب إبراهيم“ (الشهير بـ”سيخة“)، وألحَّا عليه بالخروج معهُما، فطافا به على بعض نقاط التفتيش، وكذلك على المواقع التي خصِّصت كمُعتقلات، وانتهى بهم الطِوافُ إلى منزل في الرياض، فتِحَت لهم بوَّابته بعد إشارات معيَّنة، ”نورُ السيَّارة وجهازُ التنبيه“، وصعدوا إلى صالونٍ في الطابق الثاني.. وبعد فترة قصيرة، دخل عليهم السيد علي عثمان طه ود. عوض الجاز، وكانت هذه هي المرَّة الأولى التي يرى فيها العميد فيصل المذكورين.. ودار حديثٌ مقتضبٌ حول حُدود علاقة التنظيم بالانقلاب، أهمُّ ما فيه ما قاله الأول للأخير، فيما يشبه التوجيهات: «يا أخ فيصل، طبعاً الانقلاب ده نحن عملناه، وبالتالي نحن بنساعدكم بعمل قرارات وإجراءات، وما عليكم إلا التنفيذ فقط». وفي صباح اليوم التالي، قابل المعني بالحديث العميد عثمان أحمد حسن، والعقيد فيصل أبوصالح، وسرد لهم فحوى ما دار في لقاء الأمس، فقال له الثاني إن نفس هذه القصَّة تكرَّرت معه، واستغرب الأول الرواية، أو هكذا ادَّعى, لأنه لا يستطيع أن يقول بأنه كان من المُفترض أن يكون قائد الانقلاب نفسه، فذهب ثلاثتهم للعميد عمر البشير، الذي أنكر من جانبه خُضوع المجلس العسكري لأي تأثيراتٍ خارجية. واتضح أن السيناريو برمته كان مُرتباً, فقد جرى مع آخرين أيضاً.

تزامناً مع تلك الإجراءات، بدأت الروايات تتواترُ عن وجود ”مجلسٌ أربعيني“ يُديرُ شُئون الحكم من وراء ستار, وأخذت الروايات طابعاً أسطورياً, قامت السُلطة نفسها بتغذيتها على النهج الماسوني, في الوقت الذي لم يكن فيه هناك مجلسٌ أربعيني بعينِه, وكان ذلك عبارة عن ”المنظومة داخل النظام“، وهي المجموعة التي يقفُ على رأسها السيد علي عثمان طه, وتوسَّعت بعد نجاح الانقلاب، بالاعتماد على كوادر مُدرَّبة, كوَّنت أجهزة أمنيَّة ومهنيَّة مُتعدِّدة، لإحكام القبضة على مفاصل المُجتمع, وإخضاعه بالعنف والقهر والترويع، وفق المنهج المذكور من قبل.. وفي هذا الصدد، غذَّت السُلطة أيضاً روايات أخرى، مثل مخابئ سريَّة لأسلحة مُخزَّنة في الأحياء، تحسُّباً لساعة مُواجهة, وإن كانت الظاهرة حقيقية، لكن كان تضخيمها بغرض التخويف والترهيب.

في أوائل ديسمبر/كانون الأول 1989، ظلَّت سيِّدة مُرابطة في منزل العميد فيصل مدني، ورفضت أن تغادره ما لم تره، وعند وصوله في وقتٍ متأخر من المساء، قالت له السيدة إنها خالة شاب اسمه ”مجدي محجوب محمد أحمد“، ورَوَت له حكاية اعتقاله ومحاكمته: «...وأنهم قالوا حيعدموه».. وأضافت أنها قصدته، لأنهم أخبروها: «...بأنك رجل طيب و”ود ناس“».. فحاول العميد فيصل الاتصال بعدَّة أرقام لزملائه في المجلس العسكري، ولم يوفَّق.. غادر منزله إلى ضاحية الرياض, وقصد المنزل الذي سبق أن ذهب إليه مرَّة واحدة، واتَّبع نفس الطريقة، الإشارات وجهاز التنبيه، ففتِحت له البوَّابة.. اتضح لاحقاً أن هذا المنزل هو مقرُّ منظمة الدعوة الإسلامية.. وجد هناك اللواء الزبير محمد صالح ود. عوض الجاز، فأخبرهم بسبب مجيئه.. وبينما صمت الثاني، قال الأول: «يا فيصل يا أخي، الناس ديل مُساندِننا، ومشاكل البلد دي تقيلة، وفهَّمونا إنو قصَّة الاقتصاد دي ما بتتحلَّ إلا يكون في إجراءات عنيفة، كان إعدام ولا غيره»، وصمت.. ثمَّ قال الثاني بعدها، وباختصارٍ شديد: «الموضوع البتتكلَّم عنه ده انتهى بدري»!! وخرج المذكور لا يلوي على شيء .

كان لهذه الإجراءات وغيرها وجه آخر غير مرئي، في إطار النظام نفسه، و”المنظومة“ التي بداخله.. فالترابي ظلَّ في سجن كوبر، ضمن المُعتقلين الآخرين، لفترة ناهزت الستة أشهر, تحجَّج له خلالها المُخططون والمُنفذون, بأن إطالة بقائه لمزيدٍ من التمويه، غير عابئين بالروايات التي أجهضت منذ اليوم الأول السيناريو المزعوم.. أما ”المنظومة“ التي يقف على رأسها السيد علي عثمان طه, التي تغيَّرت وجوهاً ومهام, فبعد أن نجح سيناريو الانقلاب, أخذت زعيمُها العزَّة بالإثم، فتمدَّدت آماله وطموحاته وأحلامه, وراودته النفسُ الأمَّارة في زعامة التنظيم والنظام, والتي لن تتأتَّى إلاَّ بعملٍ دؤوب خلف الكواليس، يُزيحُ به الترابي عن موقعه.. وقد رسموا له دوراً أبوياً، بُغية أن يُمارس دور ”المُرشد“، كما في الثورة الإيرانية, فعمل الزعيم جاهداً مع الفئة التي اصطفاها، على ترتيب شئون النظام الجديد، في غضون الفترة التي قضاها المذكور في سجن كوبر, وهو لا يدري أن ما كان يجري خارج الأسوار، قطع شوطاً طويلاً, أصبح فيه ”النائبُ“ فاعلاً، و”الفاعلُ“ فعلاً مبنياً على المجهول!!

بعد قضائه شهور ”العدَّة السياسيَّة“ في سجن كوبر, خرج الترابي، وبدأ يلمسُ ابتعاد شئون الدولة الجديدة بعيداً عن شواطئه.. فتعمَّقت شكوكه وهواجسه تجاه العسكريِّين, فقام في العام 1992 بحلِّ المجلس العسكري, ظناً منه أن ذلك سيقطعُ دابر الفتنة.. ومرة أخرى، لم تمتد ظنونه لأبعد من ذلك, ولأنه -”بعناده“ المعروف- أراد أن يكون المُتحكِّم الوحيد, في وسطٍ ذاقَ فيه الأخيرون طعم السُلطة.. كان من الطبيعي، أن ينشأ توتر دائم, ورغم أن صراعاً في طوره الجنيني بدأ يتبلور - دون حدَّة أو ضجة- وراء الكواليس، إلاَّ أن الطرفين استطاعا إخفاءه لبعض الوقت.

صاحَبَ ذلك دخولُ حدثين مُهمَّين, أربكا سياسة التخفي، وسارعا في كشف قناع السُلطة نهائياً، على المستويين الداخلي والخارجي, وانعكسا من جهة أخرى على صِراع الكواليس, وفيه تسنَّى للترابي الإمساك بخيوط السلطة، وإعادتها إلى حياضه.
• الأول: عندما حدث الغزوُ العراقي لدولة الكويت، في أغسطس/آب 1990, اتخذت الطغمة الحاكمة في السودان قرارها بالانحياز للدولة الغازية, وكان ذلك تنفيذاً لقرارٍ من التنظيم الدولي للحركة الإسلامية, وللترابي فيه نفوذ ودور مؤثر. وكما هو معروف، فقد بنى التنظيم حساباته, ليس حباً في نظام صدَّام حسين، وإنما استند إلى تقديرات إرث القوميَّة العربيَّة، التي عَصَفَ بها الغزو, فتدافعوا نحو بغداد، وأعلنوا تأييداً مُطلقاً للنظام العراقي، في السرِّ والعلن, وهم يعلمون أنه يخوضُ معركة خاسرة.. وشرعوا في تعبئة المُواطنين في العواصم العربية والإسلامية، بتظاهراتٍ مُتصلة، وبشعارات إسلامية، أقنعوا النظام العراقي سلفا بتبنِّيها, مُوقنين بأن تلك التعبئة التي قدحوا زنادها، ستحقق لهم وجوداً بين الجماهير من المحيط إلى الخليج.. وفى ذلك، زايدت الطغمة الحاكمة في الخرطوم, برسالة فحواها أن نموذج الدولة الإسلامية المُرتجى قد وَضَعَ لبناته في السُودان.

نتيجة لكل ذلك, حدثت القطيعة الكاملة بين النظام والحكومة المصريَّة, أكثر الأطراف التي كانت مُؤيِّدة وداعمة له، منذ لحظة استيلائه على السلطة, وأصبحت الدولة المصرية فيما بعد أُولى ساحاته في تطبيق إستراتيجية ”تصدير الثورة الأصولية“. كذلك أورَث الانحياز إلى جانب العراق السلطة مقاطعة إقليمية ودولية شبه كاملتين, وانعكست بصورة أساسيَّة في المجال الاقتصادي, لكن الترابي -من خلال الرسالة الموجَّهة للتنظيم الدولي- عَمِلَ على سدِّ الفجوة الاقتصادية, ونجح في استدرار دعمه, واستقطاب كوادر إسلامية للاستثمار في السُودان. ثم خطا الترابي خطوة أخرى، بتوسيع قاعدة التنظيم العالمي من خلال فكرة ما أسماه بـ”المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي“, وجمع شتاتاً مُبعثراً في أرجاء الدنيا، لتأسيس الكيان الجديد, واجتمعوا في الخرطوم في أبريل/نيسان 1991، وانتخبوه أميناً عاماً.



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 10-12-2006, 11:55 PM   #[6]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

(4)


اقتباس:
أيضاً لا ينبغي أن يُشكل هذا الأمر أي مفاجأة, فالسيِّدان تصالحا مع نفسيهما وواقعهما.. فمن المؤكد أن النظام الديمقراطي -بغضِّ النظر عن المناورات الحزبية- إن لم يكن متقاطعاً مع البنية الطائفية التي يستند عليها الكيانان, فهو يأتي خصماً عليهما، بما يمكن أن يشعُّه من تنوير وتطوير سياسيٍ وثقافي وفكري, في حياة الفرد خاصة، والمُجتمع بصفة عامة.. غير أن المُهم، أن الحدث الذي مَزَجَ ”القداسة“ بـ”السياسة“ كرَّس الظاهرة، التي أصبحت وبالاً على السُودان وأهله.


اقتباس:
في إطار صراع الكواليس، هدف الترابي من وراء كل ذلك، إلى تأكيد زعامته للحاكمين بأنه ”المُخلِّص“ الذي يُمكنُ الاعتماد عليه في المُلمَّات, ونظراً لأن الآخرين لا تتعدَّى علاقاتهم الحُدود الجغرافية للسُودان, فقد اختار ميداناً لا يستطيع أي أحدٍ مِمَّن يُمكنُ أن تسوِّل له نفسه منازعته الزعامة, منافسته فيه.. وبعد اختياره أميناً عاماً للتنظيم الجديد, أراد الترابي تسجيل نقطة إضافية تعزِّز وجوده، على مستوى السلطة، ومستوى التنظيم, فاختار ميداناً آخر، كان يُمثل مُعضلة حقيقية للحركة الإسلامية العالمية, فاختار أفغانستان، لأن المُتعاركين فيها ”إخوة برباط العقيدة“, فغادرَ إلى بيشاور منتصف يوليو/تموز1991، للتوسُّط بين ”المجاهدين“ الأفغان, وإيقاف بحور الدم المُنهمرة من كل الأطراف.. وفي هذه الزيارة، التقى للمرة الأولى أسامة بن لادن، وآخرين من المتطرِّفين الإسلاميين, ودعاهم لزيارة السودان ”ضيوفاً مُقيمين“, وقد لاقت الدعوة هوىً في نفوسهم، فلبُّوها مُهْطِعين.

كذلك استخدم الترابي علاقاته في تأسيس علاقة خاصة وداعمة، بين طهران والخرطوم.. وقبل أن يطوي العام آخر أيامه، كان الرئيسُ الإيراني هاشمي رافسنجاني قد حلَّ زائراً السُودان في 13/12/1991، على رأس وفد ضخم، مُكوَّن من 157 شخصاً بينهم أكثر من 80 ضابطاً في الجيش والاستخبارات, قضوا ثلاثة أيام في الخرطوم, وتوطدت العلاقة بمشاريع مُختلفة ومُتعدِّدة، بعضها أثار جدلاً.. وكانت تلك الزيارة مدعاة للمُجتمع الدولي بوضع العلاقة في عين العاصفة, حتى أصبح التحلحُل منها صعباً ومكلِّفاً فيما بعد.

• ثانياً: أما التطوُّر الثاني، الذي استمر الترابي خلاله في إرسال إشاراته لزمرة الكواليس, فقد تمثل في التحوُّلات الدراماتيكية التي حدثت في منطقة القرن الأفريقي، مُستهل العام 1991, إذ انهار نظام سِياد برِّي في الصومال في فبراير/شباط1991, الأمر الذي أغرى التنظيم الجديد، ”المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي“، الذي يقفُ على رأسِه الترابي، بدخول ”المستنقع“ الصُومالي، بغرض تصدير الأصوليَّة الدينيَّة, مُستنداً إلى مُكوِّنات المُجتمع الصومالي في توافر العناصر الروحيَّة العقائدية.. وهو القطر العربي الأفريقي الوحيد الذي يدينُ جميع سكَّانه بالإسلام، على هدى مذهبٍ واحد، هو المذهبُ الشافعي.. كذلك انهار نظام مَنغِستو هيلاماريام في إثيوبيا في مايو/أيار1991, حيث تتوافرُ ذات العناصر، وإن بدرجة نسبيَّة، إذ يُقدَّر عدد المُسلمين فيها بأكثر من 65% من جملة السكان، الذين يناهزون الستين مليوناً, إلاَّ أن الإحصاء الرسمي يُقلِّلُ من تلك النسبة.. ثم برزت أيضاً إريتريا كدولة وليدة في المنطقة، بعد تحرُّرِها من إثيوبيا في مايو/أيار 1991، وكذا تشيرُ الإحصاءات الرسمية فيها إلى أن شُعُوبها تتناصفُ الإسلام والمسيحيَّة. ومِمَّا يجدُر ذِكرُه، أن الجبهة الإسلامية، وتحديداً زعيمها الترابي، كانت له علاقاتٌ وطيدة ومُبكِّرة مع قادة النظامين الجديدين ”الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا“ في أديس أبابا، و”الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا“ في أسمرا, وذلك أثناء حقبة الديمقراطية الثالثة في السُودان, وقد أسقطت تلك العلاقة الخلفيَّة الماركسية للجبهتين معاً, وتوطدت أكثر بعد استلام الجبهة الإسلامية مقاليد السُلطة, وقبيل وصول الجبهتين لسُدة الحكم, وذلك من خلال تقديم دعم عسكري ولوجستي لهُما، كان له أثره الفاعل في المساعدة على سُقوط نظام مَنغِستو.. ومن جهة أخرى، كانت التحوُّلات في إثيوبيا قد أصابت الحركة الشعبية لتحرير السودان في مقتل, وتغيَّرت تبعاً لذلك استراتيجية النظام نحو جنوب السُودان, من ”مزاج“ التهيؤ والاستعداد، والعمل على فصله, إلى كيانٍ يُمكن إخضاعه - تبعا لتلك التحوُّلات- بالقوة العسكريَّة, وأسلمَته ليُصبِح جسراً أمام التمدُّد الأصولي نحو قلب القارة الأفريقيَّة. وعموماً، نظر التنظيمُ الجديد لكل تلك التحوُّلات باعتبارها ساحة للتحرُّك في أوساط نحو خمسين مليون مُسلم في منطقة القرن الأفريقي, ولم يستصعب الغاية, حتى وإن طال السفر.

مضى الترابي في توجيه رسائله المُباشرة وغير المُباشرة لعدّة أطراف, أهمُّها جماعة ”صراع الكواليس“.. واختار في الخطوة التالية هدفاً توخى فيه تأكيد ”عالَميَّته“, فذهب إلى واشنطن لمُحاورة القطب الذي أصبح متسيِّداً الشأن الدولي، فيما سُمِّي بـ”النظام العالمي الجديد“.. أعدَّ له مجلس النوَّاب الأمريكي ”الكونجرس“ جلسة استماع في مايو/أيار 1992 لمُحاورته, ورغم الاتهامات التي انهالت عليه، وكانت دفوعاته حولها ضعيفة, إلاَّ أن الترابي، بميكافيليته المعهودة، كان سعيداً بالمُناسبة، والتي كانت بزعمه - وفق وقائع محضر الجلسة- رسالة لمن يهُمُّه الأمر. ويذكر أن الادارة الامريكية كانت قلقة بشأن علاقة النظام بدوائر ارهابيه, لكنها لا تملك دليلاً كافياً, وفق ما أكده سفيرها حينذاك في الخرطوم «الحكومة السودانية كانت تنكر علاقتها بالارهاب, وكنت أردد أن واشنطن لديها أدلة, وسئلت عن أدلة للأسف لم تملكني واشنطن معلومة أستطيع أن أطلق بها يدي وأضغط على الحكومة, مع أنني كنت على يقين بأن هناك علاقة مع بعض الاطراف في الحكومة ومنظمات, مثل حماس وحزب الله والجماعة الاسلامية وحركة الجهاد الاسلامية لتحرير فلسطين».

لم يكن ختامُ تلك الزيارة مِسكاً بالنسبة له, إذ تعرَّض لاعتداء من مُواطن سُوداني مُقيم في كندا ”هاشم بدرالدين“, وبمنطق الغرائز الإنسانية، لم يكن غريباً أن يستدعي الحادث شماتة بعض المُعارضين.. إلاَّ أن الغريب في الأمر حقاً أن بعض جماعة ”المنظومة“ رأت أن الأقدار وفَّرت لها فرصة في استثمار مأساويَّة الحدث، وتجييره لمصالحها, وذلك بالاستمرار في ترتيب شئون الحكم، إبان الفترة التي قضاها مُستشفياً.. ولاحقاً، زلَّ لسانُ أحدهم، وأفصح عن تلك المشاعر السالبة، بالتشكيك في قواهُ العقلية.

خلال هذا وذاك, كان الصراعُ -أو الترابي نفسه- قد دفع السُلطة للكشف تماماً عن وجهها الثيوقراطي, وشرعت في تطبيق برنامج الجبهة الإسلاميَّة، وتنزيله على أرض الواقع, باستخدام الشعارات البرَّاقة، دون مضمونٍ حقيقي, واستعمال الخطاب الديني بكثافة, وتفسير غير المألوف للناس في مناحي حيواتهم المُختلفة.. بفقه الضرورة حيناً, وبشيء من الديماجوجية أحياناً أُخَر.. وفي هذا الصدد، فقد أدهش الفريق عمر البشير زميلة صحفية، سألته عن ظاهرة حظر التجوُّل التي امتدَّت لأكثر من ثلاث سنوات من عمر النظام، فقال لها:
= حظر التجول رغبة مفروضة علينا من الشعب, فقد وجد الشعب الاستقرار الأسري فيه, فالأبناء والأزواج يعودون إلى بيوتهم باكراً، وعندما جئنا إلى الحكم، كان هناك فراغٌ أمني في الخرطوم, نلاحظ كيف كان الناس يضعون السلك الشائك حول بيوتهم، لحماية أنفسهم من زوَّار الليل ”الحرامية“، وحظر التجوُّل جعل الناس مُطمئنين، ينامون الليل إلى الصبح، بلا إزعاج الحرامية.
• هل تتكلم بجدية سيادة الرئيس؟
= أنا أتكلم جدي, وأنا أطلب منك أن تأتي إلى السودان وتتجولي في الشارع السُوداني لاستفتاء الناس في شأن حظر التجول, فإذا لم يكن هو رغبة شعبية، خصوصاً من العنصر النسائي, فنحنُ نلغيه في اليوم التالي.
• لا يمكن أن أتصوَّر أن أي شعب يريد أن يفرض على نفسه حظر التجوُّل, هذا كلامٌ بعيد عن المنطق؟
= تعالي الخرطوم إذن.. أطلبُ منك أن تأتي إلى الخرطوم وتستفتي الشعب السُوداني، خصوصاً العنصر النسائي مثلك, إن كان يريد رفع حظر التجوُّل أم لا. نحن متأكدون أن أكثر قرار سيكون غير مقبول لدى الشعب السُوداني هو رفع حظر التجول.

الغريب أن الرئيس الذي حاكى باستلامه السُلطة الذين عناهم بتسوُّر حيطان المنازل ليلاً، كان يُدلي بآرائه تلك في ردهات الهيئة الأمَمِيَّة في قلب مدينة نيويورك, والتي واحدة مِن مهام تأسيسها، رعاية حقوق الإنسان في العالم.

غير أنه لم يكُن وحده آنذاك، فقد تواصل مُسلسلُ الدهشة.. ففي المجال الاقتصادي، شاء آخرون إحياء عظام ”ماري أنطوانيت“ وهي رميمٌ.. فردَّاً على سؤالٍ عن الغرض من الإجراءات الماليَّة التي أثارت سُخط المُواطنين، قال أحدهُم: «إن المُواطن العادي في قمة السعادة من تلك الإجراءات, وكلُّ ما يُشاعُ في هذا الصدد من حديثِ الأغنياء».. وجاراهُ ثانٍ: «الشعبُ السُوداني يتفهَّم تماماً ما حدث ويحدُث، وأعرفُ أن المُواطن السُوداني الذي يحصلُ على ثلاث وجبات، يُحاوِلُ توفير واحدة منها للدفاع عن البلاد».. وبزَّهُم ثالثٌ: «إنهم في الخارج يتساءلون، لماذا التزم السودانيون الهدوء, رغم المُعاناة والضيق، وارتفاع تكاليف المعيشة، ولم يتضجَّروا أو يندفعوا في المُظاهرات كما هو حالهم كلما أرادوا التعبير عن السُخط والغضب, وقد قال لي نقابيٌ قديم، إن السبب وراء هذه الظاهرة هو الاقتناع بطهارة الحكم».. ثم زاد: «إن السُودانيِّين لا يثورون بسبب الفقر أو عدم مقدرتهم على شراء اللحوم, ولكن يحدُث ذلك إذا حدث الفساد والانحراف، أو إذا أُهينوا في تفسير صمتهم, والشعب السُوداني يمنحُ فرصته للجديَّة، ونظامُ الإنقاذ يلمسُ الأوتار النفسيَّة، ويضعُ يده على مزاج وقناعات الشخصيَّة السُودانيَّة».. ثم ضربَ مثلاً بمدينة ”ثائرة“ من مُدُن السُودان: «فمدينة عطبرة، وهي عاصمة العمَّال في السودان، ظلت تاريخياً تتحرَّك وتتمرَّد ضد أقل القرارات تأثيراً على حياتها. الآن بلغ سعر كيلو اللحم خمسمائة جنية, ومع ذلك فإن الحياة في المدينة تمضي طبيعيَّة». وختم آخرٌ بمدحٍ في مكان ذم: «لا أعتقدُ أن الشعب السُوداني مُغفل أو ضعيف إلى درجة تأييد هذه الحكومة قهراً وقمعاً على مدى10 سنوات».. على الرغم من أن الأخير هذا ناقض حديثه بعد أقل من عامين, إثر تجرُّعه من الكأس نفسها، المرارة التي أذاقتها الإنقاذ للذين فسَّر المذكور صمتهم بالرضى, فأصبح يدعوهم جهراً للإطاحة بالنظام؟!

مع ذلك، فإن النماذج سالفة الذكر، مع ملاحظة أن جميعها نشِرَت خارج السُودان في ظلِّ تشدُّد السُلطة بعدم دخول أي مطبوعة للبلاد, تشحذ الأذهان للتأمُّل في ظاهرة استطالة سنوات الإنقاذ, رغم الواقع الذي يدحضُ كلَّ حرف نطق به المذكورون أعلاه.

كانت الأزمة الاقتصادية كلما اشتدت، وزادت ضيقاً ومعاناة على المُواطنين, عصَبَت السُلطة بطونهم بخطابٍ وشعارات لا تغني ولا تسمِن ولا تشبِعُ مِن جوعٍ، مثال: «لقد حدَّدنا أهدافنا ومبادئنا, فإذا كان الهدف هو الإسلام، حسب إيماننا، فإن ما نطبقه الآن في السُودان هو أمرٌ من ربَنا سُبحانه وتعالى, فلا يمكن لنا أن نحاول أن نُرضي البشر لنُغضِبَ الله سُبحانه وتعالي, مهما كان الأمر».. وقوله أيضاً: «الاقتصاد يُعاني اليوم لأننا حمَّلناه فاتورة الشريعة, وهل كان الناس يتوقعون منا أن نبيع ديننا بدراهم معدودات».

ظلَّت ألسُن مبعوثي العناية الإلهيَّة لأهل السُودان ترسِلُ مثل هذه ”الصواعق“ الشعاراتيَّة, في حين أن المُخاطبين يعلمون بأنهم جُبِلوا على دين الإسلام بالفِطرة.. يبدأون يومهُم بالبَسمَلة، ويختمونه بالحوقلة, وهم ثاني ثلاثة في الأمَّة الإسلاميَّة جمعاء مِمَّن اعتادوا الصلاة على المُصطفى ”صلعم“ كلَّما خرجت مِن جوفهم زفرة حرَّى، تدهمهم حينما يسمعون مثل ذلك اللغو مِن الحديث.. ولم يدَّع أحدٌ منهم أنه أراد أن يبيع دينه بدراهم، كثرُت أو قلَّت, وإنما قالوا: نريدُ نظاماً يكفلُ لنا حريَّاتنا الأساسيَّة.. يُطعِمُنا مِن جوعٍ, ويسقينا مِن ظمأ, ويؤمِّننا مِن خوفٍ.

خطابُ التعمية شمِلَ أيضاً المجال السياسي، فعندما تسألُ السُلطة عن مُصادرتها الحريَّات العامة, تلجأ الطغمة الحاكمة إلى فقه المقارنات البائس.. فردَّاً على سؤالٍ حول ما إذا كان النظام يقبل بالتعدُّدية، ومُشاركة المُعارضة في الحكومة، يكون الرد: «لماذا تتحدَّثين عن التعدُّدية في السُودان وحدَهُ, وأين التعدُّدية في العالم العربي؟؟».. أي أن افتراض غيابها في العالم المذكور، يُبرِّر غيابها عن السُودان.. وأحياناً يأتي المُبرِّر نفسه -بعد عولمته- بمنطق الوصاية, علماً بأن قائله كان يومذاك في قمَّة مجده الشخصي، قبل أن ينقلب عليه حواريِّوه: «إن الذي يحدُثُ عندنا باسم التعدديَّة، أو الديمقراطية الغربية, هو أقربُ إلى السُلطة الديماجوجية، أو الغوغائية, التي تقود حفنة من الأفراد والبيوتات إلى السُلطة بدون مُمارسة الشورى الحقيقيَّة, لا في داخل الحزب نفسه، ولا في داخل القطر عامة».. والمُفارقة، أنه حتى بعدما انقلبوا عليه، لم تحُل المِحنة عُقدة من لسانه، ليقول للملأ إن المُغامرة العسكرية المؤدلجة صادرَت حق الشعب في خياراته السياسية الطبيعية.

استكمالاً للدائرة، فقد طالت مُمارساتُ الإنقاذ قطاعات أخرى, الأمر الذي استنفر أحد الكتاب السياسيِّين، فكتب مُستنهضاً هِمم المُتقاعسين، لجعل مُمارسات السُلطة فيما أسماه بـ”أم الكبائر“، منطلقاً للإطاحة بها: «إنني أرى أن النظام الأصولي العسكري أبشعُ نظام حكم في البلاد منذ أن تكوَّن السُودان -بشكلٍ عام- على يد محمد علي باشا القرن الماضي, ومن أعظم الكبائر في سِجلِّ النظام، مُعاداته للآداب والفنون والفكر, ولهذا ينبغي تنسيق كل الطاقات لإطاحة الديكتاتورية، ووضع حدٍ للتدمير الذي تمارسه على جميع الأصعدة».. بالرغم من أن الداعي لم يمضِ شخصياً – بقلمه- في ذات الطريق، للوصول بالدعوة إلى نهاياتها المنطقية.

بَيْدَ أنَّ هذه المُمارسات طارت شظاياها، وأصابت آخرين, وكان لها انعكاساتها على مستوى الإقليم, ويبدو أنها -رغم سلبيتها- كانت بمثابة بروباجاندا ”دعاية“ لصالح الترابي، في صراعاته الخفية.. فقد جاء أول اتهام من بلد نَمذَجَت الجبهة الإسلاميَّة تجربته، واعتبرتها إحدى منطلقاتها في الانقلاب.. فبعد سلسلة مُظاهراتٍ واضطرابات شهدتها العاصمة الجزائرية, صرَّح مسؤولون لوكالة الأنباء الرسمية بتاريخ 31/5/1991: «بتورُّط نظام الجبهة الإسلامية السُودانيَّة في الشئون الداخلية لبلادهم».. ثم أعقبتها تونس على لسان رئيسها، زين العابدين بن علي، في الليموند الفرنسية بتاريخ 12/7/1991, بنفس الاتهام، إلى أن سحبت سفيرها من الخرطوم في 15/10/1991, حيث كان ”راشد الغنوشي“ زعيم ”حركة النهضة“ من بين المشاركين في فعاليات المؤتمر الشعبي الإسلامي, وبموجب توجيهاتٍ من الترابي، مُنِحَ جواز سَفَرٍ سوداني ”دبلوماسي“ في مايو/أيار 1991!! وعندما قامت السُلطات التونسيَّة بنشر نسخة مُصوَّرة منه, اعترف الترابي في تصريحاتٍ صحافية بتاريخ 18/10/1991، وقال: «إن ذلك جزءٌ من التقاليد السُودانيَّة في مُساعدة اللاجئين».. وتلاهُما الرئيس المِصري حُسني مُبارَك في الحياة 16/7/1991, بشيء مِن السُخرية: «البشير راجل طيِّب وأمير، بس الثاني اللي بيلعب مِن الخلف، ونحن فاهمين»، وأضاف: «الترابي هو الذي يعمل المشاكل، وفاهم بأنه سينشر مبادئه الهدَّامة في كل منطقة من العالم, ويلعب على دول المغرب العربي».. ثم مؤكداً في موقع إعلامي آخر بأنه يملكُ: «أدلَّة دامغة على تورُّط نظام الجبهة في أحداث الجزائر».

الذين تسابقوا في تأكيدات تورُّط النظام، والترابي بصفة خاصة, لو كانوا يعلمون صراع الكواليس، لأدركوا أن الرجُل حينها كان سيسعَدُ بالمزيد، حتى لو كالوا له أطناناً منه.. وكان حينما يقول: «لا دور لي في إدارة الحكم, ولكن بالضرورة لي دور فكري عام»، فإن تلك من الرسائل المعنيَّة بها ”زُمرة الكواليس“, وبعضهُم يقرؤها جيداً، أكثر من أصحاب القرار في دول الإقليم، التي استهدفتها طموحاته, وليس المشروع كما تخيَّلوا.. وبعد تأكيد الترابي زعامته مُجدَّداً، كان بعضُ أفراد ”الزمرة“ نفسها قد استكان, وبعضُها الآخر رضخ لمشيئته وزعامته, فأصبحت ”المنشية“ مَحَجًّاً لكل رجالات الدولة, بعد أن صارت القراراتُ، صغيرها وكبيرها، يُصدِرُها ”الشيخ الدكتور“ مِن دارِه تلك، دون قرطاسٍ، أو قلمٍ يُدمي بنانه.

غير أن للشفاهة تفسيراً آخر في مُمارسات ”الشيخ الدكتور“, فالمُتربِّصون به تورَّطوا في انتهاكات جنائية متعدِّدة على المستوى الداخلي (التعذيب, التصفيات الجسدية, الإعدامات) وأيضاً على المستوى الخارجي لاحقاً.. وقد اكتفى في جميعها بحُدود العِلم، عِلماً بأنَّ حُدود العِلم هي أيضاً نوعٌ من التواطؤ، أو المشاركة النسبيَّة في المسؤولية.. لم يكن ذلك اجتناباً للشرِّ، بقدر ما كان الترابي يُدرِكُ، بدهائه ومكرِه المعروفين، أن ثمَّة لحظة فاصلة يُحتملُ حدوثها.

عاد الترابي بعد شفائه لمُمارسة دوره, في حين تضاءلت غايات ”زمرة الكواليس“, انحناءً للعاصفة، أو استسلاماً لواقعٍ أحكم الشيخُ الدكتور قبضته عليه.. غير أنه أقدم في العام 1993 على خطأ إستراتيجي في إطار الصراع, حيث أصدر مُغترَّاً ”فرماناً“ يقضي بحلِّ تنظيم الجبهة، لعدم جدواه، بعد أن أصبحت نظاماً: «سعيتُ لتوسيع دائرة الحزب كلَّما اكتشفتُ ازدياد الذين يُؤمنون بما أدعو إليه, للدرجة التي وصلتُ فيها إلى قناعة كاملة بأنَّه ليس هناك ما تسَمَّى بالجبهة القومية الإسلامية, وارتضينا على رؤوس الأشهاد أنه لو قدِّر لهذه البلاد أن تعود مرة أخرى إلى نظام أحزاب، فإنني لن أكون عضواً في حزبٍ يحمل اسم الجبهة الإسلامية، أو غيرها من الأحزاب». رغم أن ذلك قولٌ يدُلُّ على أن ذكاءه لم يُسعفه في قراءة صحائف المُستقبل قراءة صحيحة، فالأشهاد الذين خبروا ميكافيليته يعلمون أنه الآن رئيس حزب المؤتمر الشعبي.. وتبع ذلك حلُّ هيئة مجلس الشورى ”بالتجاهُل“، إلى أن غابت في زحمة الأحداث.. وبهاتين الخطوتين، يبدو أن الترابي اقتنع بأن الكرة قد استقرَّت تماماً في ملعبه, بلا رقيبٍ أو حسيب, فوجَّه أبصاره إلى ما خلف الحُدود, مُتوخياً دوراً أمَمِيَّاً، بغرورٍ شديد: «إنه نموذج سُوداني سنجرِّبه ونحسنه، ثم نهديه إلى المُسلمين, ثم بعد ذلك إلى الغرب».

في الفصلين الثالث والخامس، سنتابع الأحداث التي أدَّت إلى بداية التصدُّع بين الترابي و”المنظومة“, إلى أن اختار كلُّ طرفٍ المُضي في طريق.








المَشْهَدُ الثالِث: المُترَبصُون والهارِبُون

إذن، فقد مثلت الساعة الثانية من صبيحة الجمعة 30/6/1989 حداً فاصلاً في التاريخ السياسي السُوداني الحديث, بين نظامين نقيضين.. ديمقراطية -بغض النظر عن مُمارسة قاصرة أوصلتها إلى شيخوخة مبكرة- وانقلابٌ عسكري دشَّن لنظامٍ ديكتاتوري، أخفى هويته الثيوقراطية، ولو إلى حين.

لم يكن سيناريو الانقلاب نفسه مُرهقاً في التنفيذ, كما ذكرنا في المشهد السابق, بل ربما كان الأيسر في سلسلة ما يربو على الثلاثين انقلاباً -ناجحاً وفاشلاً- خرجت جميعها من رحم المؤسَّسة العسكرية, على مدى نصف قرنٍ منذ استقلال السُودان في العام1956.

ولسنا بصدد إعادة تسجيل تفاصيل ما وثقناه من قبل، حول وقائع الانقلاب, وزاد عليها آخرون -مع قلتها- بتوثيقٍ مُحكم أيضاً، لكننا نستزيد هنا بتسليط الضوء على بعض المفاهيم المُلتبسة التي سيَّلت فيها الأقلام أحباراً.

أكد كل الذين كتبوا عن هذه الفترة، أن الجبهة الإسلامية استخدمت خدعة ماكرة لتنفيذ سيناريو الانقلاب, بترويج أنه تمَّ باسم القوَّات المُسلحة، وهيئة قيادتها.. والذين يقفون عند هذا الحد في تفسير الملابسات، يُرسِّخون -من حيث لا يدرون- لخطأ أكبر, فذلك يعني لو أن الانقلاب قامت به هيئة القيادة، لأصبح عملاً محموداً ومُباركاً.. وواقع الأمر، أن كلا العملين مذموم, سواءٌ كان السيناريو الذي نجح، أو السيناريو الذي كان في مخيِّلة بعض أعضاء هيئة القيادة، وشريحة كبيرة من الضباط, أكدته المُداولات والمناخ الذي وُلدت فيه ”المُذكرة“.. وعليه، فما من منطق، أو سبب، يجعل البعض يتحسَّر على انقلاب لم يخرج من عباءة هيئة القيادة.. بحسب كونه ”انقلاب أخيار“.. مثلما لا ينبغي أن يشكل الانقلاب -الذي نجح مفاجأة للبعض- باعتبار أنه ”انقلاب أشرار“، لأن المتابعين لمسيرة تنظيم الجبهة الإسلامية يعلمون أن الأمر برمَّته يتَّسق مع أفكاره المُناهضة للديمقراطية.. وهي أفكارٌ لم تكن حبيسة الصدور, وإنما عبَّرت عن نفسها على لسان قادتها مراراً وتكراراً.

من جهة أخرى, يُذكر أن مثل هذا الفهم المُلتبس، في تفسير الفعل ورد الفعل في الواقع السياسي السُوداني، تكرَّرت مشاهده.. فعندما ضاق صدر السيد عبدالله خليل، رئيس الوزراء خلال الحقبة الديمقراطية الأولى، وأمين عام حزب الأمة أيضاً, بالمُناورات السياسية الحزبية، قدَّم النظام الديمقراطي بأكمله -أيا كان فجوره وتقواه- قرباناً للعسكريين.. قام بكرمٍ طائي بتسليم السُلطة للفريق إبراهيم عبود، وزمرته من كبار الضباط، وعلى الفور قام السيدان عبدالرحمن المهدي، زعيم طائفة الأنصار، وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية, بمُباركة الانقلاب، وإضفاء الشرعية الواقعية عليه، قبل أن يضيع صوت الفريق عبود في غياهب الصمت بعد إلقائه ”البيان رقم واحد“. والمُدهش أن تجد الوقائع التاريخية المثبتة تفسيراً عند السيد الصادق المهدي, ويعزي ما حدث إلى أنه/ «نتيجة سوء تفاهم بين سكرتير حزب الأمَّة السيد عبدالله خليل ورئيسه وراعيه السيد عبدالرحمن المهدي». ويعلم السيد الصادق أن بيان الأخير، الذي سمي فيه الانقلاب بـ«يوم الخلاص»، و«الثورة المباركة»، واضحٌ لا لبس فيه.. بل إنه ناب نفسه عن العسكريين قبل أن يُباشروا مسئولياتهم، فقال: «لن يسمحوا بالتردد والفوضى والفساد والعبث في هذه البلاد».. وطلب من أبناء الأمة المكلومة أن تذهب إلى: «أعمالها في هدوء وثقة لتأييد رجال الثورة».. فأين سوء التفاهم هنا، كما تساءل كاتب قبلنا؟!

أيضاً لا ينبغي أن يُشكل هذا الأمر أي مفاجأة, فالسيِّدان تصالحا مع نفسيهما وواقعهما.. فمن المؤكد أن النظام الديمقراطي -بغضِّ النظر عن المناورات الحزبية- إن لم يكن متقاطعاً مع البنية الطائفية التي يستند عليها الكيانان, فهو يأتي خصماً عليهما، بما يمكن أن يشعُّه من تنوير وتطوير سياسيٍ وثقافي وفكري, في حياة الفرد خاصة، والمُجتمع بصفة عامة.. غير أن المُهم، أن الحدث الذي مَزَجَ ”القداسة“ بـ”السياسة“ كرَّس الظاهرة، التي أصبحت وبالاً على السُودان وأهله.

والغريب أن الظاهرة كرَّست بدورها للفهم الخاطئ في دور المُؤسَّسة العسكرية, التي مُنِحَت حق الوصاية على الشعب في اختياراته السياسية, إدعاء أن القوات المسلحة مناط بها حفظ الأمن، متى ما لاح انفراط عقده في الأفق.. وإعادة الاستقرار، متى ما ظهر اضطراب ركائزه على الأرض.. وهى المرجعية التي يلجأ إليها الانقلابيون، كلما تَسنى لهم الإمساك بخناق السُلطة, وقد وجدت سنداً من مُختلف القوى السياسية، بذرائع مُختلفة، مثلما ذهب في ذلك حزب الأمَّة وأمينه العام في الانقلاب الأول.. وتكرَّر المشهد في الديمقراطية الثانية, عندما شعر الحزب الشيوعي بأن الأرض أصبحت تميد تحت قدميه, وأن بعض القوى السياسية شَرَعَت في تجهيز ”حبال المسد“ لتلفها حول رقبته، رغم أنف النظام الديمقراطي، لم يجد الحزب الشيوعي حينها حرجاً في مساندة الانقلاب العسكري الثاني في 25 مايو من العام 1969، ويجد تبريراً غريباً من ناشط طليعي في الحزب، قال: «ونذكر أن ذلك تمّ والحزب محلول, ونشاطه محظور, وصحفه موقوفة, وممتلكاته مصادرة, ورغم أنف الحقيقة والتاريخ والقضاء المستقل, فما الذي كان مطلوباً منه إذن؟ يُدعى إلى الحرب ولا يُدعى إلى المنادمة».. ولعل الإجابة المُختصرة تؤكد أن تلك ”أدواء“ لا ينبغي أن يكون ”دواؤها“ انقلاباً, فذلك يعني أن الحزب استيأس، أو استصعب - سيَّان- تعبئة الجماهير، وهو الحق الطبيعي المشروع في المُمارسة السياسية, إن لم يكن لسواد عيون الحزب، فللحفاظ على مُكتسباته الديمقراطية بحدٍ أدنى.. ودوننا تجربة الحزب الرائدة في الشعار الذي طرحه في العام 1961، ”الإضراب السياسي والعصيان المدني“، والذي أنتجت تراكماته ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964.. والمُفارقة حقاً، أن يُؤيِّد، أو يصنع، أو يُساند الحزب انقلاب 1969، بوصفه انقلاباً تقدمياً, في حين أنه كان الاستثناء الوحيد بين القوى السياسية في مُعارضة انقلاب 1958 -بيان 17/11/1958- بوصفه انقلاباً رجعياً.

ولأن ما بُنِي على خطأ، بالضرورة يؤدي إلى نتائج خاطئة أيضاً, فالتجربة التي حاولت أدبيات الحزب الشيوعي التحايل عليها ابتداءً, بأنها ”تهمة لا ينكرها، وشرفٌ لا يدَّعيه“.. كان الحزب قد تجرَّع سُمومها قبل الآخرين, بالانقسام التنظيمي في العام 1970، والذي انعكس سلباً على نمُوِّه وتطوُّره السياسي, وتجلَّت إفرازاته في لجوء الحزب مرة أخرى إلى ”ثأر سياسي“ عَبْرَ انقلابٍ عسكري مُضاد, تحمَّل تبعاته الثقيلة في يوليو/تموز 1971، إذ كانت حصيلته المأساوية إعدامات طالت قياداته التاريخية, نفذها نظام نميري بدمٍ بارد, فيما أسماه الحزب بـ”أسبوع الآلام“.

في لحظةٍ تاريخيةٍ نادرة، ورغم أنها خارج الحدود, قدَّم السيد التيجاني الطيب نقداً للحزب في ما اعتبره ”أخطاء تستوجب الاعتراف“ في ثلاث قضايا, هي: موقف الحزب الشيوعي من أطروحات الحكم الذاتي قبل الاستقلال, المشاركة في المجلس المركزي لنظام عبود, وأخيراً انقلاب نميري، أو ”نظام مايو“. وراهناً، رغم التبرير السابق، كتب أحد نشطاء الحزب نقداً واعترافاً جريئاً، ودعا الآخرين لحذوهم.. «ما نقوله باستقامة كاملة، إن الحزب الشيوعي مسؤولٌ أمام الجماهير عن انقلاب 25 مايو، طالما قطاعٌ مؤثر وقوي، وجزءٌ واسعٌ من قيادته مشى في تدبير الانقلاب قبل قيامه, أو مؤازرته بعد قيامه, وكذلك دفع قطاعات واسعة جداً من جماهير الحزب الشيوعي، وجماهير النقابات المتحالفة معه في دعم هذا الانقلاب, إذن الحزب الشيوعي مسؤولٌ أخلاقياً وسياسياً, وندعو أي ”زول“ مسؤول في الحركة السياسية عن انقلاب عسكري أن يعترف بذلك دون تبرير».. ويضيف أيضاً: «19 يوليو أيضاً مسؤولٌ عنها الحزب الشيوعي سياسياً وأخلاقياً». وقد دعا السيد الصادق المهدي في ورقة له إلى: «ضرورة فتح ملف الانقلابات في السودان».

كان ينبغي أن تكون هذه التجارب مصدر عظَة واعتبار للآخرين.. لكن المُفارقة، أن الجبهة الإسلامية، بعدما سارت في الطريق نفسه بانقلاب 1989، عَمَدَت إلى إخفاء هويتها الثيوقراطية في البداية، بدعوى استفادتها من ”تكنيك“ فشل انقلاب يوليو/تموز 1971، الذي أسفر عن واجهته الشيوعية بصورة صارخة, وهي ذريعة كان يفترض أن تكون مدعاة لعدم تنفيذ الانقلاب، لا العكس, لأن مضمونها يعني أن التكوين النفسي والسياسي للشعب السُوداني لا ينسجم مع المُطلق في الأيديولوجيات، سواءٌ كانت يميناً أو يساراً.

ثم تأتي مُفارقة أخرى على الشعب اليتيم، الذي تعَلَّم الانقلابيون ”الحلاقة“ في رؤوس أبنائه.. فبعد أن دانت السُلطة لطغمة ”الإنقاذ“ بعد الانقلاب, أصدروا قراراً ”وطنيا“، أطلَقوا بموجبه سراح أربعة من رموز النظام المايوي, كانوا قد حُوكِموا بالسجن في الفترة الانتقالية, وفسَّر الفريق عمر البشير الأمر بقوله: «نحن اتخذنا القانون كمُبرِّر لإطلاق سراح هؤلاء.. وأصدرنا قراراً في حق كل من حُوكِم بسبب خرق المادة 96 من قانون العقوبات (إعلان الحرب على الدولة) أو المادة 21 الخاصة بالتمرد.. هذا تسقط عنه الإدانة.. لأننا نحن بتحرُّكنا خرقنا هاتين المادتين.. فمن هذا المنطلق، ومنطلق أخلاقي أيضاً, نحن طالما خرقنا هذه المواد، لا نقبل بأن يُحاكم بها شخص قبلنا».

أبت الأحداث إلاَّ أن تَكشف زيف هذا الادعاء في منطلقاته، بما فيها الأخلاقية.. فبعد شهورٍ قلائل، وتحديداً في أبريل/نيسان 1990، أرادت مجموعة من الضباط القيام بانقلابٍ عسكريٍ -أيا كانت دوافعه- على الانقلابيين أنفسهم, وعند فشل تدبيرهم أعدَّت السُلطة لهم مُحاكمات صورية، بالاستناد على ذات المواد المذكورة, وتمَّ تنفيذ الإعدامات في [28] ضابطاً بصورة وحشية مؤلمة، أسَّست لمنهج العنف، الذي اتخذه النظام وسيلة للبقاء في السلطة.

اتصالاً مع حديث البداية, حول دور المؤسسة العسكرية, فمن التناقضات الغريبة في المُمارسة السياسية, التأكيد الدائم على أن القوَّات المسلحة يجب أن تبقى بمنأى عن موارد السياسة, وطالما استزاد السياسيون في هذا الصدد، بالعُرف والقوانين والتشريعات المُختلفة, والتي تسقط في أول مُنعطفٍ يستعين بقوتها الباطشة, حينما تتعثر خطى البعض، ويَدْلهمُّ لَيل خطوبهم, إما بدعوتها -كما ذكرنا- إلى تسلم السُلطة بعملٍ انقلابي, أو مُباركته بعد نجاحه, ومنحه شرعية الأمر الواقع بالمشاركة فيه.

إن منسوبي القوَّات المسلحة هم شريحة في مجتمعٍ، الفرد فيه مُفرِط في تناول الشأن السياسي, لهذا ظلوا وما انفكوا يُمارسون نشاط أهل السياسة في السرِّ والعَلن.. مرة بالمُباشرة، كما في نصوص مذكرة فبراير/شباط 1989، والتي «حملت طابعاً مزدوجاً، عسكرياً وسياسياً، في آنٍ».. وأيضاً كانت في جوهرها ومضمونها مُطابقة ”حذوك النعل بالنعل“ للخطاب السياسي الذي كانت تلهَجُ به ألسنة القوى السياسية المُختلفة، في ذلك الوقت.. وهي أيضاً مشهدٌ مكررٌ -مع الفارق- لمُذكرةٍ سَبَقَ أن تقدَّم بها لفيفٌ من الضباط، بعد ثورة أكتوبر 1964، للسيد سِرالخَتِم الخليفة، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية ووزير الدفاع, وكان من أهم بنودها: «تطهير القوات المُسلحة من العناصر التي أيَّدت نظام الفريق إبراهيم عبود»، وهو المطلب الذي جَهَرَت به بعض القوى السياسية حينها. وأحياناً تتم المشاركة في النشاط السياسي بطريقة غير مُباشرة, وذلك بالتحايُل في الانقلابات، تحت دعاوى ”خلاص“ أو ”إنقاذ“ الوطن.. فمُذكرة فبراير - التي أشرنا إليها مراراً- استلَّت نصاً قننه لها السياسيون في الدستور الانتقالي لعام 1985، ويقرأ: «قوات الشعب المسلحة جزء لا يتجزأ من الشعب، ومهمتها حماية البلاد، وسلامة أراضيها، وأمنها، وحماية مكتسبات ثورة رجب الشعبية».. فلا غرو إن اختزلت هذه الحماية بالانقضاض على السُلطة نفسها, فكأنما النخبة السياسية التي تواصت على ذلك النص الفضفاض، أرادت شَرْعَنة تحايُلها في الشأن السياسي.

بذات المستوى، كان اعتبار المُؤسسة العسكرية ضمن القوى السياسية والنقابية التي وقعت ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“ في 17/11/1985، اعترافاً ضمنياً في حدِّ ذاته، بدورها السياسي -غير المعلن- وأَحقيتها المُعلنة في الخوضِ في القضايا السياسية المصيريَّة, على الرغم من أن الوثيقة المشار إليها أصبحت أثراً بعد عين, فقد كانت القوَّات المُسلحة، المُوقعة عليها، هي التي داست عليها بدبَّاباتها المُجنزرة في يونيو/حزيران 1989، ذلك لأن الجيوش بتكوينها، تنفرُ من كلمة ”الديمقراطية“, باعتبارها رجسٌ من عَمَل المَدنيِّين، في القوانين العسكرية, التي تلزم بالولاء والطاعة والتنفيذ.

إذن، يجب الاعتراف بأن النصوص فشلت في مُعالجة أزمةٍ مزمنة, مثلما أن العرف لم يكبح جماح الطامحين للوصول إلى سُدة السلطة، عبر عمل انقلابي, طالما أن مختلف القوى السياسية -في سعيها المحموم أيضاً نحو السلطة بوسائل غير ديمقراطية- ركضت خلف سراب المُؤسسة العسكرية, توهماً بأنه المُبتغى.. واستظلَّت بهجيرها، بحسبه المُرتجى!!

لأسبابٍ غير الأسباب السياسية التي أوردناها، ثمة طرف يرى في المُؤسَّسة العسكرية وجهاً آخر، كوَّنته من خلال تجاربها الخاصة, بصورةٍ مُغايرة، لا تخلو من تطرُّفٍ ومُغالاة.. فمُنذ وقت مُبكر، دَعَت الحركة الشعبية لتحرير السودان، من خلال المانفستو التأسيسي الصادر في 31/7/1983، إلى تحطيم الجيش السُوداني, باعتباره مؤسَّسة رجعية انكشارية، وضع لبناتها الاستعمار البريطاني, وطوَّرها في ذات الاتجاه ما أسماه بـ”الاستعمار الحديث“, واقترح بديلاً لها، جيشاً ثورياً جديداً تتشكلُ نواته من الجيش الشعبي للحركة نفسها.

بالرغم من أن الحركة الشعبية جعلت من ذلك المانفستو -فيما بعد- تراثاً في متحف التاريخ, إلاَّ أن تلك الأفكار ظلت المحور الرئيسي في إستراتيجيات قادتها, وقد عبَّر د. جون قرنق، بعد سنين عددا من صدور المانفستو في ذات السياق، بقوله: «الجيش النظامي يتعرَّض لتدميرٍ مُنظم من جهتين، الأولى: الجبهة الإسلامية الحاكمة في الخرطوم, والثانية: قوَّات الجيش الشعبي.. ونجحت الجبهتان في مهمتهما، والجيش السوداني الآن يحتضر، وضعيف، والسبب هو التحالف غير المعلن بيننا والجبهة من أجل تدميره». واقع الأمر، إن هذا التفكير سبق لقائد الحركة التعبير عنه، غير مرَّة، في اجتماعات هيئة قيادة التجمُّع الوطني الديمقراطي, دون أن يجد حظَّه في نقاشٍ موضوعي بناء، تهيباً من إيقاظ الفتنة النائمة.. إلا أنها وجدت من أيقظها مرَّة، برميةٍ من رامٍ لم يتورَّع في إزاحة الغطاء عن المسكوت عنه.

جاء ذلك في ندوة كنا قد أقمناها، على هامش اجتماعات هيئة قيادة التجمُّع في أسمرا، في الفترة من 9/1 إلى 11/1/1996, بعدما تأخر انعقاد الاجتماع لأكثر من أسبوع، في انتظار وصول د. قرنق، حيث تحدَّث باقان أموم، القيادي في الحركة الشعبية، بوضوحٍ فاق حدَّ الصراحة, وأورد آراء أصابت المشاركين بوجومٍ، فقال حول موضوع الجيش: «الجبهة الإسلامية أحدثت ثورة حقيقية، مع أنها ثورة رجعية, إذ استطاعت تحطيم جهاز الدولة القديم، والتي أسميها ”دولة الجلاَّبة“, والناس في الجنوب لا يشعرون بأنهم جزء من هذه الدولة, لأنها ليست ضمن طموحاتهم وأحلامهم, ونحن في الحركة بصورة خاصة لا نبكي على ذلك, لأننا لسنا خسرانين.. فجهاز الدولة القديم، بما في ذلك الجيش، جهاز قهر.. مثلاً كان يصعُب في فترة من الفترات الحديث عن إعادة تشكيل وتركيب الجيش السوداني كمؤسسة عسكرية, باعتبار أنه أصبح مؤسسة عريقة مو######## من الاستعمار، تطوَّرت عبر عقودٍ ماضية, لكنها كانت جهازاً في يد السلطة، واستخدمته في قهر الشعب السوداني مرات عديدة، بما في ذلك شعب جنوب السودان.. الجبهة الإسلامية قامت بتحطيم ما كان يحلم به جنرالات معنا.. الجنرال فتحي والجنرال عبدالرحمن.. ولا حلَّ لدينا سوى تكسير هذه الأجهزة وإعادة بنائها».. ثم اقتبس باقان من تجربته الشخصية مثلاً مفزعاً، فأضاف: «أنا كشخص، ليس لديَّ ولاءٌ للسودان, وبالتالي فهو غريبٌ علىَّ.. في مدينة هافانا في كوبا، كنتُ أشعر بانتماءٍ، وأنني جزءٌ من المجتمع, وسألتُ نفسي: ”هل هذه خيانة، أم ماذا؟“.. لكن الحقيقة كنت أشعر بأنني مندمجٌ في المجتمع, ولا أشعر بالعزلة، أو أنني مواطنٌ من الدرجة الثانية.. في الخرطوم مثلاً، أشعرُ بأنَّني في الغربة.. كنتُ أقولُ لنفسي: ”هل هذه قِلَّةٌ في الوطنية، أم أن هناك سبباً آخر؟“.. الحقيقة، السبب أنني تَرَبَّيت على ذلك.. أنا أقول، كاقتراحٍ، إن عاصمة السودان الجديد يجب أن تتحوَّل من الخرطوم, لأن الخرطوم تذَكرنا بأشياءٍ مؤلمة كثيرة.. لابد أن نبحث عن مدينة أخرى، في أي مكان».

لم يتطرَّق أحدٌ في الندوة لحديث السيد باقان، غير السيد التيجاني الطيب، الذي قال اختصاراً: «على الرغم من تفهُّمِنا للأسباب الموضوعية التي تقف خلف هذا الكلام, إلاَّ أن مثل هذه الآراء تفزِعنا».. وفى واقع الأمر، كان التيجاني متصالحاً مع نفسه, بل متصالحاً مع هواجس حزبه في هذا الشأن.. فهذه الآراء سبق أن كانت محور حوارٍ طويلٍ قبل نحو أكثر من عقدين, بين سكرتير الحزب محمد إبراهيم نقد، ود. جون قرنق، في أول جولة خارجية للأول بعد انتفاضة أبريل/نيسان 1985, ودارت حول مانفستو الحركة بشكلٍ عام، وآرائها في جهاز الدولة القديم، بما في ذلك الجيش بشكلٍ خاص.. إلا أن الثابت في تفكير قادة الحركة الشعبية، تمسُّكهم بهذا المفهوم من ”مَهْد“ بداياتها، وحتى ”لَحْد“ نيفاشا، الذي أفرز اتفاقاً، اقتسمت بموجبه الحركة الشعبية السلطة مع نظام الجبهة الإسلامية، أي ”جهاز الدولة القديم“، ذلك بالرغم من أن بند الترتيبات الأمنية عطَّل الوصول إلى اتفاقٍ في أكثر من مرحلةٍ من مراحل التفاوض.. ربما للأسباب المذكورة، والتي أقر بها قادتها.. أو ربما لقناعتهم بأن: «جيوش حركات التحرر مثل خيل المغول, إن ماتت الخيول، مات مالكوها»..!! على حدِّ تعبير أحد كوادرها.

أيَّاً كانت الأسباب، فالثابت أن قائدها ظلَّ متعظاً، أو مسكوناً بـ”فوبيا“ الماضي, عندما جرَّد جعفر نميري, قائد حركة الأنانيا «2»، جوزيف لاقو، من جيشه بعد الاتفاقية, وجعله جنرالاً تائهاً في أقبية القصر الجمهوري.. «إن الحركة الشعبية لن تُكَرِّر الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه أنانيا «2»، عندما حلَّت جيشها بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، مما أعطى الرئيس نميري فرصةً لعدم احترام الاتفاق فيما بعد». لهذا، كان قرنق يرى أن السبيل الوحيد لقتل تلك الهواجس.. «احتفاظ الحركة الشعبية بنحو مائة ألف مقاتل، في كامل استعدادهم العسكري، للدفاع عن الاتفاقيات إذا حاول الطرف الآخر تجاوزها، أو التملص منها». ورغم قولنا بأن المانفستو أصبح تراثاً في أدب الحركة، لكن د. قرنق رأى أن الاتفاقية المذكورة نفخت فيه الروح، خاصة في المسألة موضع الجدل.. «إن أكبر إنجاز حققه اتفاق نيفاشا للترتيبات الأمنية والعسكرية، هو وضع الجيش الشعبي في مصاف الجيش القومي السوداني». ذلك ما أفسح الآمال للحركة الشعبية في أن تطلب المزيد, فخَطَت خطوة أخرى بمطالبة النظام بالصرف على هذا الجيش, وكانت أيضاً تلك من النقاط التي تظاهر فيها الطرف المعني بالرفض والتمنُّع, ولم يكن بمقدوره الاستمرار في ذلك, فتمَّت معالجتها ضمن البنود السرِّية للاتفاقية، بمشاركة الوسطاء الراعين لها. وعليه، يمكن القول بأن بند الترتيبات الأمنية، يعد أولى الثمار التي قطفتها الحركة الشعبية من اتفاق نيفاشا الثنائي.. فهو، وإن لم يبلغ بها أقصى مرامي حلمها في تحطيم الجيش القومي, وإحلال جيشها الخاص محلَّه, فقد حافظ على قوتها العسكرية وفق نسبٍ, يحقُّ لها أن تزعم بأنها قاربت الحلم المشار إليه.

من جهة أخرى، فإن الشريك الذي عقدت معه اتفاقاً، غير مُعلن، في تحطيم المؤسَّسة العسكرية، وفق ما أدلى به د. قرنق، كانت له أجندته الخاصة حيال تلك المؤسَّسة، منذ نجاح الانقلاب، وتسلُّمه مقاليد السلطة.. فمن المعروف أن الجبهة الإسلامية قد ثابرت طيلة عقدٍ ونصف على إحلال مجندي ”الدفاع الشعبي“ مكان الجيش, بفصل عشرات الآلاف من الخدمة العسكرية, وأدلجة من تبقى بوسائل مختلفة, وأيضا سواءٌ تحقق لها ما أرادت، أم لم يتحقق, تصبح المُحصِّلة أن المؤسسة العسكرية تخلخلت ركائزها، نتيجة الظروف التي وضعتها بين ”فكي كماشة“, وبالتالي طرأ تغيير على ما اصطلح على تسميته بـ”المثلث الذهبي“، بأضلاعه الثلاثة: أحزاب, نقابات, وقوَّات مسلحة.. وهي القوى مِحْوَر الصِّراع السياسي، حول السُلطة في السُودان، طيلة نصف قرن منذ استقلاله.

بَيْدَ أننا هدفنا من تلك الفذلكة إلى توضيح الخلفيَّة التي نَهَضَ على جُدرانها انقلاب الجبهة الإسلامية في العام 1989، والذي دَفَعَت فيه المؤسسة العسكرية ثمناً باهظاً، قبل أن تنداح آثاره السالبة على القطاعات الأخرى في المجتمع السوداني.

نعودُ إلى النقطة التي ابتدرنا بها الفصل، في الانقلاب نفسه, والذي ذكرنا أنه يعد من أسهل الانقلابات التي حدثت, وليس ذلك استهانة بالعدد القليل الذي نفَّذ الموضوع، إذ كانوا بضع عشراتٍ من المؤسَّسة العسكرية, انضمَّت لهم في ساعة الصفر عشراتٌ أخرى من كوادر الجبهة الإسلامية, وقد قُدِّر العدد الإجمالي بثلاثمائة فرد!! ولكن لأن الشرط القاسي في الحركات الانقلابية, وهو ”السريَّة“، كان قد سقط تماماً بالوقائع التي أشرنا لها في المشهد الأول, فقد كان معظم المتابعين للحراك السياسي، والناشطين فيه, وعلى رأسهم أقطاب الحكومة الديمقراطية ”الرشيدة“ يتحرَّون سماع ”المارشات العسكرية“، كما يتحرَّى الصائمون رؤية هلال رمضان!!

وكما هو معلومٌ, فقد خطَّط الانقلابيون لكل شيء, عدا واحداً، جاء بمحضِ الصُدفة، مُتزامناً مع الساعات الحرجة في تنفيذ الانقلاب, فسهَّل عليهم الأمر من حيث لم يحتسبوا, إذ كان معظم قادة السلطة -حكاماً ومُعارضين- في حفل زواج إحدى الأسر السودانية، ”آل الكوباني“.. جاء بعضهم من الجمعية التأسيسية, بعد مداولاتٍ اتَّسَمَت بساقِط القول، في مناقشة بند حيوي.. ”الميزانية العامة“.. وكان بينهم أيضاً الذين انتووا الانقضاض على السلطة.. جاءوا خفافاً - من باب التمويه- وغادروا سراعاً، بلسان حالٍ يقول إن المناسبة ستكون بمثابة الفرح الأخير للنظام الديمقراطي، والقائمين عليه.

ثمة ثلاثةٌ، من الذين افترِضَ فيهم السَّهر على حماية النظام، وتأمينه من غوائل الانقلابات العسكرية, بعد أن عَلِمُوا بحدوث ”المتوقَّع“, قاموا بعمل ”غير المُتوقَّع“, إذ اختاروا الهروب!! باعتباره أقصر الطرق لحماية الذات, وليْسَت السلطة، أو الوطن بأكمله!! من المُفارقات، انتماؤهم جميعاً إلى حزب الأمة!!

لم يُرْهِق السيد مُبارَك الفاضل -وزير الداخلية- ذهنه كثيراً بالتفاصيل.. فبعد تبليغه هاتفياً، من بعض أفراد الأسرة الذين شاهدوا الدبَّابات تعبر الجسور الرابطة بين أجزاء العاصمة المثلثة, هَرَبَ على الفور من منزله، واختفى في منزل المحامي حسن عبدالله لنحو ثلاثة أسابيع, باشر خلالها اتصالاته مع بعض أركان الانقلاب، الذين كانوا يقبعون خلف الكواليس, ومنهم صهره د. غازي صلاح الدين العتباني.

في هروبه، كان مُبارك قد خَشِيَ أمراً، واستسهل آخر.. فنسبة لأنه كان الوزير الوحيد في النظام الديمقراطي الذي طالته تهَمُ الفساد، حتى أُرْغِمَ رئيس الوزراء على تشكيل لجنة تقَصٍ له, فقد خشي البطش به في محاكمة إيجازية، يرتئي فيها الانقلابيون فتح ”ملفاته المُفخَّخَة“، للإيحاء بمحاكمة النظام الديمقراطي بأكمله.. لكنه في الوقت نفسه، كان قد وضع احتمال أنه لم يكن -في الأصل- ضد فكرة الانقلاب, بل كان أحد المُتحمِّسين له، وفق ما ذكرنا في الفصل السابق.. وعليه، كان في هروبه يُريدُ التأكد ممَّا إذا كان سيناريو ما حدث مُطابقاً لسيناريو بنات أفكاره.. ولمَّا تبيَّن له أن الانقلاب الجديد يدور في فلكٍ آخر, شَرَعَ في الهروب الثاني، إلى خارج الحدود، بسيارة جُهِّزَت خصيصاً لقطع الفيافي والصحاري, فاتجه نحو الحدود الليبية.. ونسبة للإجراءات الأمنية المكثَّفة التي اتبعها الانقلابيون, كان من الطبيعي أن تثور الأسئلة المُحرَّمة في كيفية ”نجاح هروبه“، في ظل تلك الظروف؟! وقد استقر الاجتهاد في أن الذين كان يُفاوِضُهم في الخفاء لعبوا دوراً في ذلك, أو على الأقل غضُّوا البصر عنه.

في 28/7/1989، كان مُبارَك الفاضل في ضيافة الحكومة الليبية، إذ تجمعه علاقات مُميَّزة مع رئيس جهاز الأمن، العقيد صالح الدروقي.. بعد يومٍ من وصوله، زار الفريق عمر البشير -للمرة الأولى- طرابلس, وأثناء محادثاته مع العقيد معمر القذافي، سأله الأخير بصورة عَرَضِيَّة عن مُبارَك.. فقال له الأول، إنه هَرَبَ، وجار البحث عنه.. فأشار القذافي إلى غرفة مجاورة، وقال له: «إنه هنا»!! بالطبع، لم يكن البشير يعلم.. ولا يعلم أحدٌ ما الحكمة التي حَدَتْ بالقذافي إلى أن يفعل ذلك, أو ما تمَّ الاتفاق عليه.. لكن المُفارقة الغريبة، أن السيد مُبارَك الفاضل، بعد أن غادر طرابلس إلى سويسرا, لم تطأ قدمه أرض ليبيا مرة أخرى، إلا بعد عددٍ من السنين.

السيد عبدالرحمن فرح، رئيس جهاز الأمن, كان ثاني الثلاثة الهاربين, والذي كان قد بَرَعَ قبل أقل من أسبوعٍ في رسم سيناريوهات ”وهميَّة“ لانقلاب ما سُمِّيَ بـ”المايويين“، وادَّعى فيه أن الجهاز العتيد الذي يرأسه: «كان يراقب نميري منذ أن كان بأسوان (مصر)». إلاَّ أنه في الانقلاب الحقيقي، عَجِزَت كل آلياته عن المتابعة والتقصِّي, ومسرح الحدث بالقرب من داره, فلحظة أن عَلِمَ بالأمر، قام على الفور بمغادرة منزله إلى منازل ”لها في القلوب منازل“!! فتنقل حتى استقرَّ به الوضع عند شقيقته ”سارة“ في الامتداد شارع «31».. ولأنه لا يملك هُدْهُد سُلَيْمان، ليأتيه بالخبر اليقين، رغم مرور ساعاتٍ على الانقلاب، لاحَت فيها تباشيرُ الصباح، لَجَأ إلى تسخير المُتَاح، فأرسل شقيقته إلى منزل العقيد كمال إسماعيل، المجاور لهم, يستفسِرُه إن كان لديه أية معلومات حول ما جرى؟! لَمْ يكن المسؤول بأَعلم من السائل, علماً بأن السائل يقف على رأس جهازٍ كان يُفترَضُ فيه أن تكون معلوماته حول الانقلاب قد رشحَت للناس, قبل أن يتبينوا الخيط الأبيض من الأسود فيه!! سِيَّما وأن رئيسه، حسب إفادته التي أوردناها، اعترف وقال إنه كان يعلمُ الكثير!!

فَكر السيِّد فَرَح، ثم قدَّر، ثم قرَّر مواصلة الهروب والاختفاء.. وبغض النظر عن دعاوى ذلك, إلاَّ أنه أَدْبَرَ عن تنفيذ الفكرة، لأن ظروفه الصحية لا تسمحُ بالمُخاطرة.. وقبل أن يستسلم لمصيره، الذي ألحقه بزمرة المُعتقلين في سجن كوبر, كان وشقيقه ”خالد فرح“, قد لعبا دور ”حمامة السلام“, التي تطوف بين الانقلابيين ورئيس الوزراء الهارب, تنقل لهم ”شروطه“ للاستسلام!!

أما رئيس الوزراء، السيد الصادق المهدي، فما أن تمَّ تبليغه بالخبر المُتوقَّع, حتى قامَ بغير المُتوقَّع!! فكان ثالث الهاربين.. ولأن ذلك ميدانٌ لا يستلزم التنظير، بقدر ما يتطلب التدبير, فقد كان هروبه فطيراً.. أُلقِىَ عليه القبض بنحو أقل من أسبوع، وهو يتأبَّط سيفاً من ”عُشَر“.. وهو عبارة عن مذكِّرة أعَدَّها سلفاً لتسليمها للانقلابيين.. «كنتُ قد أطلَعتُ الرجل على المذكرة, وقلتُ له إنني سأنتقلُ من مدينة أمدرمان إلى الخرطوم، حتى يَسهُل عليه الاتصال واللقاء، الذي كنت أريد أن يتم في القيادة العامة للجيش, وجئتُ المنزل الذي كنتُ أريد البقاء فيه في انتظار الرد، راكباً دراجة, واتضح أن هذا المنزل وهو منزل أختي وعمي مهدي حسين شريف كان مراقباً, وقبل أن أتَّصل بالشخص المعني تمَّ تطويق المنزل في اليوم ذاته وتمَّ اعتقالي». وبِغَضِّ النظر عن اللقاء الذي اجتهد المهدي في سبيله، ليتم في ”القيادة العامة“!! فَرُبَّ سائلٍ, إذا ما كان ذلك هدفه وطموحه، ففيمَ الهروب أصلاً؟! ورداً على المتسائلين، قال: «عندما اختفيتُ كان هناك سببان لاختفائي, أولاً كان هناك اتفاقٌ على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية, يَنُصُّ على أن تتحرَّك القوى السياسية عند وقوع أي انقلاب عسكري, ولذلك كنت أريد أن أرى إذا كانت هناك جهة مستعدة للتحرُّك في هذا الإطار أم لا.. أما السبب الثاني فهو أنني كنت أريد معرفة طبيعة الحركة, لأن تقديري كان أن بعض الجهات الأجنبية تريد تنفيذ انقلاب, فإذا كان الانقلاب أجنبياً كنا سنخرج من البلاد ونقاومه».

واقعُ الأمرِ، بهذا التفسير الحلزوني، حَيَّر رئيس الوزراء حتى الذين ينظرون لأخطائه بعين الرضا.. فهذا حديثٌ كالغربال.. كثير الثقوب.. فقد وَضَعَ المهدي تعريفاً نشازاً للانقلابات العسكرية، لم يَخْطر على قلب حكَّامٍ مُنتخبين مثله، انقلب عليهم العسكر في التاريخ القديم والحديث.. فالانقلاب -في شرعه- إن كان ”أجنبياً“ وَجَبَت مقاومته, وإن كان ”وطنياً“ يمكن مفاوضته!! فلا غرابة أن منحهم الشرعية ”المفقودة“ في بطن المُذكرة التي كان يتأبطها.. «معكم سلاح القوة، ومعنا الحق»!! قبل أن يتحَسَّسوا خطاهم، على أرض الواقع, ويتناسى المهدي في غمرة تبريراته تلك أنه حينما انتخِبَ رئيساً للوزراء، أدَّى القسم لحماية الدستور والنظام الديمقراطي، من أي أخطارٍ تتهدَّدهما، سواءٌ كانت وطنية، أو أجنبية.. والقادة التاريخيون لا ينتظرون الآخرين ليروا ما هم فاعلون.. وعندما يُقِرُّ بأن تقديراته أكدت له أن بعض الجهات الأجنبية تريد تنفيذ انقلابٍ, فما الذي فعله لقطع الطريق عليها؟!

على أن التجربة أثبتت أن المهدي استمرأ تكرار أخطائه.. مثلما استمرأ تبريراته المُرهِقة للعقل والوجدان.. ففي تماثُلٍ من ماضيه السياسي القريب, وبالرغم من أنه كان جزءاً من التعقيدات السياسية، التي صاحبت أجواء السلطة قبيل انقلاب مايو/أيار 1969, ورغم الإرهاصات التي كانت تُشِيرُ أيضاً إلى احتمال الانقلاب, إلا أنه استبعد أي مُغامرة عسكرية تجهضُ النظام الديمقراطي, تماماً، مثلما استبعدها بعد عقدين في يونيو/حزيران 1989، وهو سيِّد العارفين بهما.. «قبل يومين من 25 مايو 1969، تَوَجَّهتُ وزميلٌ لي إلى منزل الصادق المهدي، حيث استعرضنا معه الأوضاع الداخلية, وسألناه إن كان يتوقع انقلاباً عسكرياً, فرفع أصابع يده اليسرى ليُعدِّد الأسباب التي تَحولُ دون وقوع انقلابٍ عسكري, ومنها أن ثورة أكتوبر لا يزال درسها وتجربتها في الخاطر، كما أن الظروف التي يمكن أن يتحرَّك فيها الجيش للاستيلاء على السلطة مغايرة تماما لتلك الظروف التي كانت سائدة في نوفمبر 1958». علماً بأن الظروف التي عدَّدها كان قد أسْهَمَ فيها بقدرٍ وافرٍ من التكدير السياسي.. فهي الفترة التي اشتَعَلَت فيها الخلافات الشهيرة بينه ورئيس الوزراء محمد أحمد محجوب, خفَّت حدَّتها بقبول الأخير بمُقترحٍ قضى بترشيح الإمام الهادي المهدي لنفسه -باعتباره راعي حزب الأمة- لرئاسة الجمهورية, والسيد الصادق لرئاسة الوزراء، -باعتباره رئيس الحزب- في حكومة مقبلة.. قدِّر أن تكون انتخاباتها العامة في مطلع العام 1970, إلاَّ أن المحجوب ضاق ذرعاً، بعد عودته من لندن التي كان يتداوى فيها، بطموح المهدي المُتعجِّل للرئاسة, فقام بتقديم استقالته.. إلاَّ أن وساطة على طريقة ”الأجاويد“ السُودانية, كان روَّادها السادة الهادي المهدي، محمد عثمان الميرغني وإسماعيل الأزهري, طلبوا منه تعليقها، وعدم تقديمها لمجلس السيادة, وكانوا يأملون في بقائه إلى حين إجراء الانتخابات، بقناعة سائدة في أن ما تبقى من فترة كفيلٌ بتحقيق بعض الاستقرار للمناخ السياسي المُضطرب.

في غمرة التمنيات، قطع انقلاب مايو الطريق.. ويُذكَر أنه بعد وقوعه، لم يكن للسيد الصادق أي تحفُّظات عليه، سوى إبعاد ”الواجهة الشيوعية“.. ربَّما لأنه انقلاب ”وطني“، بحسبِ عُرفِه!! وقد نقل رغبته تلك إلى جعفر نميري قائد الانقلاب, بل تطوَّع بتقديم خدماته لإقناع عمه الإمام الهادي, فأعطاه نميري ضوءاً أخضر, فغادر إلى الجزيرة أبا، التي استعصم بها الإمام الهادي، مُصمِّماً على مُعارضة ”الانقلاب الشيوعي“, لكن الأخير طلبَ منه البقاء في الجزيرة للهدف نفسه, عوضاً عن اصطحابه هو للخرطوم لمُفاوضة الانقلابيين.. وأثناء ذلك، توجَّس الانقلابيون منه خيفة، بظنهم أنه خدعهم, فاستدعوه بدعوى مواصلة الحوار, وعند وصوله، تمَّ اعتقاله، وإرساله إلى سجن بورتسودان, وبذلك منحه الانقلابيون ”شرف“ معارضتهم!! وهو شرفٌ لم يسلم من الأذى، ليس لأنه لم يُرَق على جانبيه الدمُ, ولكن لأنه شرفٌ سعى له, ولم يَسْعَ هو إليه!!

إذا ما أضفنا لكل ذلك ”الصفقة السياسية“ التي تمَّت بينه وبين نميري العام 1977, والتي سُمِّيت تجاوزاً بـ”المُصالحة الوطنية“, فقد كانت في حقيقتها قواسِم مشتركةً لأفكارٍ شمولية, طَمَحَ لها المهدي، ولوَّح له بها النظام المايوي.. مثل الجمهورية الرئاسية, والتنظيم السياسي الواحد، والتوجهات الإسلامية.. إلخ, ولم تكن الديمقراطية فيها سوى ”فريضة غائبة“, لم تجرِ سيرتها، لا على الورق، ولا حتى على الألسن!! ولولا أن نميري انقلب على نفسه في العام 1983، متعلقاً بما أسماه بـ”القوانين الإسلامية“, ولولا أنه تنكر بعدئذٍ لِمَا وَعَدَ به المهدي لذاته, لَمَا وَجَدَ الأخير هذا تبريراً في مُعارضة نظام نميري, والذي لا فرق في توجُّهاته الديكتاتورية في أيٍ من سِني حكمه الست عشرة, عليه فإن استنساخ الأخطاء، وتبريرُ الفشل, يظلاَّن سِمَة مسيرة السيد الصادق المهدي السياسية, لكنه لا يأبه لذلك كثيراً.

عندما شَغَلت السلطة التنفيذية نفسها بالهروب، حين وقوع الانقلاب, في موقعٍ آخر كان القائد العام للقوات المُسلحة، الفريق فتحي أحمد على، يخوض معركة محدودة, قدِّر لها أن تكون المعركة ”اليتيمة“ التي جَرَت لحماية كبرياء النظام الديمقراطي, وقد وثَّق لها على النحو التالي: «صباح يوم الجمعة سعت 210، حُوصِرَ منزلي في حي كوبر، بعد أن تمَّ قطع كل التلفونات، بقوة فيها [5] ضبَّاط، وعدد يتراوح ما بين 30-45 من مليشيات الجبهة، في زي القوات المسلحة، ومعهم بعض المُستَجدِّين من سلاح النقل, ودارت معركة بالرشاشات استمرت من سعت 220 إلى 520، كنتُ بالداخل مع أربعة فقط من حرسي الخاص. قتل واحدٌ، وجُرحَ أربعة من المتآمرين, وفشلوا في اقتحام المنزل وبعد ما استعانوا بمدرعة كسرت الباب الرئيسي للمنزل وَوَجَّهَت فوهة مدفعها نحو المبنى, وعندها آثرتُ سلامة أسرتي وأطفالي, فأمرتُ الحرس بالانسحاب ثم ارتديتُ الزي العسكري وذهبتُ في حراستهم المُشَدَّدة إلى فرع البحوث العسكرية بالقرب من القيادة العامة, ومنه إلى منزل الضيافة وأُرْجِعتُ مساء السبت إلى منزلي في كوبر, وظَلَلتُ تحت الحراسة لمدة أسبوعين, وبعدها رُفعت الحراسة لكنني كنت تحت المراقبة لفترة طويلة. لو تحرَّكت قوة لنجدتي خلال الساعات الثلاث لَتَغَيَّر الموقف, ولعلَّ في ذلك حكمة يعلمها الله ونحن لا نعلم إلا القليل».

إن ”لو“ تلك، التي ختم بها القائد العام شهادته, لا تفتحُ عمل الشيطان فحسب, وإنَّما تفتحُ أبواب تاريخ سُوِّدت صفحاته.. فبينما كان يطمحُ في تحرُّكِ قوةٍ تغيِّر الموقف, لم يكن هناك واحد من طاقم أركان هيئة قيادته ذرَفَ دمعة حرى على الديمقراطية الموءودة, ناهيك عن القيام بنجدتها.. ولا يدري المرء إن كان القليل الذي يعلمه ”القائد العام“ في ذلك الوقت, يضم بين دفتيه إحجام هؤلاء، وهروب أولئك.. لكن بالطبع ذاك ما كان يعلمه الانقلابيون، فلم يتردَّدوا لحظة في إعادته إلى منزله في اليوم التالي, بعد أن أصبح جنرالاً بلا جيش!!

على أننا نستوقف أنفسنا قليلاً عند ظاهرة هروب السُلطة التنفيذية, ليس باعتبارها ظاهرة جديدة، أو شاذة في التاريخ السياسي السُوداني، منذ أن عَرفت الدبابات طريقها نحو مباني الإذاعة والتلفزيون، لنشر ”البيان رقم واحد“ على الملأ, ولكن لأن المنطق جافاها لأسباب ثلاثة:
• أولاً: الهاربون الثلاثة ينتمون إلى طائفة عُرِفَت في الواقع السُوداني بالشجاعة والإقدام, استناداً إلى تُراثٍ الثورة المهدية.. من هذا المنطلق، لم يكن متوقعاً من ”الخلف“ غير اتِّباع سُنة ”السلف“, والتي ليس بالضرورة أن يكون معنياً بها امتشاقُ السّيوف، أو التمَنطق بالأسلحة الناريَّة، لمواجهة سلطة مُغتصِبة لسلطة شرعية.. فللشجاعة ألفُ بابٍ.. عليه، وبهذا المنطق، فإن هروبهم جاء خَصْماً على ذلك التراث, مهما تعدَّدت الأسباب الذرائعية.
• ثانياً: يقف السيد الصادق المهدي على رأس السُلطة التنفيذية, باعتباره رئيس وزراء منتخباً, وتولَّى مسؤولياته بقسمٍ لحماية الدستور، والنظام الديمقراطي.. وكذلك فَعَلَ الوزير والمستشار.. ولم يكن مُطلقاً في تلك الحماية مُفرَدَة تُشِيرُ إلى الهروب, والذي سجَّلوا بموجبه سابقة في مضمار السياسة السُودانية, حيث إنه في كل الانقلابات العسكرية التي أجهَضَت نظماً ديمقراطية, استبقت القيادات السياسية نفسها في انتظار قدَرِها ومصيرها، عدا حالة واحدة، سجَّلها الشريف حسين الهندي، عند وقوع انقلاب مايو 1969.
• ثالثاً: المعروف أن السيد الصادق المهدي، طيلة مُمارسته العمل السياسي, جَعَلَ بينه وبين المال العام حرمة, فلم يستغل منصبه في اكتنازه, ولم يُفسِد أو يَختلِس, حتى إن الانقلابيين أنفسهم لم يجدوا شيئا يَصِمُونَه به في بياناتهم الأولى، غير ”كثرة الكلام“.. وعليه، فإن خُلو سِجِله من تلك الآفة، التي طالما اتخذها الانقلابيون وسيلة للمحاكمة والمحاسبة والإدانة, كان ينبغي أن يكون دافِعَه في المقاومة, أو انتظار مصيره بأضعف الإيمان.. في حين يرى البعض أن هروب وزير الداخلية جاء مُنسجماً مع الجَدَل الذي طوَّقه في الاتهام بالفساد.

خلاصة، تجدُرُ الإشارة إلى أن تحديد هذه الأسماء فَرضَته ظاهرة الهروب, لكنَّه، من جهة أخرى، لا يعني أنها المسؤولة وحدها عن انهيار النظام الديمقراطي، وإن كان لها القدح المُعلى.. لكن الإنصاف يقتضي ذِكر لاعبين آخرين، في ضرَّاء أهل السودان.. ومن باب التعميم، يمكن القول بأن الديمقراطية الثالثة في السُودان كانت نموذجاً لنظامٍ فَالِتٍ، أضاعت هويَّته السياسية قوى حزبية، اختلط حابلها بنابلها.. خَاضَت غِمار التجربة بفؤادٍ أفرغ من ”جوف أم موسى“.. بلا برنامجٍ, وبلا وسائل, وبلا أهداف.. غابت عن أركانها الديمقراطية وسيلة, فتوسَّلتها غاية لحكم البلاد.. وتنظيمات نقابية ومهنية اختلَّ ميزان أخذها وعطائها.. لم تكن تعرف ما تريد، أو تدري ما تفعل.. وجمعية تأسيسية – برلمان- يؤم مبناها الفخيم نوابٌ, لا همَّ لهم سِوى إنعاش أجسادهم بهوائها الرطِبُ العليل.. ومجلس سيادة ليس له من وجودٍ محسوس، سوى الاسم التاريخي, شَغَلَ أعضاؤه أنفسَهُم بسُننٍ في القضايا الانصرافية، والمحسوبية، والصرفُ البذخي.. خدمة مدنية عاطلة, وصحافة تعطَّلت حواسُّها الخمس, فانحدرت مِهنياً وأخلاقياً.

دارُ عرضٍ كبيرة، بمساحة مليون ميل مربع.. جَرَت فيها وقائِع مسرحيةٍ مُمِلَّة لنحو أربعين شهراً, رغم اعتكاف الجمهور الذي كان العمل أدنى من طموحاته, وعندما أُسدِل الستار، هَرَعَ المُمثلون لاستدعاء الجماهير الغائبة.. نصبوا لها سُرادقاً للعزاء, طلباً للمواساة في المأساة التي امتدَّت لأكثر من عقدٍ ونصف العقد من الزمان, بلسان حالٍ يقول: فقط، كونوا عليها شهوداً!!

هكذا تحدَّث العسكر بذاك المنطق، الذي عايشه وحسَّه كل أهل السُودان.. لكن لم يكن ذلك يعني أن الحل يكمُن في انقلابٍ يرتدي قناع الثيوقراطية.. ولم تكن المُمارسة تعني فشل المنهج الديمقراطي.. وأيضاً، لا يعني ذلك بيع الناس الوهم والشعارات الجوفاء، وحصرهم في أقببِة الجهل والتخلُّف, فجميعهم قد أضاع زمناً غالياً، اقتطعه السُودان من تقدُّمه ونَمَائِه وازدهاره.. ولا عزاء للمكلومين!!



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 11-12-2006, 12:33 AM   #[7]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

هل لحزب الأمة اليوم ثقل جماهيري؟

هذا سؤال كبير علي من يتصدي للإجابة عليه أن يبحث في العديد من المتغيرات والأحداث ، متغيرات علي النطاق الجغرافي والديمغرافي في مراكز حزب الأمة الجماهيرية التقليدية خاصة غرب السودان ودخول عامل الحرب والهجرات القسرية
وإحساس جمهور الحزب بالخزلان من مواقف إمامهم وقائدهم وإنشغاله بالتنظير ومحاولات حل مشاكل الكون بمراسلة قادة الدنيا مقدما نصحه الغالي في حل معضلات الشعوب الأخري وشعبه يعاني الأمرين فنجده يرسل الرسائل للرئيس بوش الأب ناصحا له حول موقف أميركا من العراق ومرسلا للحكومة الجزائرية في محاولة لحل القضية السياسية هناك ووصل نصحه حتى باكستان فأرسل للرئيس مشرف ناصحا له في قضايا من صميم وشأن داخلي لباكستان وصار حال رئيس الوزراء كما يقول المثل (عريان في ... ولابس سديري) .
وهنا سأقوم بسرد واقعة تدلل كم وصل الأمر بهذا الحزب العجوز وكم صار أتباعه يتعاملون مع نداءات إمامهم ولا حوجة للوصف فالحال يحدث عن نفسه ....

عندما خرج السيد الإمام في عملية تهتدون بقيادة إبنه عبد الرحمن ووصل الحدود الشرقية إلي أرتريا أطلق نداء شهير لشباب حزب الأمة للخروج (الهجرة تأسيا بالهجرة الإسلامية الأولي) فقال الرجل الإمام :

اقتباس:
وجبت الهجرة شرقا علي كل شبابنا ، فكل من بلغه خطابي هذا من الشباب ، عليه التوجه لمناطق الهجرة المحددة ليساهم في هذه المهمة التأريخية.
وبعد الإستشهاد بالقرآن لتأكيد مشروعيتها الدينية

" قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ... الآية" .... ثم أوضح لهم محاسنها الدنيوية
اقتباس:

(هي نجاة للشباب من أن يزج بهم في مغامرات النظام الآثمة ، نجاة للشباب من أن تطحنهم ظروف المعيشة القاتلة ) .

نعود لنعرف كيف تمخض جبل وهم الإمام ليلد فأرا ....

كانت تلك هي الخطوة الثانية في أنشطة الإمام بعد خروجه من السودان ... ومرة أخري كبا جواده وسقط فارسه بعد أن استفتي نفسه وسط محبيه ومريديه فلم يصل إلي الخيام التي نصبت للمهاجرين في المناطق المحددة علي الحدود إلا 139 عنصرا!!! فخاب ظن المهدي الذي كان قد أسرً لأعضاء هيئة القيادة في التجمع أنهم بصدد استقبال عشرة آلاف مهاجر!!!! والواضح أن المهدي في خطوته تلك لم يراع التغيرات البنيوية التي حدثت في المجتمع السوداني.
وقبل هذا لم يفكر الإمام ماذا صنعوا للناس في العهد الديمقراطي من منجزات حتى يخرج الأحباب للقتال في سبيل عودته وعودة الديمقراطية؟؟
وطبعا عرف الرجل حجمه وأفاق من الوهم الكبير ليتحول نداءه إلي ما سماه ب "الجهاد المدني"
وعاد هو نفسه في "تفلحون" وكان أول العائدين المنكسرين بعد أن خاب فأله وعرف أن ما يبحث عنه تركه ببسطام ، عاد وظلت كوادر حزبه حتى اليوم تعيًر الآخرين بعودتهم للداخل وهو من سنً المعاصي وحتي جهاده المدني راح شمار في مرقة التنظير ..
عاد وترك المهاجرين في شتات المعسكرات وعادوا بالأمس القريب ليحتلوا دار حزب الأمة مطالبين بحقوقهم التي وعدهم بها "صادق الوعد" وأخلف وهذه ليست المرة الأولي التي يفعلها فقد تعرض دار الحزب أكثر من مرة للإحتلال بواسطة المهاجرين "الأحباب" أنصار المهدي . . وسنعود لكل ذلك.


*
المصدر خطاب الأمام لمريده بعد تهتدون وقد أذيع من خلال إذاعة التجمع بأسمرا وسرب للداخل في شرائط كاسيت.
(من كتاب سقوط الأقنعة ) .


نواصل كشف المخازي "الأمية" .



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 11-12-2006, 01:18 AM   #[8]
Abu Marwan
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

[B] Dear Uncle Shawgi
You wrote
في بداية سنة 1963 تعرض العالم المعروف السراج زوج والدة الصادق المهدي.

.Allow me to say that this information is not correct
I would kindly ask you to delete it from your post
Regards



Abu Marwan غير متصل  
قديم 11-12-2006, 09:58 AM   #[9]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

[align=center](أبو القدح بيعرف يعضي رفيقو من وين)[/align]
[align=center]الصادق المهدي[/align]

هل كان الإمام يعني حرب النظام فعلا؟؟
وهل من هو مثله قادرا عليها؟


الإجابة بمنطق الأشياء تقول لا فالرجل قد هرب في مواجهة قلة من المدنين وهم بعد عودهم طري ويسهل قطعه فكيف به يحاربهم وقد ملكوا البلاد وطوعوا الجيش وسرحوا منه كل مكمن خطورة عليهم..
دعونا نري ما فعل "فصيح الأمة" ...


خطوة أخري أقدم عليها المهدي في السر احتار من علم بها في تفسيرها.. ففي الوقت الذي بدأ فيه متحمسا لخيار العمل العسكري ، وفي الوقت الذي طلب فيه من الأنصار "الهجرة شرقا" اختلس لقاء مع قيادي حكومي من وراء العيون بالرغم أنه حتى بالمنظور العاطفي ، لم يتسن له بعد مكابدة الشوق للوطن ، ولا الصبابة للأحباب .. التقي في آواخر مارس 1997 في لوزان بسويسرا الدكتور غازي صلاح الدين ومثلما أننا لا نعلم دواعيه ، كذلك لا ندري ما الذي رشح عنه غير الخبر الذي أزكمت رائحته أنوف المعارضين، وتعمد النظام تسريبه لأجهزة إعلامه بعد إجراء لفت انتباه المراقبين .. فقد توقف التلفزيون الحكومي عن بث برامج متصلة كانت تسخر من المهدي ومن مواقفه السياسية منذ خروجه إلي أسمرا . إذ صرح مصدر من أهل النظام للحياة في 14/4/1997 قائلا أنه :
"يعتقد أن المهدي يريد الإبقاء علي قنوات الاتصال مفتوحة مع الحكومة ، رغم تصاعد العمليات العسكرية ، كما أنه لا يريد أن يضع كل أوراقه في سلة واحدة مع المعارضة" .

هذا هو الإمام.. قلبه مع علي وسيفه مع معاوية... كان دوما هكذا حتى أيام خلافه مع عمه الإمام المرحوم الهادي المهدي كان يفاوض حكومة نميري حتى أنهم أرسلوه لعمه يحمل رسالة للأنصار في الجزيرة أبا وعندما عاد إعتقلوه . وعاد الرجل مرة أخري ليطعن المعارضة الوطنية في الظهر بعد عملية حسن حسين أو ما اصطلح علي تسميتها ب "المرتزقة" فعقد صلح مع نميري قاتل عمه وصار عضو في الإتحاد الإشتراكي؟؟!!
هذا هو المهدي لا يعرف المتابع إلي ماذا يهدف ولا يعرف هو نفسه ما يريد...


في مداخلة أخري نحكي عن القداسة والمضحك المبكي في السياسة السودانية



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 11-12-2006, 10:10 AM   #[10]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
افتراضي أوبآآآآآآآآآآآآآآ

الأقوال المأثورة هي الكلمات التي تعاد وتتردد كثيراً.
منها التي يتناقله الناس: قال حسن لمحمد وسمع موسى الكلام ونقله لمروان الحكاه لعثمان وسمعه صدفةً زيادة الذي له إسلوب قصصي متميز فحكاه لجماعة بعد أن صاقه بزيادة وبإسلوبه المميز وأصبحت القصة لها رواية مغايرة للحقيقة بعيدة عن الواقع.
كذلك من الأقوال المأثورة اتلك الكلمات التي تصدر من أشخاص مشهورين ويرددها الناس في مناسبات كالتي صدرت فيها أو في مناسبات مشابة. ..................
من هذه الكلمات واحدة كان يستعملها الخال محمد بدري (أنصاري علي السكين ذي شوقي كدا ومتعاطف مع الشيوعين وصاحبهم)
كان يقول حين حدوث أمر كبير أو مفاجئ متواقعا او غير متوقع كلمة (أوبآآآآآآآآآ)
أستعمل هذه الكلمة بعد دخول الحبيب شوقي بموضوعه ( من كان منكم بلا خطيئة)
الخطيئة في حكم العرف غيرها من الخطيئة في حكم الشرع والخطيئة في مفهوم البشر يتفاوت مقياسها والخطيئة العظمى هي التي أجدت بنو بشر على وجه العريضة؛ ما بين حواء وآدم الذي جاءت من ضلعه؛ أخطاء حين لم يسمع كلمات ربه وسمع للشيطان... قصة التفاحة معروفة....
والخطيئة العظمى هي التي كانت بين الأخويين اللذان قتل أحدهم أخيه لينال شقيقتهما ويخلف هذا البشر (يعني اولاد ...... من قديم الزمان وعليه خرجت هذه الصفة عن كونها أمر غير طبيعي،،،، يعني ما حاجة بيستعلوها للوصف ذماً أو مدحاً)
أوبآآآآآآآآآ تخريمة،،،،
الحبيب شوقي أتناقش معه كثيراً في إمور السياسة وفي أكثر الأحيان حين يغلبني (ليس بالمنطق ولكن بالمحاجة) أقول له:
يا شوقي يا أخي في المحترفيين وفي الهواة.
حقيقة وشوقي زاتو أنا متأكد أنه يتعرف بيها، أنه من هواة السياسة وليس محترفيها؛ كان أقرب ليكون من محترفي الملاكمة ولكنه تركها....
أثار شوقي موضوعا خصبا للنقاش وأول المستجيبين له الحبيب خالد، طبعاً ساني قلمو ومستني الفرصة من زمان، يضارى بي جاي وبي جاي من ود العمدة،
كنت قايلو عمل بوصية، العميد يوسف بدري ليا في إحدي المرات، كنت ترأستو إجتماع تأسيس جمعية وطنية في مجال مكافحة المخدرات وشم البنزين في السودان (يعني عمل عظيم ما قام بيهو ولا فكر فيهو جنس سوداني إلا أنصاري وحزب أمة،،، ماهي المسئولية (البلد بلدنا وإحنا أسيادا ،،،، تشهد كرري و الشكابة)
أوبآآآآآآآآآ تخريمة،،،،
المهم وصية العميد ليا: يا بابكر ما ممكن تترأس الإجتماع وتتملكو؛ قولة ود البنا: أنتا خصيمي وأنت الحكم
آها اااااااا دحين ياسيد البيت يا ود الحاج البركة ،،، إنت المضيف وواجب الضيافة إنتو الشوايقى أسيادو، يعني لو بقيت في صف أو جهة محابيها على أخرى،،،، معناها عديل كدي يا التانيين مع السلامة؛ طبعنا إحنا السودانيين بنحرد، وعليه يالحبيب خليك برى الحكاية دي، وإن عصرتك قولة الحق خلاص أعمل ذي ناس تانيين كتير وأكتب بي إسم حركي أو مستعار ............
والله الكلام دا حرصاً على عمل عملتو جميل ما بكرة الناس تاكل وشك فيهو ويقول خالد عمل ليهو ويب وإستلمو
ودا من منطلق طبيعتنا إحنا الأنصار وحزب الأمة وأتحدث بكل صدق وأمان، قلبنا على السودان وعايزين ناوس يبقوا أحسن مننا، (يا ريت يقدروا) ودي صفة ما تلقاها إلا عندنا والعزيز شوقي يكون سمع من سلمان قولة أنو الأنصار هم الميمات التلاتة.
قولة أخيرة؛ هناك في السودان ثقافة تبنتها مجموعة سودانية (وأقول سودانية تأكيدا لإنتماءها للبلد جغرافياً) هذه الثقافة قامت على كراهية الأنصار والتحريض على ذلك؛ حين أن البعض من الغالبية العظمى للسودانيين هم أنصار جدودهم حاربو االترك ولإنجليز والمصريين، يعني يكاد يكون كل جدودنا كانو أنصار،
والتعدي على الأنصار يصب في تلك الثقافة والتي توارثتها مجموعات هي الوارث الوحيد لها،،، أوصيكم يا أحباء عدم الوقوع في المستنقع،،،،، وعشان كراهية أشخاص نتعدى على قوم عظيم



بابكر مخير غير متصل  
قديم 11-12-2006, 10:26 AM   #[11]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Babiker Mukhayer

المهم وصية العميد ليا: يا بابكر ما ممكن تترأس الإجتماع وتتملكو؛ قولة ود البنا: أنتا خصيمي وأنت الحكم
آها اااااااا دحين ياسيد البيت يا ود الحاج البركة ،،، إنت المضيف وواجب الضيافة إنتو الشوايقى أسيادو، يعني لو بقيت في صف أو جهة محابيها على أخرى،،،، معناها عديل كدي يا التانيين مع السلامة؛ طبعنا إحنا السودانيين بنحرد، وعليه يالحبيب خليك برى الحكاية دي، وإن عصرتك قولة الحق خلاص أعمل ذي ناس تانيين كتير وأكتب بي إسم حركي أو مستعار ............
والله الكلام دا حرصاً على عمل عملتو جميل ما بكرة الناس تاكل وشك فيهو ويقول خالد عمل ليهو ويب وإستلمو
ودا من منطلق طبيعتنا إحنا الأنصار وحزب الأمة وأتحدث بكل صدق وأمان، قلبنا على السودان وعايزين ناوس يبقوا أحسن مننا، (يا ريت يقدروا) ودي صفة ما تلقاها إلا عندنا والعزيز شوقي يكون سمع من سلمان قولة أنو الأنصار هم الميمات التلاتة.
قولة أخيرة؛ هناك في السودان ثقافة تبنتها مجموعة سودانية (وأقول سودانية تأكيدا لإنتماءها للبلد جغرافياً) هذه الثقافة قامت على كراهية الأنصار والتحريض على ذلك؛ حين أن البعض من الغالبية العظمى للسودانيين هم أنصار جدودهم حاربو االترك ولإنجليز والمصريين، يعني يكاد يكون كل جدودنا كانو أنصار،
والتعدي على الأنصار يصب في تلك الثقافة والتي توارثتها مجموعات هي الوارث الوحيد لها،،، أوصيكم يا أحباء عدم الوقوع في المستنقع،،،،، وعشان كراهية أشخاص نتعدى على قوم عظيم
سلامات يا دكتور
عساك بخير

شوف يا زول أنا خالد الحاج ده هنا (عضو) عضووووووو
يعني للناس علي حق أنا لا أنتقص من حريتهم ولي عليهم حق أن أكون عضو أتفاعل بالفعل ورده ... شفت كيف
دحين كخالد العضو لا يزال ود العمدة ودكتور مخير يكتبون في سودانيات بكامل الحرية..
وسأمارس حقي كاملا في النقد وبأسلوبي غير منتقصا منه شيئ.

وبعدين يا دوك ما كنت يوما البادئ وعندي ما يؤلم "أي والله" يؤلم بشدة ..
ظللت أداري في ود العمدة أهشه مرة فيكسر العدة أتركه مرات فيكسرها حتى ظن الرجل بنا الهوان..
اليوم لك علي أن تنتقدني إن كذبت أو أتيت بما هو غير حقيقي... غير ذلك لك أن تقرأ ولا تملي علي ما أكتب
هذه حريتي وأنا لن أرضي بغيرها.

وبالمناسبة لا قداسة في السياسة وسأخصك بهدية :

تقول يا دوك :


اقتباس:
في 88 سافرت مع السيد صادق الي دافور وبرفقة سيد صادق كانت مجموعة من أهلنا الأنصار الغرابة وهناك أقام عمي عمر الحاج وزوج عمتي (لزم)، مأدبة غذاء للوفد،،، كأحد أهل البيت كنت أقوم بخدمة الضيوف ومن ضمنهم أهلنا أنصار الحزب. كنت ألاحظ أعينهم كأنها تخرج من مكانها تشع بإستغراب وتحمل كما من التسأولات. تحملت علي نفسي تلك النظرات وتحملوا على أنفسهم حفظ التسأؤلات حتى عدنا الي أمدرمان.
هناك جأني عم فضل علي في مكتبي بأمانة الشباب في دار الحزب (كنت مسئول الشباب بالحزب حينها) بروح غير التي كانت تقلب عليه في الفاشر، حدثني بروح هادئة خالية من الفضول أو الريبة أو حتى القليل من الإستغراب وأذكر أنه قال لي بالحرف الواحد: يا دكتور كنا دايماً في الحزب هنا بنسألو؛ سيد صادق جاب لينا (الليبي) دا للشباب في الحزب، لين في الفاشر عرفنا أنك مننا.
شفت يا دكترا، التفرقة ما بس حقت الجلابة حتى الغرابة ما هينين وأظنها دي سنة الحياة.
المصدر:
http://sudaniyat.net/vb/showthread.php?t=4158


وأنتم يا صديقي تقدسون الأشخاص وهنا أنت لم تنتبه لما يمكن للقارئ أن يستشفه بين الحروف..
أنت دكتور كبير بالنسبة لهؤلاء البسطاء الذين أصابهم الوجوم حين شاهدوك تخدمهم بيدك؟؟ أنت مسئول الشباب في الحزب العتيق...
وعرفوا حسب تعبيرك أنك منهم بعد أن شاهدوك تخدمهم... شفت كيف؟
وسؤالي لك هل كنت ستخدمهم بنفس التواضع إن لم يكن الإمام في معيتك يا دوك؟
طبعا أرجو أن تجيبني بأمانة؟

خليها علي الله يا صديقي ما كنت يوما من الكارهين للأنصار ولي صدقات مع بعضهم أعتز بها لكنكم بدأتم الشينة أها خموا وصروا وعلي قول برشم كل زول عنده كي بورد .
وتابع معي فضائح حزب الأمة القومي ولا شيئ شخصي يا دوك لك كامل تقديري واحترامي ولكنها السياسة .. .



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 11-12-2006, 10:55 AM   #[12]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
افتراضي

يا ود العمدة الكبير الله
يمكن إسلوبي في الكتابة متخلف شوية ما حضاري
أن قلت أنو عمنا فضل علي، إفتكر أني ليبي،،، إلا إذا كان عندك الليبي لأنو أبيض ومن الشمال كبير ....والله وأعلم
الحبيب والله عمنا فضل علي وأشهد العزيزة حسب سيدها وبناتي،، لمن كان بيجيني في البيت بعد الإنقلاب ويفطر أو يتغدى معايا لو ما أنا ذاتي وحدى من بناتي نكب ليهو الموية عشان يغسل يديهو
الحبيب يعني في كلامي دا كلو ما عجبك إلا حكاية قولة العميد،،،، ليه ما علقت على الخطيئة الملازامنا من آدم وحواء وأننا أولاد الناس ديك،،،،،،، والكان مننا بالخطيئة يبقى ما بشر



بابكر مخير غير متصل  
قديم 11-12-2006, 10:59 AM   #[13]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Babiker Mukhayer
يا ود العمدة الكبير الله
يمكن إسلوبي في الكتابة متخلف شوية ما حضاري
أن قلت أنو عمنا فضل علي، إفتكر أني ليبي،،، إلا إذا كان عندك الليبي لأنو أبيض ومن الشمال كبير ....والله وأعلم
الحبيب والله عمنا فضل علي وأشهد العزيزة حسب سيدها وبناتي،، لمن كان بيجيني في البيت بعد الإنقلاب ويفطر أو يتغدى معايا لو ما أنا ذاتي وحدى من بناتي نكب ليهو الموية عشان يغسل يديهو
الحبيب يعني في كلامي دا كلو ما عجبك إلا حكاية قولة العميد،،،، ليه ما علقت على الخطيئة الملازامنا من آدم وحواء وأننا أولاد الناس ديك،،،،،،، والكان مننا بالخطيئة يبقى ما بشر
كلنا لآدم يا صديقي وآدم خلق من تراب وهذا ليس موضوعي الذي أناقشه
حتى ترميني بقفاذ العنصرية. أنا أتحدث عن أبوية أعطت الإمام حق تعيين أشخاص لا يملك أهل المناطق أن يعترضوا عليهم وفي حالتك كانوا حتي لا يعرفونك ، الجماعة افتكروك ليبي .. الشكية لله

ستكون مداخلتي القادمة عن القداسة يا دوك سيبك من الزعل وتابع

لك محبتي



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
قديم 11-12-2006, 11:26 AM   #[14]
بابكر مخير
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية بابكر مخير
 
Thumbs up Take it easy my Dear

يالسنجك لك كلام من رباطابي
من فتال حبال قاصد طوابي
للعنصرية ود بحر تلقاه بوابي

قلت ليك عمي فضل، والعمومة عزة نسب
ومافي زول لي أهلو بيسب
العمومة لقب نيخص بيهو زول إنحب

صحبانك في الحزب قلت ليا كتار
وأنا صحباني في حزبك ناساً كبار
وعندكم ووبين ناسنا تلقى برضو صغار

صغارة الفهم
وكبرة الوهم
أخير منها البكم

وأنا أخير ليا أشوف ما أتكلم
مدام مصر تبقى الخصيم والحكم
وخلي ود العمدة براه يعاني الألم


بالمناسبة برضك حبيب وطيب وربنا يوفقك يا عزيزي....
بعدين ،،، يا أخي السياسة ودتنا وين؟ أهو إتخاصمنا في السودان لمو فيهو الجهجية وصيعونا
أكتب يازول وقول، على قول المصريين، حبايبنا
رأصني يا جدع



بابكر مخير غير متصل  
قديم 11-12-2006, 11:38 AM   #[15]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

[align=center](العنسيت بدقوه بي جلدو)
الصادق المهدي
[/align]


قداسة سجن قداسة....


يعيب علينا حزب الأمة وحتى أكون منصفا بعض عضويته أن قيادات الحزب الشيوعي "عجوزة" وأن الحزب لم يعقد مؤتمره العام لسنوات عديدة ، ويعيبون علي الحزب ظاهرة إغتيال الشخصية...
بعض ما جاءوا به حقيقة وهي جزء من أمراض السياسة السودانية لا شك في ذلك وللحزب أعذاره التي لا يمكن الإستهانة بها أقلها الضربات الموجعة التي تلقاها من النظم الحاكمة دمقراطية كانت (حل الحزب الشيوعي) أم دكتاتورية . مما جعل الإستثناء هو سيد الموقف إن تعلق الأمر بالمؤتمر العام وبالتخوف من المنشقين.

لكن في المقابل هل الأحزاب الأخري نظيفة ومبرأة من الأخطاء... ولدرجة التعامي عنها وتضخيم خطايا الشيوعيين؟

نحن يا سادة علي الأقل ننتخب قياداتنا... متي نزل السيد الصادق في انتخابات لرئاسة حزبه العتيق؟
حتي إمامته جاءت بوضع اليد وفي أسرته الكبيرة من هو رافض لها بل مُنصًبا نفسه إمام . وصراعاته مع كل من سبقوه يشهد بها القريب قبل البعيد بل وصل بهم الأمر للتصارع أمام عوام الناس وفي التلفزيون الحكومي حول وراثة قطع أرض والناس مندهشة لما يحدث ** هل هؤلاء هم قادتنا ؟؟؟

لم يحدث أن اتهم شيوعي بالفساد وفي هذا حزب الأمة فات الكبار والقدرو وكنت حاضرا بعض المهازل والله الشاهد حين كان مبارك المهدي وزيرا للتجارة كانت رخص استيراد السيارات تباع تحت ظل أشجار اللبخ في ساحة الشهداء أمام وزارة التجارة والنسبة المئوية محفوظة ...

ولن يحاكم السيد مبارك بتهمة الفساد بل سيعود لإبن عمه إن جاءت الديمقراطية يوما وسيعود دون شك وزيرا للتجارة... إن كان سيحاكم كانوا حاكموا قبله السيد الصديق لكن لسان الحال نطق به رئيس الوزارة حينها الأزهري عليه الرحمة (إنت جنيت؟) ... أي والله ويتحدثون عن القداسة؟؟؟!!!
يدعو الوزير إلي محاكمة مخطئ بحكم القانون فيكون رد كبيرالوزارة إنت جنيت؟
ويظهر عدد من (دروق أسيادهم يحملون الشيلة بشرها وخيرها) .. ويتحدثون عن أخطاء الغير...


اقتباس:

**
كان إعتقال الصادق المهدي صدمة لنا جميعا ، وكنا نعتقد بأن شخصا مثله يستطيع الاختفاء لمدة طويلة .. عندما انضم لنا بعد أسبوع كانوا أحضروه مساء وكنت فتحت له باب الكرنتينة (ج) فوجدته في ذات الهيئة التنكرية التي كان عليها حين اعتقاله .. غيًر فيها وضع عمامته ، لأن الأنصار يضعونها بطريقة تختلف عمًا هو شائع في وسط السودان ، وكان حليق الشارب والذقن ، ومع ذلك لم تكن بالنسبة لي طريقة تنكرية مائة في المائة ربما لأنني أعرفه ، وأذكر حينما خرجت من السجن أنه زارني للتهنئة جار لي ، بيننا علاقة جيدة ، وبعد أ، خلي المكان من الزوار استأذنني في الإنصراف لكنه قال لي :
أريد أن أسألك سؤلآ وأرجو أن تصدقني القول ... هل ود الإمام كان حالقا ذقنه وشنبه عندما جاءكم في السجن ؟
ولم أكن في حال أقول له غير الحقيقة ، لكنني فوجئت به يضع كلتا يديه علي رأسه وجلس علي الأرض، وظل يردد المقولة بصورة أقرب إلي الهستيريا حتى أشفقت عليه ..ولم أعتقد أن الموضوع يمكن أن يزلزل كيانه بالصورة التي مثلت أمام عيني فحاولت تخفيف الأمر عليه بقولي ، أن ذلك أمر عادي وساعدته علي النهوض ، فنظر إليً مليا وقال :
لو جانا في ود نوباوي وطلب الإختفاء فهل يستطيع مائة نظام أن يعرفه؟!

فقلت له : علي كل هذا اجتهاده.. فغادرني وهو لا يلوي علي شيء.
المسكين ظن أن النار ولدت شيء آخر غير الرماد وكان يعتقد أن حفيد المهدي سيخرج لها (يا غرق يا جيت حازمها) فهي له وهو رئيس النظام وحاميه..
المسكين ظن أن الإمام إن كان لا بد هاربا فأولي له الإختباء بكرامته عند محبيه وهو لا يعلم أن المهدي لا يثق حتى في أسرته وقد سقي العديدين منهم سم الخيانة وشرب هو من بعضها "مبارك الفاضل" .

فاجتهد الرجل وكان اجتهاده حلق ذقنه وشاربه والتخفي في ثياب النساء... ويا لها من قدوة ويا له من إمام.


نواصل في السجن فالحكي يطول ويحلو هنا ...


المصادر
**
برنامج في الواجهة لأحمد البلال الطيب.

***
مذكرات الأستاذ التجاني الطيب بابكر عن فترة الإعتقال الأولي.



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل  
موضوع مغلق

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 05:09 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.