فى قمة شعوري !!! النور يوسف

Camera .. ZOOM !!! معتصم الطاهر

حِينَ يُبْهِجُك الآخَرُون وَتُغْرِيكَ الكِتَابَة !!! عبد الله جعفر

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-02-2009, 11:50 AM   #[1]
التجاني الحاج عبد الرحمن
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي دويلات القبيلة في السودان:الحركة الإسلامية ومسئولية الإنهيار

** يتألف هذا المقال من ثلاثة أجزاء على النحو التالي: الجزء الأول، الأبعاد النظرية، الجزء الثاني، السلام المفقود، والأخير، مأزق دارفور، وقد كتبت جميع هذه الأجزاء خلال الفترة من 2006 وحتى 2008.

ــــــــــــــــــــــ
دويــــــــلات القـبيـــلة فـي الســــودان
الحركة الإسـلامية ومسئـولية الإنهيـار

الجزء الأول: الأبعاد النظرية

مدخل:
ما نحن بصدده هو محاولة تقييم عامة للحالة السودانية والفاعلين على مسرحها السياسي، ورؤية أبعاد الأزمة الوطنية والخيارات الممكنة. وفي هذا المسار العام، مدخلنا خلفية نظرية تلقي بصيص من الضوء على مكوّنات المجتمع السوداني، درجة تطوره وتأثير الآيديولوجيا الدينية. الهدف هو محاولة إيجاد تفسيرات أقرب ما تكون إلى المعقولية لما يحدث على الساحة، آملين أن تسهم بدرجة (ما) في صياغة حلول لمأزق "المشروع الوطني" في السودان، خاصة في المرحلة الدقيقة التي تمر بها الدولة والمجتمع معاً، والتي تشير كثير من القرائن إلى أن مصير بقائها ـ أي الدولة ـ موحدة كما ورثتها البنية السياسية الوطنية عشية الإستقلال، أصبح أمراً مشكوكاً فيه، تأسيساً على أرضية الحرب الأهلية طويلة الأمد التي عصفت بها ومزقت نسيجها الإجتماعي. إن السودان يمر بأزمة حقيقية ويواجه شبح التمزق، هذا الأمر لم يعد خافياً على أحد، ويتردد صداه في كل موقع.

لقد تصدر فهم بأن إتفاقية السلام الشامل الـ CPA وما تلاها من إتفاقيات كان مقدراً لها أن تكون أدوات لتفكيك قبضة النظام والحد من شموليته كخطوة أولية نحو تحقيق التحول الديمقراطي، ووحدة السودان على أسس جديدة. وهو التصور الذي رسخّه الزعيم الراحل د. جون قرنق، عبر حوارات مطولة، إستطاع بها من جهة ـ وإلى حد كبير ـ إقناع فصائل قوى السودان الجديد، وتقليل مخاوف القوى التقليدية من جهة أخرى.

لذلك؛ فإن الأمر يتطلب دراسة عميقة لتحليل عناصر الأزمة، ولفت الإنتباه إلى خطورة هذه المرحلة. لأن مايجري في السودان الآن على مختلف الأصعدة، تلعب فيه الدور المركزي، علاقات القربي، روابط الدم، والتكتلات القبلية/العشائرية، حتى داخل أروقة حركات الإسلام السياسي الحاكمة والمعارضة، والتي أصبحت بحق "صراعات قبائل إسلامية" ، أكثر من كونها صراعات بين رؤى متباينة. وهو مايضع السودان اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على إستقلاله، على أعتاب التشظي والتحوّل لدويلات قبيلة بمعنى الكلمة(!).

إن ذلك لايجد أساسه في التقلّبات التي تعصف بسماء الأحوال السياسية في السودان، والتي يتم ردها في الكثير من التفسيرات إلى الإختلال في قسمة الثروة والسلطة، فهي وعلى الرغم من أهميتها، ليست سوى تجلي للأزمة العميقة الكائنة في أسس التفكير التي قادت ووجّهت ـ ولا زالت ـ العملية السياسية. إضافة إلى تأثير الثقافة السائدة، ودرجة تطور المجتمع. هذه العوامل مجتمعة مثلت القاعدة الأساسية الذي إرتكزت عليها ـ ولا زالت ـ الممارسة السياسية في السودان، فكان طبيعياً أن تندلع النزاعات هنا وهناك بحثاً عن إعادة صياغة للدولة والمجتمع بما يتوافق مع واقع التعدد، ويحقق درجة مقبولة من التعايش والإستقرار بين الكيانات الإجتماعية المختلفة في السودان.

لذلك؛ نجد إن إستيلاء حركات الإسلام السياسي على السلطة في 1989 ومسيرتها المستمرة في الحكم حتى اليوم، علامة فارقة في تاريخ السودان السياسي المعاصر، لأنها دفعت بالأزمة إلى نهاياتها القصوي، وكشفت حقيقة التناقض التاريخي وبُعد المسافة، بين طرق التفكير والآليات التي مارست الفعل السياسي وحكمت في السودان، وبين الواقع الموضوعي فيه، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى الإقصاء والتهميش، والنزاعات الدموية، وأوصلت الدولة إلى نقطة اللاعودة في مسار الإنفجار الشامل والتشظي.

خلفية نظرية:
درجة تطور المجتمع:
من المهم البدء بمعرفة درجة تطور المجتمع في السودان كإحدى المداخل لرؤية أبعاد الأزمة، لأن طبيعة العلاقات والروابط السياسية في أي مجتمع تتحدد بمدى درجة تطوره. ومن ثم تأتي مناقشة دور "الشريحة المسيطرة" فيه، كخطوة تعكس طبيعة وأبعاد الصراع في المجتمع. والمعني بالشريحة المسيطرة، تلك التي ظلت مهيمنة وممسكة بمقاليد السلطة والنفوذ، وهي في الحالة التي ندرسها هنا (حاملي الوعي بالثقافة العربية)، وتخصيصاً مجتمع الوسط في السودان. وتتجلي هذه السيطرة في أقصى صورها في تيار الحركة الإسلامية الحاكم اليوم بكل تفريعاته، بحكم إنعدام الفارق الجوهري بين الحركات أو التيارات التي تصدر في رأيها من منطلق إسلامي مهما كانت تدرجات ألوانه، لأنه في نهاية التحليل إختلاف كمي يعكس قرب أو بعد هذه المنظومة أو تلك من حافة التطرّف، لكنه بأي حال ليس نوعياً قائماً على رؤية ومنهجية مصادمة لأسس تفكير الإسلام المدرسي.

يُطلق على المجتمعات التي لم تتطور بعد إلى مرحلة الرأسمالية، بالمجتمعات "السابقة للرأسمالية"، Pre-Capitalistic Societies”"، والتي تقع دول العالم الثالث في أفريقيا وآسيا ضمن نطاقها. ويأتي هذا التصنيف نتيجة للكثير من الدراسات التي قام بها بعض الإشتراكيين على ظاهرة مايسمى بنمط الإنتاج الآسيويAsian Mode of Production . وينطلق ريجس دوبري في قراءته لهذه المجتمعات من مناقشته للعلاقة بين الروابط السياسية وما يؤسسها في المجتمع، فيقرر فيها خلافاً للماركسية "الرسمية":

"... إن العلاقات السياسية ليست إنعكاساً لقاعدة إقتصادية، ولا هي "الإقتصاد المكثف" كما يقول لينين، ولا هي تجد تفسيرها في الأشكال التي تظهر فيها نفسها بنفسها. وتفسير هذه المقولة هي أن الظاهرة السياسية ـ في مثل هذه المجتمعات ـ لا يؤسسها وعي الناس، آراؤهم وطموحاتهم، ولا ما يؤسس هذا الوعي نفسه من علاقات إجتماعية ومصالح طبقية، بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه إسم "اللاشعور السياسي" والذي هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطاً لايقاوم، علاقات من نوع العلاقات القبلية والعشائرية والعلاقات الطائفية والعلاقات المذهبية والحزبية الضيقة، التي تستمد قوتها المادية الضاغطة القسرية، مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر ما يقوم بينهم، بفعل العلاقات نفسها من نعرة تناصر أو فرقة وتنافر، وهذه البنية من العلاقات اللاشعورية تبقى قائمة فاعلة رغم ما قد تتعرض له البنية الفوقية في المجتمع من تغييرات نتيجة التطور الذي يحدث للبنية التحتية المقابلة لها، فهي ليست جزءاً من تلك، وبالتالي فهي لا تخضع لهذه بل لها وجودها الخاص المستقل عن البنيتين معاً: فالنعرة القبلية العشائرية والتعصب الطائفي والطموح إلى الحصول على المغانم، ظواهر تبقى نشطة أو كامنة، في كيان الجماعات، سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي..." .

هذه مقولة مفتاحية، وبالتالي، واضعين في ذهننا أن دوبري كان حينذاك يكتب وهو يفكر في المجتمع الأوروبي الذي أصبحت فيه العلاقات الإجتماعية التي من نوع العلاقات العشائرية، تحتل مكاناً يقع فعلاً خلف الموقع الذي تحتله العلاقات الإقتصادية المتطورة، (علاقات الإنتاج)، إلا أنه وفي المجتمعات السابقة للرأسمالية قديمها وحديثها (والتي من ضمنها بالطبع المجتمع في السودان) فالأمر يكاد يكون العكس من ذلك تماماً. فالعلاقات الإجتماعية ذات الطابع العشائري لا تزال تحتل موقعاً أساسياً وصريحاً في الحياة السياسية. لذالك؛ فإذا كانت وظيفة اللاشعور السياسي لدي دوبري عند دراسته للمجتمع الأوروبي هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي، فإن وظيفته عند دراسة المجتمعات السابقة للرأسمالية هي إبراز ماهو سياسي في السلوك الديني والعشائري.

من هذا المدخل، واضح أن هناك تمييز في العلاقات السياسية بين تلك التي تنشأ وتقوم في المجتمعات الرأسمالية، وتلك السابقة لها، ففي الأولى تقوم هذه العلاقات على أساس من التمايز الطبقي الواضح، وهو ما يعني؛ أن الصراع في هذه المجتمعات تحركه المصالح الإقتصادية المرتبطة بالطبقة الإجتماعية (برجوازية، رأسمالية، طبقة عمال)، بينما في المجتمعات السابقة للرأسمالية نجد الصراع تحركه عوامل قد تكون دينية، طائفية وغيرها.

عليه؛ نحن هنا إزاء ملاحظة جد هامة ومفصلية فيما يتعلق ببحثنا عن أزمة الممارسة السياسية ونائجها في السودان، لأن أسس هذا التفكير والممارسة المرتبطة به، تاريخياً موروثة من الثقافة الإسلامية العربية، فهذه الثقافة دخلت السودان بفترة قبل حملة عبدالله بن أبي السرح، وتقنن وجودها مادياً ومعنوياً من بعدها، وقد تبع ذلك تحوّلات عميقة في المجتمع، إذ أصبح القادمين الجدد من "الأعراب" هم ملاك الأرض والسادة عبر المصاهرة والنسب، الشئ الذي حقق لهم السيطرة على المجتمع والدولة عبر الثقافة، الدين وسلسلة الدم.

إذاً وبناءاً على مقولة دوبري فهو مجتمع سابق للرأسمالية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لأن هذه العلاقات لم تنتهي. وما يثبت ذلك سيادة العلاقات العشائرية فيه والتي مازالت حيّة إلى يومنا هذا. ويمضي كاتب آخر في مزيد من التوضيح:
"..... أما في العهد الإسلامي، فقد دخلت إلى السودان الكيانات والثقافة العربية الإسلامية على شاكلة (الاستعمار الاستيطاني)، وظلت تكتسب لها مواقع فيه ضمن كياناته وثقافاته المتعددة. وهي في ذلك مسنودة بخلفيتها الإمبراطورية من الناحية المادية، ومن الناحية المعنوية بما يعرف بـ(المد الحضاري) العربي الإسلامي، الذي من أهدافه بالطبع إعادة إنتاج الآخر داخل (الهوية) الإسلاموعربية أو على الأقل إلحاقه بسياقها الحضاري. هذا النهج الاستتباعي قد يبدو عادياً ومفهوماً ومعقولاً في إطاره العام في ذلك الوقت، ولكن إستمراره بعد إنهيار الحضارة العربية الإسلامية أصبح إشكالياً بالإضافة لإشكاليات أخرى في بنية ومحددات الثقافة العربية الإسلامية نفسها وكيانها الاجتماعي في السودان، مضافاً إلى ذلك الملابسات التاريخية التي جعلت من هذه الثقافة (المأزومة) (مركزية) في الوضعية التاريخية للدولة السودانية. وقد قامت سيطرة الكيان الإسلاموعروبي في السودان على مكاينزمات عديدة أهمها:
1. البطرياركية الأبوية القائمة على التشدد العرقي: فعبر ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال في معادلة التزاوج الأحادية الاتجاه، التي يأخذ فيها الكيان العربي ولا يعطي، تم طبع أجزاء عديدة من شمال وأواسط السودان بالطابع العربي عرقياً وثقافياً، وعبر الأسلمة ـ أي التحرك عبر المقدس ـ تم ويتم التوسع. ويقوم ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال (الاستعراب العرقي/الثقافي) على تزوج الرجال العرب بنساء (الآخرين)، وتكون الذرية وفق البطريركية الأبوية (عربية) ولا يعترف بمكوّنها الآخر. البنات يتزوجن حصرياً في الكيان العروبي، أما الأبناء الذكور فيواصلون طريق الأسلاف، وهكذا بمرور الزمن ينمو الكيان العربي على حساب الكيانات الأخرى التي تتآكل في نهاية المطاف. أما الأسلمة، فعبر الدعاة ـ الفكي، والطريقة الصوفية ومؤسسات التعليم الحديثة لاحقا ـ يدخل الناس الإسلام، وهو بالطبع يتضمن "أيديولوجيا العروبة" خاصة في تفسيراته السنية ومسوغاته لعُلوية المؤمن والعربي وتشريعاته في حصر زواج المسلمة. وتلقائياً يصبح العرب (أو بالحد الأدنى يتم تصويرهم على أنهم) أعلى شأنا عرقياً باعتبارهم على الأقل "حاملي الرسالة الأصليين"، وهكذا يواصل الكيان العربي تغلغله. وتبقى المشكلة فيما يولده هذا النهج من وقائع الإستعلاء العرقي والإجتماعي، خاصة في وجود التعددية والتباين العرقي والثقافي في ظل هيمنة الكيان الإسلاموعروبي على جهاز الدولة.
2. نشاط الاقتصاد الريعي العشائري (الطفيلي): ومعروف تاريخياً عن العرب والثقافة العربية ومن ثم الثقافة الإسلاموعربية إحتقار المهن والحرف والعمل اليدوي باعتباره عمل "العبيد أو الموالي". فحتى القطاع الحضري ـ غير الرعوي ـ يتبنى هذا النمط من الاقتصاد القائم على استثمار السلطة والتجارة التي لا تعنى بالإنتاج. ومن ثم التمسك بالجوهر العبودي في تقسيم العمل. وهذا النمط يتطلب بالطبع فرض (هويات) جزئية في المجتمع أي سادة (أحرار) وعبيد.
3. النزعة الاستبدادية المتشددة: فبسبب نظام التراتبية الاجتماعية القائمة على التشدد العرقي، ونمط الاقتصاد الطفيلي الذي يستلزم ليس فقط امتلاك السلطة بل الاستبداد بها، فقد كان وما يزال وعي السلطة في هذه الثقافة وعياً استبدادياً، والاستبداد لزيم الإقصاء، والإقصاء يتطلب في الواقع فرض هويات جزئية حتى في المجتمع الواحد لتحجيم وعي التنافس على السلطة مثل ما كان يوضع من أحاديث لتبرير ذلك كـ(الأئمة من قريش)..." .

وبالنظر إلى تركيبة المجتمع السوداني نجدها تتكون من قبائل وعشائر(تحدد معظم المصادر مايقرب من الـ 500 مجموعة إثنية). وقد ظل مجتمع الوسط (= المركز)، هو المسيّطر تاريخياً في السودان. فغالبية سكان الوسط هم من قوميات الشمال النيلي التي هاجرت إليه منذ فترة طويلة وتزاوجت مع سكانه الأصليين، إنضمت إليها مجموعات أخري من غرب السودان أثناء وبعد المهدية. كونت هذه الهجرات ومن بعدها الإستعمار، مجتمعات مدن الوسط، فعرفنا نموذج أمدرمان، والذي يعتقد البعض إنه يمثل التمازج والإندماج، غير أنه في واقع الأمر لم يكن إلا معمل كبير لإعادة إنتاج الثقافة العربية في ثوب جديد.

صنعت ثقافة أمدرمان ـ تقريباً ـ كل أنواع الفنون والقّيم والأخلاق التي مثلت فيما بعد الثقافة الرسمية للدولة، والتي كانت ـ ومازالت ـ على صعيد الوعي الجمعي ومخيالها الإجتماعي، تحمل جينات وقّيم وأخلاق الثقافة العربية شكلاً ومضموناً. في المقابل نجد أن قاعدة المجتمع الأمدرماني "الأنموذج" به تقسيمات تشرح نفسها بنفسها، فأسماء الأحياء تعبّر عن ساكنيها ومكانتهم في سلم التراتبية الإجتماعية، فعلى سبيل المثال الموردة كان يقطنها النازحين من الأطراف والذين تنحدر أصولهم إلى النوبة والفور، المساليت والفونج أو من يسمونهم في ذلك الوقت بالمنبتين(=الغير معروفة أصولهم)، ويسكن الملازمين وبيت المال والمسالمة وحي الأمراء والعباسية، إرستقراطية منحدرة إما من عرب الشمال، أو ما تبقى من إرستقراطية المهدية والتركية . هذا على صعيد التركيب الإثني، وكما قلنا فإن الثقافة السائدة هي الثقافة العربية. وبالرغم من هذا التمازج الذي توّلد مع الأيام، والذي وبدرجة من الدرجات طغى على التباين الإثني مع تطور الحياة الإقتصادية والمعيشية لأهل المدينة، إلا أنه ظل هناك ثابتان:

الأول: سيادة الثقافة العربية الإسلامية، لا وبل إنتشارها وحلولها تدريجياً محل الثقافات الأصلية للمهاجرين الذي أتوا من أطراف السودان المختلفة، والذين وبمرور الوقت أصبحوا جزءاً لا يتجزاء من هذا الوسط بقيمه وثقافته وتقاليده الجديدة (أي إعادة إنتاجهم بمرور الوقت). وما كان ذلك ليتحقق لولا آلة السلطة.

الثاني: بالرغم من هذا التمازج الذي تم عبر إعادة الإنتاج، غير أن التقسيم العشائري ظل حياً في النفوس في شكل مسكوت عنه، يحدد التراتبيات الإجتماعية. فالموردة هي الموردة، وهي "القرارقير" يتناسلون في بعضهم البعض جيلاً بعد جيل. وهذا المسكوت عنه موجود في اللاشعور بأشكال مختلفة، ويظهر هنا وهناك، ويحدد التراتبية الإجتماعية كما قلنا، أو كما تقول العرب (منازل الناس).

والنماذج لهذه التراتبيات ممتدة عبر السودان، وتكاد تكون في كل مدنه المختلفة، فلا تخلوا مدينة من حي إسمه الموردة أو ما يشابهه في الإسم ... الديوم والكنابي(الديوم جمع ديم، والكنابي جمع كنبو، وهو الحي أو التجمعات السكانية التي يقطنها عمال الزراعة أو النازحين والذين غالباً هم من غرب السودان وجنوبه). وكلها تحمل معها وصمة إنحطاط في السلم الإجتماعي، تقطع الطريق بينهم وبين الوصول إلى مواقع السلطة ومصادر الثروة. تؤكد على ذلك إحصائية الذين تولوا زمام الحكم في السودان. فكل الذين حكموا سواءاً عن طريق الديمقراطية أو الإنقلابات العسكرية هم من أبناء الشمال النيلي الممتد من الخرطوم إلى حلفا أو ما دونها. والذين وعندما نقارنهم ببقية أهل السودان فهم يمثلون أقلية بمعنى الكلمة، إذاً أين كان الباقين من هذه السلطة، وكيف إستطاعت هذه الأقلية أن تحكم وطوال تلك الفترة(؟!). إنها الآيديولوجيا (الإسلامية العربية) في صورتها المجردة، وآيديولوجيا "أولاد البلد" في صورتها المنتجة في أمدرمان. والتي يتم بها وعبرها تجييش جماهير الهامش وإعادة إنتاجهم ليخدموا هذه الأقلية، مرة تأتي عبر الإنتماءات الطائفية، أو التيارات القومية العروبية أو تيارات الإسلام السياسي ـ وكل من عاش وترعرع في مدن السودان وأريافه على وجه التحديد، يدرك مدي السلطة النافذة التي كانت للطائفية آنذاك، فمن ليس أنصارياً فهو ختمي، وتروي القصص والروايات عن الكيفية التي كان يسيطر بها أقطاب الطائفية وبإسم الدين وآلية الإقتصاد، على رقاب البسطاء وحتى المتعلمين منهم. والتي غالباً ماتنتهي إلى الإستحواذ على السلطة والثروة. مثال الطرفة التي تروى في الشمالية بأن السيد إذا مشى بقدميه في أرض فهي تعتبر ملكه(!)، مما أُضطر أحد المزارعين البسطاء ـ عندما رأي "السيد" يتجول في مزرعته ــ إلى حمله على كتفيه حتى لا تطأ قدمه أرضه وتؤول ملكيتها إليه. وقصص شبيهة أخرى. لذلك ليس من المستغرب إن نجد إن كل الذين حكموا كانوا من أبناء الشريط النيلي، فالبسطاء لم يكون سوى سلالم يرتقي بها السادة إلى أعلى مراتب السلطان.

عموماً؛ ومن زاوية منهجية، فإن أي وضعية تاريخية تجتمع فيها كيانات ماقبل برجوازية/ما قبل رأسمالية متنوعة ثقافياً، ومتمايزة عرقياً، ومختلفة دينياً، ومتفاوتة تاريخياً، في شكل دولة حديثة، يقود الإفتراض دائماً إلى أنه غالباً ما تقوم بعض هذه الكيانات بالسيطرة على جهاز الدولة، وتستثمره إقصائياً على مستويات عديدة، وتتحول المحددات الثقافية من لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة أيديولوجية، ويتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل، والديني مع السياسي، والمذهبي واللغوي مع الإجتماعي، وتكون النتيجة وضعية تاريخية مأزومة، يكون الصراع فيها صراعاً شاملاً، صراع هويات ضد هويات، صراع ثوابت ومتحولات عند كيان إجتماعي (ما) ضد ثوابت ومتحولات عند كيان آخر، بمعني؛ صراع كل ضد كل .

عليه؛ يمكن مقاربة هذه الوضعية بما خلص إليه ريجس دوبري بـ:"أن النعرة القبلية العشائرية والتعصّب الطائفي والطموح إلى الحصول على المغانم ظواهر تبقى نشطة أو كامنة، في كيان الجماعات سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي"(!) وأن هذه العملية تتم من خلال إستغلال الأرض كإحدى عوامل الإنتاج، وعلاقات القرابة والزواج والتحالفات القبلية، للسيطرة على النظم السياسية والإقتصادية عبر إستغلال الأرض والذين يعيشون عليها لمنفعتها الخاصة. والنتيجة أنه وفي السودان، وتبعاً لهذا السلوك تكونت طبقة مترفة جالسة على قمة الهرم الإجتماعي، تسيطر على من يخدمون الأرض" . وزاد الوضع تعقيداً أن أنظمة الحكم الوطنية المتعاقبة في السودان عملت على توظيف هياكل الدولة الإدارية [الموروثة من الإستعمار] لإضعاف سيطرة السكان المحليين والسلطات المحلية على الموارد. واستخدمت الهوية والأيديولوجيا (وخصوصاً القومية العربية والإسلام السياسي) لحشد الدعم للتعويض عن إخفاقات سياسة الدولة في الحكم وفي التنمية. فكانت نتيجة ذلك هي التخلف والاستبعاد والنزاعات والعنف" .

ومن بعد، يبدو إن الدوافع لم تتخطي قط، أهداف الإستحواذ على السلطة والمال عبر تحريك الآيديولوجيا الدينية وإستغلال العلاقات القبيلة والعشائرية، وهو مايدفع إلى أن البحث في مثل هذه المجتمعات ـ والتي من بينها السودان كما ذكرنا سابقاً ـ إلى أن يكون عن ما هو سياسي متخفّي خلف السلوك الديني والعشائري. بمعنى؛ البحث عن أهداف الإستحواذ على السلطة الثروة التي تقبع خلف الخطابات الدينية والسلوك العشائري للوسط في السودان، والتي نتج عنها هذا التهميش وإزدياد حدته مع تيارات الإسلام السياسي. ذلك لأن السياسة ظلت تمارس بإسم الدين حتى يومنا هذا، ويتم تاطيرها بالنظم والمرجعيات المعرفية الدينية بأشكالها المختلفة. صحيح أن التجربة العملية أفرزت حالة من التصادم في الوعي الجمعي للناس بين حقيقة أن هذه الظاهرة تمثل إستغلالاً للدين في السياسة، مع الأديان في جانبها كإعتقاد وطقوس تربط الفرد بإله متعالي، مما وضع مسائل مثل، الفصل بين الدين والدولة/السياسة، والهوية، كقضايا حدّية في أي رؤية لتطور السودان مستقبلاً.

إن السؤال الملح هل حدث جديد على طبيعة هذه العلاقات عندما جاءت تيارات الإسلام السياسي(؟). يفرض هذا السؤال نفسه بإعتبار أن هذه الحركات تدعي أنها تيارات حداثة في حقل الإسلام السني، مرتكزة أطروحات ومنظور للدولة ومؤسسة حزبية معاصرة، فهل هي فعلاً أحدثت فرقاً في المجتمع(؟؟)، إن الواقع يكذّب ذلك، بل ربما العكس هو الصحيح، إذ أن وضعية السودان التي وصفناها كمجتمع ماقبل رأسمالي يقوم على العلاقات الإثنية والعشائرية إزدادت حدة وتخلفاً في عهد تيارات الإسلام السياسي، تشهد على ذلك طبيعة الصراعات المسلحة التي تدور في الساحة الآن، سواءاً على صعيد حدة الإستقطاب الديني أو العشائري على مستوى الخطاب، أو النفي والإقصاء الذي وصل حد التطهير العرقي على صعيد المواجهة. ولم يقف الأمر عند الحرب في الجنوب، والتي وإن كانت في الماضي تبرر بأن الجنوب هو زنجي/ مسيحي مختلف عن الشمال المسلم/العربي، فإنها تمددت اليوم الى هذا الشمال العربي المسلم نفسه في دارفور والشرق وداخل الكيانات الأصغر من القبيلة نفسها. وترسم المقولات التي تذخر بها أدبيات الحركات المسلحة، حدود وجذور إشكاليات النزاع وأصله، وترده إلى سياسات التهميش التي ظل يمارسها المركز ضد الأطراف، وهو الأمر الذي في نهاية التحليل وصف لمظهر الأزمة وتطبيقاتها، ولا يكفي أن يكون سبباً. فالتهميش نتيجة، هذا صحيح، ولكن ما هي أسبابه وداوفعه(؟)، فهذا ما يجب معرفته ومعالجته.

الآيديولوجيا الدينية وجذور السيطرة:
يصف معظم السودانيين مجتمعهم، بأنه متديّن بطبعه، وعندما يقولون ذلك فإنهم يقصدون أن الفرد منهم أو الجماعات يقومون بواجباتهم الدينية من صلاة وصيام وزكاة كما عرفوها، أو توارثوها أباً عن جد منذ إنتشار الإسلام في السودان. وكثيراً مايسمّيه بعض الدارسين بـ (الإسلام الشعبي). ولم يكن يُعرف ـ وبأي شكل من الأشكال ـ عن هذه الممارسة الدينية أنها تنطوي على "واجبات سياسية" إلا مع ظهور حركات الإسلام السياسي. وخير مثال لذلك التيارات الصوفية التي إنتظمت أرجاء السودان منذ أزمنة ليست بالقريبة، فلم يكن يعرف عنها أي ميول للعمل السياسي، بل كانت عبارة عن جماعات تمارس شعائر التصوّف المعروفة. والحركات الوحيدة التي تنتمي لهذا الحقل ودخلت غمار العمل السياسي حتى الآن هي طائفتي الأنصار والختمية، ولظروف تاريخية معروفة.

يُرجِع حيدر إبراهيم تفسير نشأة حركات الإسلام السياسي إلى ما يطلق عليه [نظرية الأزمة أو التحدي والإستجابة]، بإعتبارها: "يمكن أن تكون مفيدة وعملية لفهم الظاهرة(ظاهرة تيارات الإسلام السياسي)، شريطة التعرض للجوانب المختلفة للأزمة" (...) ويمضي في التمييز بأن: "الإسلامويون (= فعاليات حركات الإسلام السياسي) يعطون خلافاً للعلماء والسلفيين الأولوية للعمل السياسي، والذي يأخذ الأشكال الثلاثة التالية أو مزيجاً منها: حزب من الطراز الغربي، أو حزب من النمط اللينيني أو جمعيات دينية نشطة تغطي مجالات عديدة أحياناً كبديل عن دور الدولة في المجتمع" . غير إن هذا التفسير(التحدي/الإستجابة) يربط مباشرة هذه الظاهرة بمؤثرات خارجية Stimulations ، تجعل من ظهور هذه الحركات مجرد ردة فعل لا أكثر، وهو الأمر الذي قد يكون مضللاً بدرجة (ما) في فهمها، وبالتالي لا نعتقد أنه قد يكون مفيداً إلا في سياق آخر، ومن الأنجع دراسة الأبعاد التاريخية والآيديولوجية المرتبطة بالدين التي تنتجها وتروج لها هذه الحركات، بإعتبارها الأساس الذي تنمو عليه وتجنى منه مكاسبها السياسية. ولإدراك مدى تأثير الآيديولوجيا الدينية ـ كعنصر حاسم داخل الحركات السياسية ذات الخلفية الدينية ـ لابد من وقفة أولاً لإجراء تمييز لهذه الحركات في السودان، ومن ثم معرفة طبيعة الأيديولوجيا الدينية لهذه التيارات وتأثيرها. وهنا يمكن التمييز بوضوح بين ثلاثة تيارات تتبنى أطروحات إسلامية وهي:
1. الحركات الصوفية(العرفانية) الأصل والمنشأة: وهذه إما؛ تيارات كانت بالأساس حركات صوفية دخلت العمل السياسي فيما بعد، وضعفت ـ إلى حد (ما) ـ وتحللت صلتها بجذورها العرفانية إلا من نتف صغيرة بقيت تمثل اللحمة الداخلية التي تشد أعضائها مع بعضهم البعض، وتقف كأساس آيديولوجي يرتدون إليه. والمثالين لهذا التيار ـ كما قلنا ـ طائفة الأنصار وحزبها السياسي (حزب الأمة)، وطائفة الختمية وحزبها السياسي (الإتحادي الديمقراطي). أو؛

تيارات مازالت على أصلها العرفاني ولم تتبنى أو تنشئي حزباً، بل تمارس السياسة بصورة غير مباشرة ـ "لاشعورياً" ـ عن طريق التحكم والسيطرة من بعد على قواعدها(والذين هم في هذه الحالة المريدين وأتباع الطريقة المعينة، المباشرين والغير مباشرين) عبر آليات التصوّف نفسها. وتُمارس السياسة هنا بواسطة شيخ السجادة، والذي (هو) من يحدد بطريقة "إيحائية" ـ بالإشارة ـ إلى أي صف يجب أن يقف أتباعه ومريديه في ساحات المعارك السياسية المحتدمة. وما يجدر إستداركه هنا تلك العلاقة المسكوت عنها، والتي كانت تربط بعض من حكموا السودان مع شيوخ هذه الطرق، والتي إنعكست على وضعيات الأخيرين في "الحياة الدنيا الفانية" من خلال مظاهر الثراء والإنفتاح على العمل الإقتصادي وإنشاء المؤسسات، والتي دائماً ما يتم تبريرها بأنها لدعم خلاوي حفظة القرآن وللعباد والزهاد(!). وبالتالي فإنها ـ أي التيارات التي من هذا النوع ـ تعتبر مرحلة أدنى من الصنف الأول، وتحولها إلى نمط ممارسة السياسة بصورة مباشرة ما هو إلا مسألة وقت، وأقرب نموذج لذلك هو حركة شيخ أزرق طيبة بالجزيرة والذي غادر سجادته ودخل معترك العمل السياسي المباشر.

2. تيارات الإسلام السياسي الحديث: وهذه حركات تختلف "أصولياً" مع حركات التصوّف وتنتمي إلى حقل الإسلام السني المدرسي. وهنا نميّز بوضوح بين نوعين لهذه الحركات:
أ‌. تيارات متشددة، مازالت متمسكة بأصول الإسلام المدرسي السني البياني، مثل الأخوان المسلمين، جماعة أنصار السنة المحمدية، التكفير والهجرة، جماعة البلاغ، حزب التحرير الإسلامي والحركات الشبيهة.
ب‌. تيارات "حركية" بتعبير بعض المؤرخين الإسلاميين، والتي سمتها البارزة أنها وعلى الصعيد التنظيمي/الحركي، لم تعد تتمسك بأصول الإسلام المدرسي السني على الأقل، بل أصبحت أقرب إلى الحركات السياسية اللبرالية في الغرب، وهي متطورة جداً على صعيد العمل السياسي، ونماذج لها: الجبهة الإسلامية (سابقاً)، المؤتمر الوطني، المؤتمر الشعبي وحركة العدل والمساواة.

وعلى الرغم من الجذر الآيديولوجي الواحد للنموذجين الأخيرين، إلا أن الفرق يكمن في درجة التطور على الصعيد السياسي/التنظيمي. وهذا الفرق أوجدته تجربة ممارسة السلطة/الحكم من جانب، والتشبيك مع رصيفاتها في باقي أنحاء العالم الإسلامي من جانب آخر. وبالتالي نخلص إلى أنه: "بالقدر الذي ترتبط به هذه المنظومات بالسلطة، تصطدم ـ من خلال التجربة ـ بخاصية ضعف التراث الإسلامي السني في التنظير لمسألة ممارسة السلطة وإدارة الدولة، ويبدأ تدريجياً في نفس الوقت، تحلل خطابها الإسلامي بصورته التي بدأ بها، عندما تواجهها التحديات الجديدة التي تقتضيها ممارسة السلطة وإدارة المجتمع، مما يجعلها ـ مكرهة ـ تتبنى المنهجية البرغماتية الأقرب للموقف العلماني على صعيد الموقف والممارسة السياسية في أغلب الأحيان". أي بتعبير محمد أركون، فإنها ـ أي الحركات الإسلامية ـ دون أن تعي ذلك، أو حتى تريده، تقوم بأكبر عملية علمنة في التاريخ، وهي وفي خضم صراعتها السياسية تكشف عن رهاناتها الزمنية.

وعندما نقيس ذلك على التيارات الإسلامية في السودان فإنه يمكّننا من رسم خط تطور لولبي متعرج لهذه الحركات. فالتيارات المتشددة(أنصار السنة وغيرها ليست سوى مرحلة متأخرة من الجبهة الإسلامية القومية، والأخيرة مرحلة متأخرة أيضاً من المؤتمر الوطني). والفرق بين هذه القوى في حلقة تطورها، هو مدى إرتباطها بالسلطة، لأنه الشرط الضروري الذي يحدد بصورة حاسمة، قرب أو بعد هذه الحركات من منابع خطابها الأصلي، ويشكّل ـ فيما بعد ـ مجمل التحولات الوظيفية والهيكلية التي قد تحدث داخلها وإنعكاسها على المجتمع والدولة.

عليه؛ فإن الحركات المتشددة دينياً والتي ما زالت في قاع سلم التطور، سيأتي يوماً (ما) وعندما ترتبط بممارسة السلطة، ستتحول إلى تيارات أقل تشدداً، بمعنى؛ قد يتحول أنصار السنة المحمدية في السودان في لحظة تاريخية معينة إلى نموذج أقرب إلى الجبهة الإسلامية أو المؤتمر الوطني . وينطبق نفس المبدأ على التيارات ذات الأصل الصوفي/العرفاني. وإذا ما قارنا ذلك بمراحل تطور الحركات الإسلامية الذي يورده حسن الترابي يمكننا التعرّف على صيرورة هذه الحركات خلال مسيرتها من المهد إلى اللحد والبعث من جديد، ويقسمها الترابي إلى أربعة مراحل هي:
1. مرحلة الدعوة: "حين يكون البعث الإسلامي محض "تيار" ومن مهامه المميزة ـ حينئذ ـ نشر الدعوة، مجادلة المنكرين ودرء الشبهات....إلخ".
2. المرحلة الثانية: "حين يتجسد التيار في "جماعة منتظمة" ... ومن مهامها عندئذ بعد الدعوة البناء الجماعي".
3. المرحلة الثالثة: "حين تستوى الجماعة فتصبح "حركة" فاعلة في المجتمع. وحينئذ تبرز لها حاجات وأولويات إصلاحية".
4. مرحلة التمكين والإستخلاف: "حين تتولى الحركة "قيادة" المجتمع وتنتصب في مواقع السلطان.. ويحق عليها ـ آنئذ ـ أن تستكمل مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات التطهير والتحرير والتغيير نحو التي هي أقوم دينياً وأصلح دنيا".

وقبل الدخول في تحليل مراحل تطور الحركات الإسلامية، تجدر الإشارة إلى نقطة خامسة سكت عنها الترابي، والتي هي في تقديرنا من أهم المراحل، لأنها تعطيها ديناميتها التاريخية، ألا وهي مرحلة التحلل/البعث. ومن دون الخوض وراء الأسباب التي دفعت بالترابي للسكوت، لكن موضوعياً من الضروري إضافة هذه المرحلة حتى نستطيع القول بإكتمال الدائرة. فالبناء للمراحل الموضوع بواسطة الترابي يحدد نقطة بداية، لكنه يترك النهاية مفتوحة غير محددة، أو لايغلق الدائرة بالعودة مرة أخرى إلى نقطة البداية، وفي كلا الحالتين فإن الأمر يتطلب وجود خاتمة (ما) وإلا صار الأمر وكأنما هذه الحركات ستكون هي نهاية التاريخ(!).

وبتحليل العلاقات الداخلية لهذه المراحل ومدى إرتباطها بحركة تطور تيارات الإسلام السياسي التي أشرنا إليها، يمكننا رؤية دينامية التحول في هذه الحركات من مرحلة إلى أخرى وصولاً إلى التيار السياسي الكامل.

المرحلة الخصائص المظهر السياسي
مرحلة الدعوة نشر الدعوة، مجادلة المنكرين ودرء الشبهات....إلخ "محض تيار"
المرحلة الثانية الدعوة والبناء الجماعي "جماعة منتظمة"
المرحلة الثالثة بروز حاجات وأولويات إصلاحية "حركة"
مرحلة التمكين والإستخلاف إستكمال مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات التطهير والتحرير والتغيير نحو التي هي أقوم دينياً وأصلح دنيا. "سلطة/حكومة"

الجدول أعلاه قد لا يرى فيه البعض جديداً بإعتبار أن الأمر لايتعدى مجرد رسم سياج حول نقاط مرتبة أصلاً، لكن الأمر غير ذلك(!). فبالنظر في عناوين الجدوال والترتيب من أعلى إلى أسفل وربط كل ذلك بمفاهيم التطور التاريخي، فإن الصورة التي نحاول تقريبها تصبح أكثر وضوحاً. فقائمة المظهر السياسي تعطينا إنتقال من حالة بدائية تتمثل في أنها "محض تيار" ـ كما ذكر الترابي ـ إلى مراحل أعلى تصل قمتها في مرحلة الحكم. إذاً ما هو معنى "محض تيار"(؟). ففي مثل هذه الحالات يكون شكل الإستقطاب في الغالب الأعم سرياً وهذا قد يكون لظروف مختلفة، إما لعدم إستساغة أو قبول المجتمع لهذه الحركة الجديدة، أو لضغط سلطة حاكمة، وبالتالي فإن الدعوة أو الإستقطاب للمفاهيم الجديدة تتم بصورة غير منظمة ولا يوجد إطار محدد تمارس من خلاله. وتفسّر قائمة الخصائص المقابلة طبيعة هذا النشاط، والذي هو في هذه المرحلة: "نشر الدعوة، مجادلة المنكرين ودرء الشبهات". وغالباً في مثل هذه الحالات يتخذ الطابع العقائدي المرتبط "بتعليم الناس أمور دينهم"، من كيفية الصلاة والزكاة والحلال الحرام وغيرها. وهذه الممارسة تجد لها أصول يتم القياس عليها والتمثّل بها. ولمعرفة ذلك لابد هنا من إستدعاء الدور الذي قامت به العقيدة في تكوين العقل السياسي عند الجماعة الإسلامية الأولى، والتي كانت حينذاك جماعة "روحية" (..) الشئ الوحيد الذي يربط أفرادها بعضهم ببعض هو الإيمان بالله وبرسوله" ، فالتشابه ما بين النمطين كما في حالته كـ"محض تيار"، بحالة الدعوة التي كانت تقوم بها الجماعة الإسلامية الأولى التي كانت تحيط بالرسول (ص)، هو من الناحية الطقوسية، ويجد تفسيره في الصراع الذي مر في التاريخ الإسلامي وإنتهي بسيادة "فرقة" أهل السنة والجماعة (المدرسة السنية البيانية) على العالم العربي بصورة خاصة، والتي تدعو إلى تمثّل سلوك الرسول (ص)، مع فارق جوهري كبير بالطبع، إذ إن الجماعة الإسلامية الأولي كانت تدعو لدين جديد وسط "الملاء من قريش"، والذين كانوا يقفون ضد هذا الدين، بينما جماعة الترابي لا تدعو لدين جديد، وإنما تمارس ـ في أحسن الفروض ـ النصح والإرشاد وتعليم الناس أمور دينهم.

لكن؛ هل بالإمكان عدم رؤية المضمون السياسي لهذه الدعوة (؟) وهل يمكننا القول أنها بلا مضمون سياسي ولوجه الله كما كانت تفعل الجماعة الإسلامية الأولى(؟). تجيب على هذا التساؤل المراحل التي تليها، والتي تنتقل بالمظهر السياسي للحركة إلى مستوى أعلى من حيث التنظيم، وبالمقابل يبدأ المضمون السياسي في التكشّف تدريجياً. فمن محض تيار ينشر "الدعوة" ويدراء الشبهات ويعلم الناس أمور دينهم، إلى جماعة منتظمة تواصل في نفس الدعوة، ولكنها تبدأ في تنظيم نفسها وتنتقل إلى المرحلة الثالثة كحركة كاملة النمو والتطور، تبرز حاجاتها السياسية، وصولاً إلى الحكم و"التمكين" كمرحلة أخيرة، حسب تصور الترابي.

إذاً؛ السؤال لماذا لا تفصح هذه الحركات ومنذ البداية عن مشروعها السياسي(؟) علماً بأن أي تيار أو حركة سياسية ومنذ البداية، تحدد مشروعها وتنطلق في إستقطاب الناس إليه. صحيح أنها قد تمر بنفس المراحل أو ما يشابهها، لكن الثابت أنها ومنذ إنطلاقتها تحدد موقفها السياسي كما قلنا. إن الإجابة على هذه السؤال تحدد بالضبط طبيعة الآيديولوجية الدينية التي نتكلم عنها لهذه الحركات وإختلافها مع التيارات السياسية التي لاتتحذ الأديان كأساس أيديولوجي، والتي من أهم خصائصها، خلق رابطة معنوية/آيديولوجية بين أفرادها قائمة على قوة المقدس الديني. وأحياناً ترتقي هذه الرابطة ومسوغاتها النظرية في قوتها لتساوي نفسها بالمقدس، أو تقف وكأنها الدين نفسه أو عين المراد الإلهي، متخطية بذلك قضية منهجية مهمة وهي "تاريخية الأديان" بعد إنقطاع الوحي. بمعنى؛ تحوّله بمرور الزمن إلى كم معرفي تراكمي من التفسيرات والشروح وشروح الشروح، الخاضعة لقواعد اللغة وشروط المتغيرات الإجتماعية والسياسية، وهو الأمر الذي يفسر ظواهر التشدد والتطرف للمنتسبين لهذه الحركات. فعدم الإفصاح عن المشروع السياسي منذ البداية هدفه غرس هذه الروح العقائدية المتشددة في الفرد والمجتمع، كسباً للولاء الأعمي الذي يحصدون به مغانم السلطة. وينسحب نفس السلوك على الحركات ذات الخلفية العرفانية .

لكن وعند الوصول إلى تخوم السلطة والحكم فإلأمر يختلف(!)، لأن الحكم يقتضي السياسة وليس الدعوة، وهذه تقتضي بهرج السلطان وبريقه من مال وجاه وغيره، وهنا تطل الخلافات والإختلافات برأسها. وهذه النقطة الأخيرة هي بداية المرحلة الخامسة التي سكت عنها الترابي في تصنيفه لتطوّر الحركات الإسلامية، مرحلة الإنهيار والتحلل ومدخل لبعث جديد. وقراءة التاريخ الإسلامي تعطينا صورة تكاد تنبض بالحياة. فقد بدأت الدعوة مع الرسول (ص)، وطوال حكم الخلفاء الأربعة لم تختلف كثيراً طريقة الحكم، بل كان طابع الدولة زمن الرسول والخلفاء هو طابع دولة الدعوة، إلى أن جاءت دولة "الملك العضوض" زمن معاوية بن أبي سفيان، حيث تحولت دولة الدعوة إلى دولة الملك الوراثي الصرف والتي مازالت مظاهرها باقية إلى يومنا هذا في الكثير الأنظمة السياسية المعاصرة. لقد إختط معاوية دولته وحدد مبادئها ، وقد دشّن بذلك قطيعة مع النمط السائد في الماضي، والذي كان فيه الأمر هو "العمل بكتاب الله وسنة رسوله" (دولة الدعوة)، إلى ما يستطيع الإلتزام به من كما يقول هو بنفسه: "مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة (...) وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فأقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فأقبلوه "، (= دولة الملك السياسي). وكان عمّار بن ياسر أول من تنبأ بذلك، وتذكر المصادر أنه نادي في صفين، وكان من قواد جيش علي بن أبي طالب: "أين من يبتغي رضوان الله عليه ولا يؤوب إلى مال وولد. فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس، أقصدوا بنا هؤلاء الذين يبغون دم إبن عفان ويزعمون إنه قتل مظلوماً. والله ما طلبتهم بدمه ولكن القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها وإستمرؤوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً.." فقد كان عمار بن ياسر يرى أن ولاية الناس وإستحقاق طاعتهم، تستند على السبق في الإسلام، أي الأساس العقائدي الذي تولّد لدى الجماعة الإسلامية الأولى حسب تجربته. لذلك كان هو أول من أزاح الستار عن "رغبات ومطامح الحصول على السلطة المتخفية خلف السلوك الديني والعشائري لبني أمية، وتخصيصاً معاوية في الدولة الإسلامية الوليدة" كما يمكن القول بتعبير ريجس دوبري. مشيراً في ذات الوقت ضمنياً إلى مظاهر التحلل في طورها الجنيني، والتي بدأت تأخذ طريقها مع بداية دولة معاوية وظلت تنمو وتتخذ أشكالاً مختلفة من الثورات مروراً بالدولة العباسية حتى آخر الممالك الإسلامية، الإمبراطورية العثمانية.

ومع ذلك؛ وعلى الرغم من الأساس العقائدي الذي إستند عليه عمار بن ياسر في تفسير هذا الإنقلاب، غير أن ذلك كان إتجاهاً ورؤية أملتها من جانب، طبيعة الإرتباط الروحي والمعنوي لعمار ونشأته في وسط الجماعة الإسلامية الأولى كأحد أوائل الذين أسلموا، ومن جانب آخر، تأثير وضعيته في المجتمع كأحد الموالي في ذلك الحين. مضافاً إليه ـ وفي السياق العام ـ أن التراث الإسلامي وحتى ذلك الحين وربما إلى ما بعده، لم يكن قد أرسى تقاليداً في الحكم، كما عرفتها الحضارات التي سبقته أو تزامنت معه، هذا من ناحية عامة. وحتى إن كان قد قدر للدولة في ذلك الحين أن تمضي حسب رؤية عمار كـ "دولة دعوة"، فإن القطيعة التي أنشأها معاوية كانت ستأتي حتماً في مرحلة تاريخية لاحقة، ربما على أيدي أناس آخرين. نعم قد تختلف عن أهداف معاوية بحكم العوامل التي قد تفرضها هذه المرحلة اللاحقة، لكن هذا ما كان سيحدث، لأنه منطق التطور التاريخي.

لذلك فوراء جرثومة التحلل أسباب عديدة، أهمها إن التحول والقطيعة التي بدأت مع حكم معاوية خلقت "مجال سياسي" حسب تحليل الجابري تمارس فيه السياسة، قام بالأساس على عنصر القبيلة بعيداً عن الدين، إستناداً على أن دولة الإسلام قامت على يد قرشي هو النبي (ص). وبما أن أصحابه من بعده قد حسموا الخلاف على أساس أن: "العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش"، فقد أعطت هذه المقولة والواقعة التي حدثت فيها ، شرعية لقريش للحكم، إنتقلت إلى معاوية في دولة الملك، وهو ما أكده هو نفسه، إذ تروي المصادر أيضاً أنه جاء في الحديث: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدّث أنه بلغ معاوية، وهو عنده في وفد من قريش، أن عبدالله بن عمرو بن العاص يحدّث أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام وأثنى على الله بما هو أهل له ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله، فأؤلئك جهّالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين" ويبدوا أن الأمر بالنسبة لمعاوية أضيق من أن يسع قريشاً بأجمعها، فهناك أيضاً تقسيم وتراتبيات داخل قريش نفسها. فعندما ذهب معاوية إلى المدينة يريد إقناع عبدالله بن عباس وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر(العبادلة المعروفين برواية الحديث عن النبي) والذين كانوا قد إمتنعوا عن مبايعة إبنه يزيد قال لهم: " لقد قلتم وقلتم. وأنه ذهبت الأباء وبقيت الأبناء، فإبني أحب إلىّ من أبنائهم مع أن إبني إن قاولتموه وجد مقالاً. وإنما هذا الأمر [لبني عبد مناف] لأنهم أهل رسول الله فلما مضي رسول الله (ص) ولي الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة. ولقد أخرجك الله يا إبن الزبير وأنت يا إبن عمر، فإما أبناء عمي هذان [عبدالله بن عباس وعبدالله بن جعفر] فليسا بخارجين من الرأي إنشاءالله" .

ويلاحظ في مرجعيات معاوية أنه لما جاءه وفد قريش وقال ما قال فيه عبدالله بن عمرو بن العاص، رد عليهم بمنطق الدين بحديث منسوب إلى الرسول "أن هذا الأمر في قريش"، ولكن عندما إحتدم حديثه مع العبادلة كان المنطق هو القبيلة وإن الأمر في قريش(حسب الحديث [المنطق الديني])، نعم، لكنه وفي إطار قريش فإنه تخصيصاً في بني عبد مناف(منطق القبيلة: "أنا وأخي على إبن عمي، وأنا وأخي وإبن عمي على الغريب")، لذلك ألمح إلى إبن الزبير وإبن عمر بأنهما ليسا من بني عبد مناف [ولقد أخرجك الله يا إبن الزبير وأنت يا إبن عمر]، مذكراً أياهم إن أبناء عمومته (عبدالله بن عباس وعبدالله بن جعفر)، سيعودون إلى إطار القبيلة. والمنطق الأخير له جذره التاريخي الذي يعود إلى ماقبل الإسلام، فالتقسيم الذي كان قائماً في مكة آنذاك إن لبني هاشم (عشيرة النبي) السقاية والرفادة (للكعبة)، ولبني عبد مناف السلطان. لذلك لم يكن معاوية بعيداً عن المنطق الذي حكم تاريخ قريش عندما آلت إليه الأمور، مذكراً بأن الأمر قد آل إلى أهل "الجزاء والكفاءة" كما يقول هو من بعد أبي بكر وعمر.

إن ما سبق يجعل لمقولة حيدر إبراهيم من أن قيام حركات الإسلام السياسي يجد تفسيره من خلال الإستجابة والتحدي قد لايجد القبول المطلق إستناداً إلى أن هذه الحركات تنطلق في نشأتها وخلفيتها الآيديولوجية الدينية من هذا التاريخ، والأمر ليس ردة فعل لظروف وتحولات عارضة في سماء السياسة في العالم العربي أو السودان، صحيح إلى حد (ما) القبول بهذه الظروف العارضة كعوامل مساعدة تسرّع من قيام هذه الحركات، لكنها ليست الأصل، والمضي في التفسير بهذا المنطق ـ الإستجابة والتحدي ـ يدفع بالباحثين مسافات عن فهم الجذور الحقيقية لهذه الحركات. وقد أجمل الجابري ذلك من خلال جهازه المفاهيمي الذي بناه لتفسير العقل السياسي العربي (الإسلامي/العربي في حقيقة الأمر) من خلال دور "العقيدة"، "القبيلة"، "الغنيمة" بإعتبارها عوامل متداخلة شكلت السلوك السياسي للعقل العربي وبطانته اللاشعورية. والرجوع إليه اليوم بالنسبة لنا لتفسير السلوك السياسي في السودان، كرجوعه (هو) إلى إبن خلدون في الماضي لتفسير السلوك السياسي في العالم العربي المعاصر، مع الوضع في الإعتبار بالطبع القضايا المنهجية المتعلقة بدرجة التعميم التي إقتضتها دراسته، والحالة الخاصة التي نتناولها.

الأصولية الجديدة:
من بعد إنقسام الجبهة الإسلامية في السودان في نهايات 1999، والذي عُرف في أدبياتها بـ "المفاصلة"، إنتهت الحركة الإسلامية إلى تيارين، أحدهما بقي في السلطة والآخر في مقعد المعارضة. ومؤخراً بدأ الترابي زعيم التيار الإسلامي بالمعارضة في تقديم خطاب جديد كلية على ساحة الحركة الإسلامية، مما دفع بعض من رفاقه القدامي لإتهامه بـ "الخرف" المبكر(!). غير أن القضية ليست بهذه البساطة، إذ أن الترابي بالفعل يطرح رؤية ليست مثيرة للجدل فحسب، بل ربما الأزمات أيضاً داخل ساحة الحركة الإسلامية. وعندما نستدعي خلفية الرجل وتاريخه السياسي، والإطار الإيديولوجي المرجعي الذي تخرّج منه ... المدرسة الإسلامية البيانية الأصولية في السودان بصفة خاصة، والعالم العربي بصفة عامة، ندرك خطورة ما بدأ يروّج له. وقد بدأت ملامح هذا الخطاب في الوضوح بعد آرائه حول زواج المسلمة من الكتابي(= المسيحي أواليهودي)، عذاب القبر، إمامة المرأة للصلاة وغيرها من القضايا الفقهية التي يصر على عدم تصنيفها في خانة الفتاوى. ومن دون الخوض في جدل حول صحة هذه الآراء من عدمها من الناحية الفقهية/البيانية ـ للإختلاف المنهجي الذي ننطلق منه ـ إلا أنها وحقيقة أصابت التيار الأصولي الكلاسيكي في صميم أسسه التي قام عليها تاريخياً ـ إذا رأيناها في إطارها المرجعي البياني التقليدي الراسخ. وهو ما يمكن القول أنها بداية التأسيس للأصولية الجديدة في السودان(!).

ففي لقاء مطول من سبعة حلقات للترابي على قناة الحوار التلفزيونية، كشف عن آرائه تلك، مستنداً في دعمها على نفس النصوص والمرجعيات الإسلامية التقليدية (القرآن، الحديث، الإجماع)، ودافع عن إمامة المرأة وزواج المسلمة من الكتابي ووجه في ذات الوقت الإسلاميين إلى ضرورة الإهتمام بالبحث في الإقتصاد والعلوم.

إن ما يجعلنا نقرر أن ذلك إتجاهاً جديداً في الفكر الأصولي، هو طرح الترابي لأراء كانت ـ وربما مازالت إلى الآن ـ من المساحات المحرم النقاش فيها داخل حقل التراث الإسلامي بشقيه السني والشيعي. على الرغم من أن هذه الآراء ليست بعيدة على التفكير العلماني وإستشهد في سبيلها كثير من المفكرين. فطرح مثل هذه القضايا من قبل الترابي كرجل "دين ودولة" لا يمكن إنكار خلفيته الأصولية الإسلامية، تهزم أحدى الأسس التي قامت عليها الثقافة الإسلاموعروبية في السودان ألا وهي "البطرياركية الأبوية القائمة على التشدد العرقي" ـ كما يسميها أبكر آدم إسماعيل ـ المسنودة بقوة المقدس الديني، والتي منحت المهاجرين من الآعراب السيطرة على السودان على حساب الإثنيات الأخرى.

بمعنى أن مثل هذا التنظير الذي يدعو له الترابي بإقرار زواج المسلمة من المسيحي في جانب من جوانبه، يحطم إحدى الآليات الرئيسية لآيديولوجيا السيطرة للكيانات الأسلاموعروبية، والتي كانت تتم عبر تحريم زواج "بنات العرب/المسلمات" من غير العرب/الغير مسلمين. إن تفنيد هذا الإدعاء بواسطة شخصية أصولية في وزن حسن الترابي، يعيد طرح علاقة الزواج الأحادية، التي أشار إليها أبكر أدم إسماعيل. بمعني؛ سيكون ذلك أكثر وضوحاً أن عرفنا أن علاقة التزاوج الأحادية السابقة أتاحت للمهاجرين من الأعراب في الماضي إمتلاك الأرض بحق وراثة الأبناء للآباء وليس الأمهات إحتكاماً للنصوص الدينية، وعندما يصبح الأب "كتابياً"، والذي في أغلب الأحيان يكون من القوميات الغير عربية، يرثه أبنائه وتعود الملكية إلى أصحابها الأصليين. وهذا ما لا يقبل به ـ في لاشعورهم ـ من لا زالوا يدعون الإنتماء إلى العرق العربي.

المحزن إن هذه القفزة تجعل من الترابي ـ رغم أنف العلمانيين ـ من مفكري الحداثة السياسية في السودان (!). ومهما يكن من أمر، يبقى هناك سؤال يفرض نفسه بقوة هو: لماذا تجراء الرجل على طرح هذه الآراء، وفي هذا التوقيت(؟)، هل ذلك نتيجة لتجربة الإنقاذ أم لعوامل أخرى متداخلة(؟).

يبدو من الوهلة الأولى إن ذلك وكأنما هو ردة فعل على إقصاء الرجل من سدة الحكم إذا إستندنا في التحليل على نظرية د. حيدر إبراهيم. ومع ذلك؛ فهذا لا يكفي لتفسير موقفه. فالمراقب للساحة يمكنه أن يلاحظ بسهولة إنحسار عنفوان الحركات الإسلامية عبر العالم (أفغانستان، الجزائر، تركيا، إيران، والسودان). والتي كانت قد بدأت تفرض نفسها كبديل بقوة بعد إنهيار المعسكر الإشتراكي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وتمكنت من أن تصل للسلطة وبوسائل مختلفة. والأرجح أن الترابي قد أدرك إتجاهات التفكير الغربي من بعد إنهيار المعسكر الإشتراكي وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي بدأت ترشّح الدول الإسلامية والعربية ودول أخرى في آسيا لإحتلال موقع المواجهة المحتملة مع الغرب ، لذلك طرح هذه الرؤية الجديدة للحركة الإسلامية لمواجهة تحديات المستقبل المحفوف بمخاطر العولمة الثقافية والإقتصادية، والحرب على الإرهاب. وما يؤكد هذا الإستنتاج الأفكار التي إستعرضها في المقابلة التلفزيوينة التي أشرنا إليها آنفاً، حيث بدى حديثه عن عالمية الحركة الإسلامية بالتراجع نحو خطوط "التمسك بالخصوصية الثقافية والإجتماعية والسياسية لكل بلد إسلامي"(!). ومهما تكن الدفوعات النظرية التي يمكن تقديمها في هذا الإطار، وتبريرها كإستراتيجية إنكفاء على الذات للحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية في ظل العولمة وهيمنة ثقافة الغرب، الا أنه حقيقة موقف متراجع، ويناقض التوجهات التي طبعت فكر الحركة الإسلامية مع بداية إنقلاب الجبهة الإسلامية في 1989 التي كان الترابي عرابها الأول، والتي لم تكتفي بالدعوة لعالمية الحركة الإسلامية فحسب، وإنما دخلت طورها العملي بتشبيك الحركات الأصولية عبر العالم بتكوين المؤتمر الإسلامي الشعبي، وهو تراجع تم في مدى زمني قصير للغاية. وبالرغم من ذلك لا يمكننا التغاضي عن تأثير عامل الإبتعاد القسري للترابي عن السلطة في خطابه الجديد كدافع ضمن سياق أكثر شمولاً في أفق التفكير الإستراتيجي للتيارات الإسلامية بشكل عام. وهي الجزئية التي تجيب على سؤال التوقيت، وإن شئنا الدقة المرحلة التاريخية الراهنة في ظل صراعات القبائل الإسلامية على السلطة في السودان، وإنقساماتها والضغوط التي تتعرض لها في العديد من البلدان العربية.

إن ما يجب الإنتباه له أن النقلة النظرية التي يقوم بها الترابي في تفكير الحركة الإسلامية بهذا الطرح الجديد/القديم، إنه يخلق منه وعلى المستوي الذاتي، مفكر حداثة ـ كما تعبر عن ذلك مخاوف عبدالعزيز الصاوي ـ وعلى المستوى الموضوعي، وهو الأخطر، أنه يعيد هندسة التجربة الإسلامية وتجميلها من جديد، بعد إن كشفت عن عوراتها تجربة الإنقاذ (السقوط من أعلى قمة خطاب الطهارة والقداسة، إلى حضيض الفساد وشهوات الدنيا ـ البحث عن المغانم والمصالح المادية بتعبير دوبري). مما يجعل من الأصولية الجديدة التي يدعو لها الترابي تقترب من أن تكون تياراً علمانياً ـ كما إستنتج محمد أركون من قبل ـ مستعداً للتضحية بأسسه الآيديولوجية والتاريخية التي قام عليها، وأراق في سبيل تثبيت أركانها "كل الدماء". إن ذلك يعيد إلى الذهن بقوة مقولة عمار بن ياسر التي أوردناها سابقاً " .... والله ما طلبتهم بدمه ولكن القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها وإستمرؤوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً"

إن المتابع لتجربة الحركة الإسلامية في تركيا ـ حزب الرفاه سابقاً ـ يجد الكثير من أوجه الشبه في مسيرتها وما إنتهت إليه، مع الآفاق التي يتطلع لتحقيقها الترابي عبر أصوليته الجديدة في السودان، فالحركة الإسلامية التركية تحورت كلية نحو آفاق الحداثة ـ إن جاز لنا وصفها بذلك ـ عبر سياسات كانت في الماضي خطوط حمراء لا يمكن لأي حركة إسلامية أصولية أن تطرحها للنقاش، ناهيك عن قبولها كواقع، مثل التعامل مع إسرائيل، والتغاضي عن منع فرض الحجاب وإغلاق المدارس الدينية وغيرها. لذلك فإن فرص نجاح الترابي فيا يدعوا له كبيرة على ضوء واقع المتغيرات السياسية في السودان التي وصلت درجة الأزمة التي خلقتها تيارات الإسلام السياسي حداً يهدد وحدة الدولة. والأمر المثير للقلق إن الحركة الإسلامية نفسها التي خلقت هذه الأزمة مازالت ممكسة بمفاصل مؤثرة، مما يرسم لها دوراً ما في المستقبل(!)، فهي في الحكومة عبر المؤتمر الوطني، وفي المعارضة عبر المؤتمر الشعبي وحركة العدل والمساواة. والمفارقة أنهما التيارين الأقوي سواء في الحكومة أو المعارضة (!).

وعلى الرغم من أن ما قدمه الترابي يعتبر "ثورة" قياساً على الفكر الإسلامي الأصولي المدرسي، غير أن الملاحظ عند مراجعته إستمرار ثبات التحليل الذي أورده دوبيري حول رغبات الحصول على المغانم والإستحواذ على السلطة في المجتمعات السابقة للرأسمالية، والتي من بينها السودان كما أسلفنا القول. وهو ما يجعلنا نقرر أن لا جديد في الأمر منذ الجماعة الإسلامية الأولى مروراً بدولة معاوية وحتى حاضرنا هذا. فقط تتغير الإصطلاحات والمفاهيم لكن تبقى القضايا الجوهرية كما هي. ذلك؛ لأن الحركات الإسلامية القائمة اليوم لم تخلق قطيعة فكرية ومنهجية حقيقية مع التاريخ الإسلامي، بل إنها مازالت تستدعيه في حاضرها، وتنتهي بالخروج من ذلك إلى مرحلة التماهي في العلمانية بعد أن تسحقها سحقاً واقعية السلطة ومصادمات ضميرها الديني مع رهاناتها الزمنية. وطوال مسيرة المراحل التي حددها الترابي، يظل الخطاب الديني سائداً، يبدأ متدرجاً مهتماً بالجانب العقائدي، وينتهي كمشروع سياسي برغماتي صرف، مهما كانت مبرراته الدينية. وبالقدر الذي تبحر فيه سفينة التيار الإسلامي عميقاً في لجة المشروع السياسي، تبتعد عنها تدريجياً في الأفق أرض الخطاب الديني المقدس. وفي تزامن مع هذه الحركة، تقوم في قاع المجتمع تيارات دينية جديدة أكثر تشدداً، تجتر نفس التجربة، تسير على نفس القضبان لتمر بنفس المحطات، وكأنما تشدها جميعاً سلسلة واحدة. هكذا يمضي تاريخ التيارات الأصولية(!!).


خاتمة الجزء الأول:
وبعد، لسنا الآن في حاجة للتأكيد مرة أخرى على مقولة ريجس دوبري بأن النعرة القبلية العشائرية والتعصّب الطائفي والديني والطموح فى الحصول على المغانم، ظواهر تبقى نشطة أو كامنة، في كيان الجماعات، سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي.

عليه؛ يمكننا تلخيص ماتوصلنا إليه من نتائج بأن:
1. المجتمع السوداني وبصورة عامة مجتمع ماقبل رأسمالي، تندمج فيه العلاقات بين البنية الفوقية، والبنية التحتية المقابلة لها، بحيث يصعب التمييز بين القاعدة وما هو إنعكاس لها. وتشكّل العلاقات الدينية، الطائفية، العشائرية وجود مستقل عن البنيتين، وتكاد أن تلعب دور العامل المحرّك للتاريخ في مثل هذا النوع من المجتمعات. فالصراع من أجل المصالح المادية الذي تغذيه رغبات الإستحواذ على مصادر الثروة والسلطة سواء لهذه الفئة أو تلك، في الغالب الأعم يبقى كعامل متنحي Recessive factor تحت جينات منظومة القيم والأديان، وتراث العلاقات الطائفية والعشائرية، ومسئول من هذا الموقع عن تحريك الصراعات العشائرية أو الدينية وحول المصالح الإقتصادية. وبالقدر الذي يتطور فيه هذا النوع من المجتمعات بالإتجاه الرأسمالي، تبدا رغبات السيطرة المتخفية تحت منظومة القيم والأديان والعلاقات العشائرية في الظهور، حتى تكتمل تماماً كما في المجتمعات التي تجاوزت تلك المرحلة، ويبرز فيها الصراع على المصالح المادية جلياً في الممارسة الإجتماعية والسياسية.

2. نتيجة لتشابك المصالح المادية ووجودها متنحية داخل نسيج القيم والأديان، التحديد/التعيين للكيانات الإجتماعية وفقاً لجذورها الإثنية أو الدينية والثقافية لهذه المجتمعات في المرحلة المشار إليها، تصبح الدولة مزيج متشابك من هذه العلاقات المعقدة، والتي قد تصل حتى إلى أعلى المستويات في هرم الدولة. فإذا كان التمييز والصراع الديني أو المذهبي أو العشائري في مستواه المبسّط في قاع المجتمع هو صراع تحسمه غلبة طائفة/قبيلة على أخري، حسب موازين القوى في صورتها البدائية، فإن الأمر على مستوى الدولة يختلف تماماً، ويأخذ طابعاً "إشكالياً" Problematic يتجلى في صور ومستويات عديدة. ولأن الدولة المعاصرة تقوم على المؤسسات، والتي لا تعطي كبير إعتبار في بنيتها الداخلية للعلاقات العشائرية أو الطائفية أو الدينية ـ أو هذا ما يجب أن تكون عليه ـ بالتالي فإن تصاعد هذا النمط من العلاقات في هيكل الدولة، رؤيتها وطريقة إدارتها، يخلق تناقضات يصعب تجنبها، تنتهي بسيادة عنصر، جهة، طائفة، دين (ما)، والتي تقود الصراع الشامل داخل منظومة الدولة من أجل مصالحها كمجموعة أو كيان أو طائفة أو دين، محكومة في ذلك بمنطق العلاقات التي تطبع سمة المجتمعات السابقة للرأسمالية كما بينا ذلك في المدخل. وكما ذكرنا، طالما إن الوضعية التي تجتمع فيها كيانات من هذا النوع تتميز بالتنوع الثقافي والتمايز العرقي والإختلاف الديني والتفاوت التاريخي، داخل منظومة دولة حديثة، يقود الإفتراض فيها دائماً إلى قيام بعض هذه الكيانات بالسيطرة على جهاز الدولة وإستثماره إقصائياً على مستويات عديدة، فإن الذي يحدث هو تحول المحددات الثقافية من لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة آيديولوجية، ويتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل، والدين مع السياسة، والمذهبي واللغوي مع الإجتماعي، فتكون النتيجة بالتالي؛ وضعية تاريخية مأزومة تنتهي بإنفجار متسلسل، يأخذ شكل نزاع شامل، محتواه صراع: هويات ضد هويات، ثوابت ومتحولات عند كيان اجتماعي (ما) ضد ثوابت ومتحولات عند كيان آخر، وهو في نهاية التحليل صراع كل ضد كل.

وبالتالي؛ فإن صيرورة هذه الوضعية غالباً ما تنتهي إلى مفترق طريق ذو إتجاهين متعاكسين، إما بإنكفاء كل كيان على ذاته وتدريجياً إنفصاله، أو الوصول إلى نقطة إعادة التأسيس من جديد. وهي المرحلة التاريخية التي يمر بها السودان اليوم، والتي يمكن أن نسميها بداية مرحلة إنهيار الدولة التي عرفها التاريخ السوداني المعاصر. والمطّلع على تاريخ النزاع في الصومال يجد الكثير من أوجه التشابه . وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه الدولة السودانية وقواها السياسية هو كيفية الإتفاق للوصول إلى نقطة إعادة التأسيس، وهل لم يفعلوا ذلك من قبل وفشلوا فيه(؟).

3. تاريخياً ظلت الأديان تلعب دوراً محورياً في التقنين للصراع، لأنها كانت ـ ولازالت ـ تقف بمثابة البنية اللاشعورية للمعرفة الدينية، تشتق منها الآيديولوجيا والأهداف السياسية في المجتمعات السابقة للرأسمالية. ويكاد ينعدم الحد الفاصل تماماً ما بين هذه البنية اللاشعورية من جانب، والآيديولوجيا والأهداف السياسية من جانب آخر، بحيث يصعب التمييز بينهما. هذه النقطة مهمة جداً في معرفة طبيعة الحركات الدينية في السودان لأنها تكشف عن مدى زيف الشرعية التي تدعيها هذه الحركات من تمسكها بتلابيب الدين. فكل الذي يحدث، أنها تقوم بتفسير النصوص المقدسة مستخدمة في ذلك القواعد البيانية(قواعد اللغة العربية) في حالة تيارات الإسلام السني المدرسي، أو التأويل الذي يستمد أصوله من إدعاء قدرات ماورائية في أغلب التيارات العرفانية بما فيها التيار الشيعي نفسه. وبمرور الوقت يتسامي التفسير أو التأويل ليقف على قدم المساواة مع النصوص المنزلة أو المقدسة. هذه العملية لها أهميتها القصوى بالنسبة لهذه الحركات في تجييش الأتباع من أجل الصراع السياسي البحت، والدفع بهم في آتون المعارك الضارية من أجل السلطة والمال فيما بعد. وقد أثبت التاريخ أنها لم تكن سوى عملية أضافت طبقة حمراء اللون لحدة الصراع العرقي والثقافي المحتدم في هذه المجتمعات، مرتفعة به على صعيد الوعي إلى مستوى المقدس، مسببة بذلك إنقساماً متعدد الإتجاهات لايقف عند التصادم ما بين ديانتين أو إثنيتين أو ثقافتين مختلفتين في نفس المجتمع، بل تصل لدرجة التصادم داخل الدين أوالعرق أو الثقافة الواحدة، كما تعلمنا التجربة الصومالية أو البورندية.



التجاني الحاج عبد الرحمن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-04-2009, 06:09 PM   #[2]
التجاني الحاج عبد الرحمن
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي دويلات القبيلة في السودان:الحركة الإسلامية ومسئولية الإنهيار الجزء الثاني

دولايات القبيلة في السودان ـ الجزء الثاني: الحروب الأهلية والسلام والمفقود


مقدمة الجزء الثاني:
في الجزء الأول تعرضنا لخلفية نظرية حاولنا من خلالها ـ قدر المستطاع ـ التأطير للنزاع في السودان، وقد حاولنا بجهد لاندعي كماله، موضعة الأبعاد المركبة للأزمة مع ما تقرره الدراسات الإجتماعية والمقولات السياسية لتحديد ملامح إطار مرجعي Frame of reference يمكن القياس/الرجوع إليه في دراسة الحالة السودانية. قد يتفق البعص أو يختلف معنا، وبهذه الدرجة أو تلك في المعايير والأسانيد والمنهجية المتبعة، وهو إختلاف منهجي مشروع. لكن تبقى الرؤية الموجهة لهذه القراءة هي الأساس، ومناط النقاش.

تناولنا مسألة درجة تطور المجتمع السوداني وتأثير الآيديولوجيا الدينية وتطور حركات الإسلام السياسي وصولاً إلى تخوم الأصولية الجديدة التي بدأت ملامحها في الظهور مع تنظيرات الترابي على خلفية هذه المناقشة. والآن ننتقل إلى خطوة أخرى أكثر تقدماً متعلقة بمناقشة جذور ومسار الحرب الأهلية في السودان كجزء مكمّل لدراسة الحالة السودانية.

يقرر التحليل العلمي إن تجدد النزاعات الداخلية والحروب في تاريخ الشعوب والأنظمة السياسية ليس نتاج المصادفة، إنما يجد جذوره في كيمياء التحوّلات الداخلية الخاصة بهذه المجتمعات وأنظمتها السياسية. وتلعب معادلات توازن المصالح الإقتصادية/الإجتماعية، والصراع على السلطة، دوراً رئيسياً في إندلاع النزاعات وإستمراريتها. وفي السودان وعندما نعيد قراءة الأزمة تلفت نظرنا حقيقة هامة، إلا وهي تكرار نمط الصراع وأسبابه، فالحرب الأهلية الأولي إنتهت في 1972م بإتفاقية أديس أبابا. لكن بالرغم من ذلك تجددت بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ إستناداً لنفس الأسباب، مما يمكّننا ـ من الناحية النظرية ـ من طرح القضية بصيغة أكثر عمومية، بإعتبار أن هناك ثمة علاقة عضوية/هيكلية تربط مابين الهيمنة السياسية والثقافية القائمة على آيديولوجيا العروبة والإسلام وجذورها التاريخية والدينية من جانب، والمصالح الإقتصادية ـ "أهداف السيطرة والإستحواذ" ـ من جانب ثانٍ، كسبب جوهري وراء إستمرار الحرب لفترة طويلة، وفشل أغلب المحاولات لإيجاد تسوية عادلة للنزاع.

شكّلت هذه العلاقة العمود الفقري لرؤية وسياسات وآليات الدولة المركزية في السودان وتعاملها مع الثورات التي إندلعت ضدها في المناطق المختلفة من البلاد(الجنوب، الشرق، الغرب)، سواءاً في حالات الحرب، أو خلال رحلات البحث عن السلام عبر المنابر المختلفة. وأصبحت بذلك ثابتاً لا يتغير في أجندات الحكومات المركزية المختلفة مهما تفاوتت مواقعها الآيديولوجية. لذلك نجد أن نظام الجبهة الإسلامية، وما تفرّخ منه في السودان نتيجة للإنقسامات الداخلية، ما هو إلا محصلة نهائية، عبّرت عن هذه العلاقة في أقصى صورها صراحة وعنفاً.

وبالتالي؛ من غير الممكن رؤية قضية الحرب والسلام بمعزل عن هذه العلاقة، مستدعين في الذهن طبيعة ونمط التطور الإجتماعي/الإقتصادي/السياسي الذي سارت عبره الدولة السودانية منذ إستقلالها. إن كل ذلك يقودنا إلى إستنتاج حاسم هو أن أزمة الدولة السودانية، تكمن في عدم تبلور مشروع وطني ـ إن جاز التعبير ـ نتيجته معادلة صراع حاد ما بين مركز مسيطر وهامش يفتقر للتطور على كافة الأصعدة.

إن هذه الأزمة ليست نتاج سياسات المستعمر أو مؤامرات وأطماع "الصهيونية أو الإمبريالية العالمية" وحدها، كما درجت الكثير من الرؤى التي دأبت على تفسير مايجري إستناداً على "نظرية المؤامرة". صحيح من الزاوية الموضوعية، وفي سياق البحث عن جذور الإشكاليات الوطنية، التعرّض للدور الذي لعبه الإستعمار، لكن الأكثر صحة منه، عدم إستغلال هذه الحقيقة التاريخية للقفز بالزانة من فوق الدور الذي لعبته الحكومات الوطنية التي أعقبت الإستعمار أيضاً، فكلها سلسلة مترابطة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض. لقد خرج المستعمر نعم، لكنه أورث بنية الدولة التي أسسها لخدمة مصالحه، لأنظمة سياسية حكمت من بعده. وليس في السودان وحده، بل كثير من الدول الإفريقية مرت بهذه التجربة.

لذلك، فإن التأثير الأقوى للصراعات التى نشبت من بعد رحيل المستعمر، هي مسئولية هذه الأنظمة الوطنية وليس الإستعمار، قياساً على الفترة التي نال فيها السودان إستقلاله، والتي تتجاوز النصف قرن من الزمان. وبالمقارنة بالدول الإفريقية على سبيل المثال، نجد أنها تمكنت من تجاوز الإشكاليات التي خلفها الإستعمار في بلادها وإنتقلت إلى مرحلة البناء الوطني، على العكس من السودان، الذي وبدلاً من أن تعمل القوى الوطنية فيه على إعادة هيكلة الدولة ـ كما في معظم بلاد العالم الثالث التي نالت إستقلالها ـ لتخدم الأهداف الوطنية التي تعزز الوحدة والتقدم، حافظت على على نفس البني والهياكل، لا وبل وظفتها لمصالحها الخاصة وتحولت إلى مستعمراً يلبس جلباباً ويعتمر عمامة ليس إلا.

علي هذه الخلفية فإن إتفاقيات السلام التي وضعت للوقف النزاعات، لم تعمل على معالجة جذر الصراع المتمثل في التناقض الناشئ من سيادة علاقات السيطرة والإستحواذ لفئة إجتماعية ضئيلة على حساب الأغلبية الساحقة، إضافة إلى القراءة المتحيزة للتاريخ، لذلك لم يمكن بمقدروها تحقيق إستقرار دائم، وأصبحت مجرد مرحلة إنتقالية لجولات قادمة تعيد إنتاج نفس الأزمات.

عليه؛ فإن النقد الذي تم توجيهه لإتفاقية السلام الشامل (CPA)، وما تبعها من إتفاقيات (أبوجا، القاهرة، الشرق) يستند على مقولة أنها جميعها لم تتعرض لهذه الجذور. وعلى الرغم من أن هذه قراءة قد لا يتفق معهع البعض، غير أنها تبقى أقرب للواقعية، على خلفية الصعوبات التي واجهت عمليات التنفيذ، مما يعطيها درجة من المصداقية.

لذلك فإن كان ولابد من إعادة تقييم هذه الإتفاقيات، فإن ذلك يجب أن يتم من زاوية مختلفة تماماً. نعم؛ جميعها ناقشت قضايا قسمة الثروة والسلطة ـ كحجر أساس لإعادة التوازن لإختلال التنمية ما بين المركز والهامش ـ بين الحكومة وخصومها، ومهما إختلفت موازنات التقسيم التي نتجت ما بين الفرقاء، فإنها تظل محكومة بوضعية "الضعف المتبادل" التي أوصلت الأطراف جميعها إلى طاولة المفاوضات، إضافة إلى شروط المفاوضات نفسها، التي تمت تحت الضغوط الدولية والإقليمية.

وبالتالي؛ تصبح الركيزة الأهم هي قدرة الإتفاقيات على تحقيق التحوّل من وضعية تاريخية مأزومة، إلى دولة تحقق المشاركة العادلة للجميع. ويمكن القول بسهولة الآن أن هذه قضية لم تضعها هذه الإتفاقيات في حساباتها من خلال سقوف الضمانات وآليات الإلزام على التطبيق، والمحصلة النهائية إنها تتعرض الآن ـ وبدرجات متفاوتة وتحت مبررات مختلفة ـ للتآكل وخطر الإنهيار.

إن الأسباب التي تبدو معقولة، تكمن في الطريقة أو المنهجية التي تمت بها الإتفاقيات. والمدخل لذلك في الملاحظة الهامة التي أبدتها كثير من القوى السياسية، ولكنها إفتقرت للوضوح والقوة الكافيتين لتشكيل موقف سياسي مؤثر حيال مسيرة السلام. فهذه الإتفاقيات جميعها تمت ما بين الحكومة وخصومها كلٍ على حدة، على الرغم من أن جميع هؤلاء الخصوم نظرياً تجمعهم قواسم مشتركة، أدناها خلق التحوَل الديمقراطي في السودان على حساب نظام المؤتمر الوطني الحاكم. هذه النقطة بالذات هي التي أكسبت النظام القوة والشرعية والإستمرارية، تأسيساً على حقيقة أن الجهة الواحدة التي تربط نفسها بإتفاقيات متعددة مع جهات مختلفة، هي التي تكسب في الموازنة النهائية، على العكس تماماً من الصورة المتخيلة التي كان من الممكن أن يقوم فيها إتفاق واحدة بين المؤتمر الوطني وخصومه جميعاً، لأن ذلك كان وبالضرورة لن يفرز النسب الحالية لقسمة السلطة والثروة، ويسيعمل على خلق درجة كافية من التوازن بين المؤتمر الوطني والآخرين، تسمح بتطبيق بنود الإتفاقيات والدخول لمرحلة التحول الديمقراطي. وهو ما ينتج عنه تأثير إيجابي على الحراك السياسي اليومي في السودان مختلفاً عن الشكل الحالي.

بإختصار شديد هذه الإتفاقيات المتعددة إتاحت للمؤتمر الوطني مساحة كبيرة للمناورة واللعب على التناقضات المختلفة للقوى التي وقعت عليها، بحيث مكنته من تقوية نفسه على عدة أصعدة، أهمها على الإطلاق أنها وفرت له الإستمرارية بقوة الضمانات الإقليمية والدولية التي تقف من خلفها بدلاً عن أن تكون مدخلاً للتحوّل في بنية الدولة، وهي صورة معكوسة تماماً بالنسبة لكل الذين سعوا لهذه الإتفاقيات، بما فيه المجتمع الدولي نفسه. فكل الذين عملوا على الحصول على هذه الضمانات لتأمين تنفيذ هذه الإتفاقيات، تكّشف لهم الآن أنها في الواقع حققت إستمرارية للنظام بذات القدر الذي أمّنت لهم نصيب في السلطة والثروة (يسيطر عليه المؤتمر الوطني لا هم). وبالتالي هزموا مشروع التحول الديمقراطي منذ البداية بقبولهم بمشاركة متعددة المنافذ ومتفاوتة السقوف مع نظام المؤتمر الوطني، أتاحت للأخير اليد العليا في الدولة، ولهم اليد السفلى.

هذا المشهد وعلى الرغم من تفاؤل الكثيرين به إستناداً على إن إتفاقيات السلام التي وقعت بين الحكومة وخصومها حققت قدر من التحوّل أو "هامش" من الحريات قد يمكّن من إحداث التغيير ـ كما يطلق عليها البعض ـ أمر تدلل قرائن الأحوال على أنه كان قراءة غير واقعية للأمور. فنيفاشا وغيرها أوقفت الحرب؛ نعم، لكنها لم تصنع السلام ولم تغيّر من معادلات السلطة أو تقلل بدرجة ملحوظة من قبضة المؤتمر الوطني على مقاليد الأمور. ويعزى كل ذلك إلى الأسس التي قامت عليها نيفاشا وماتلاها، والطرق التي تمت بها.

التناقضات الأساسية لإتفاقية السلام الشامل الـ (CPA):
الوصول إلى محطة إتفاقية نيفاشا لعبت فيه عناصر متعددة أدواراً مختلفة ومؤثرة، أهمها العامل الخارجي، من خلال الضغوط التي مُورست على طرفي النزاع للتوصل إلى تسوية، والقبول بواقع نظامين سياسيين داخل إطار دولة واحدة كثمن لوقف الإقتتال. والملاحظة الجديرة بالتدوين هنا وبالرجوع إلى بدايات إندلاع الحرب الأهلية الثانية في الجنوب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فقد كانت جل مطالب الحركة الشعبية لتحرير السودان آنذاك لتحقيق السلام، تتمثل في إعادة هكيلة الدولة السودانية من جديد بحيث تتمكن من إعادة التوازن ما بين المركز والأطراف بعدالة في توزيع الثروة والسطة، ولم تطرح أو تتبنى ـ حينها ـ حق تقرير المصير أو خيار نظامين في دولة واحدة كمخرج للأزمة كما أفرزته نيفاشا، وكان بإمكان الحكومة الديمقراطية ـ حكومة الصادق المهدي ـ في ذلك الحين قبول هذا الطرح وتجنيب الدولة خطر تمدد النزاع وإتساع رقعته.

إن ذلك يظهر لنا علاقة التناسب الطردية ما بين إزدياد حدة الأزمة وإتساع رقعتها الجغرافية والإجتماعية، مقابل إرتفاع سقف المطالب السياسية. وعموماً فقد أثبتت العديد من التجارب أنه وبالقدر الذي تزداد في هذه حدة الصراع للدرجة التي تصل إلى الإقصاء السياسي والمواجهة المسلحة، ترتفع سقوف المطالبة بالحقوق المهضومة حتى تصل في أقصي مراحلها إلى المطالبة بالإنفصال. والحقيقة التي لا مناص منها إن الإتفاق ومن حيث المبدأ لم يكن نتاج إرادة سياسية للطرفين في الجلوس إلى طاولة التفاوض، بقدرما كان ذلك مفروضاً عليهما بفعل عوامل عديدة أهمها:

أولاً: عامل توازن القوي العسكري/السياسي والذي أوصل الطرفين إلى قناعة عدم قدرة أي منهما على هزيمة الآخر عسكرياً ووقوفهما على حافة "توازن الضعف المؤلم Hurting Stalemate ".

ثانياً: عامل خارجي مرتبط بتدخل المجتمع الدولي والإقليمي لفض نزاع هو الأطول عمراً في أفريقيا لمصالح قد لا تتفق بالضرورة مع أطراف النزاع(!).

ثالثاً: المنهجية التي أتبعت للتوصل لإتفاقية السلام الشامل والتي ركزت في التعامل مع طرفين (المؤتمر الوطني/الحركة الشعبية) وتجاهلت شمولية الأزمة السودانية وإرتباط أطرافها ببعضها البعض، إضافة إلى إرتباط كثير من بنودها المعلنة والسرية بشخصية الزعيم الراحل د. جون قرنق والتي مثلت محور إرتكاز إنبنى على فرضية بقائه لتنفيذه، وعندما رحل في ملابسات غامضة، تأثرت عمليات التنفيذ. ومهما حاولنا التقليل من شأن ذلك فإنه أمر يواجه المتابع للساحة السودانية كل يوم.

هذه العوامل مجتمعة شكّلت الأساس الذي إنطلقت منه كافة الصعوبات التي واجهتها وتواجهها الإتفاقية خلال فترة المفاوضات وفيما بعد عند التنفيذ. وبالتالي؛ جاء الإتفاق وهو يحمل معه تناقض أساسي، ينطلق من النظرة والإرادة المتعارضة للطرفين حيال مسألة السلام. فالمؤتمر الوطني يريد سلام ونظام سـياسي مستقر، شريطة أن يحقق ويقنن له السيطرة على مفاصل الدولة، وبرغبة في شراكة مع الحركة الشعبية لا تتصادم مع هذا الهدف. بينما الحركة تريد عبر هذا الإتفاق وهذه الشراكة ـ على أقل تقدير ـ أن تحقق التغيير نحو إعادة هيكلة الدولية السودانية.

وقد كانت هذه الصيغة المتصادمة واضحة للعيان منذ وقت مبكر، من خلال الصعوبات التي واجهت عملية المحادثات بين الطرفين، والتي اليوم هي نفس القضايا والملفات مصدر الخلافات في حكومة الوحدة الوطنية . وقد لخّص تقرير لمجموعة الأزمات الدولية ذلك أنه: " ... وبعد مرور أكثر من عامين دلت كثير من المؤشرات أن الإتفاق أصبحت تبدو عليه علامات الإجهاد.(..)، وأن المعادلة الحالية للسلام في السودان تبعث على القلق، فحزب المؤتمر الوطني لديه القدرة على التنفيذ، ولكنه يفتقر إلى الإرادة السياسية(!)، بينما يوجد لدى الحركة الشعبية الالتزام، ولكنها ضعيفة وغير منظمة. وهناك خطر حقيقي من تجدد الصراع في المستقبل ما لم يبدأ حزب المؤتمر الوطني في تنفيذ الاتفاق بحسن نية، وتصبح الحركة الشعبية شريكاً أقوى وأكثر فعالية في التنفيذ". وتشير شواهد عديدة إلى دخول الإتفاق نفق مظلم، مهدداً بإنهياره، والذي تستتبعه وضعية من الصعب التهكّن بها، لكنها لن تكون بأي حال من الأحوال بأفضل من الراهن.

وإجمالاً وبحصر نتائج إتفاقيات السلام التي تمت خلال الفترة الماضية(نيفاشا، أبوجا، القاهرة، وأخيراً إتفاقية سلام الشرق) فإن الحصيلة هي، أن الحرب أوُقفت ولكن لم يتحقق السلام(!). ومما يقوي من هذه الفرضية، تصاعد درجة الإحتقان السياسي نتيجة للسلوك السياسي الغير سوي للحزب الحاكم حتى من بعد التوقيع على هذه الإتفاقيات. مما يضع البلاد مرة أخرى وفي أحسن الفروض، على أول درجات سلم إعادة دورة الصراع من جديد، وقرائن الأحوال تعطينا مؤشرات تؤكد هذا الإتجاه. وعلى ضوء ذلك يواجهنا السؤال الأساسي: إلى أين تمضي الأقدار بالدولة السودانية(؟) الكل يجمع على أنها مرحلة جد خطيرة، وأن السودان يقف على حافة إنهيار الدولة، لكن لا أحد يحرك ساكناً. فما هو المخرج إذن(؟)
صعوبات التطبيق:
من بعد التوقيع على إتفاقية السلام الشامل الـ (CPA)، بدأ تفاؤل كبير وسط قطاعات واسعة من السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني بهذا الحدث، بإعتباره نقل البلاد نحو مرافئ السلام والإستقرار والتنمية. لكن يبدو أن الأمور لم تمضي كما كان يتوقعها الكثيرون، إذ بدأت التحذيرات من إحتمال إنهيار الإتفاق، تصدر من جهات عديدة كما أشرنا عاليه.

وعموماً يمكن تلخيص الخلافات حول ثلاثة ملفات رئيسية هي: ترسيم حدود وإدارة أبيي، عائدات البترول، قضية التحول الديمقراطي. والأخيرة، وإن كان يكتسيها عدم الوضوح، ولا تظهر بنفس درجة الحدة التي يتم بها تناول القضيتين الأخرتين (أبيي، وعائدات النفط)، غير أنها الأكثر أهمية، حيث أن تحقيقها من عدمه يحدد بصورة حاسمة شكل الدولة وإستمرارية المؤتمر الوطني في السلطة من جانب، ونظرة الحركة الشعبية أو شعب جنوب السودان لخيار الوحدة من جانب ثانٍ. والموقف من مسألة التحول الديمقراطي ليس المقصود به الإنتخابات العامة فقط، وإنما مجمل التحولات الواجبة في هيكل وعلاقات الدولة، بدء من إيجاد تسوية للأزمة بدارفور وإنتهاء بالقسمة العادلة للسلطة والثروة ـ ليس بين الجنوب والشمال ـ إنما في الشمال نفسه ومن ثم يأتي التفكير في الإنتخابات "الحرة والنزيهة".

[1] قضية أبيي:
تكتسب هذه المسألة أهميتها من مدخلين، الأول إقتصادي، والثاني سياسي بحت، والإثنين يمثلان عمق استراتيجية الخلاف بين الطرفين. معروف أن أبيي جغرافياً تقع في منطقة التماس بين جنوب كردفان وبحر الغزال، ومن الناحية التاريخية قطنتها قوميتين، هما دينكا نقوك وناظرها دينق مجوك وقبيلة المسيرية وناظرها بابو نمر. وقد تميّزت العلاقة بين القبيلتين بفترات صراع طويل معروف ومدوّن منذ عهد الإستعمار على المراعي ومصادر المياه، مكنتهما من إبتداع سبل التعايش وحل نزاعاتهما . لذلك فإن قضية ترسم حدود أبيي ما كانت لتكون بالصعوبة التي تعكسها حالة الشد والجذب الحاد بين الشريكين حول تبعية المنطقة لجنوب كردفان أو بحر الغزال. فالحدود معروفة منذ زمن الإستعمار الإنجليزي، والرجوع إلى خرائط المنطقة التي وضعت في الفترة ما بين 1905 وحتى الإستقلال 1956، ومرجعية إتفاقية السلام الشامل، تجعل التوصل إلى حل أمر ليس ببعيد المنال. فنيفاشا وفيما يتعلق بترسيم بين الشمال والجنوب وضعت حدود 1956 كأساس، وفي حالة أبيي قررت الرجوع إلى حدود 1905 بمقترح من أمريكا .

لذلك يطرح التساؤل عن الأسباب والدوافع وراء أساس وجدوى الخلاف نفسه بقوة، وهنا يجد تفسير المدخل الإقتصادي/السياسي للقضية مبرراته ودواعيه. فالمنطقة معروفة بغزارة إنتاج البترول. نورد ذلك واضعين في الذهن نتيجة تقرير المصير التي إما إن تنتهي إلى وحدة أو إنفصال. وبالتالي آيلولة أبيي للجنوب أو الشمال، يستفيد الطرف الذي تتبع المنطقة إلى إدارته من عوائد بترولها(خاصة عندما نستدرك أهمية مدخول البترول في موازنة الدولة، إذ تذكر بعض المصادر إنه يمثل حوالي الـ 90% من جملة العائدات للخزينة العامة). هذه هي الدوافع الإقتصادية التي تقبع خلف النزاع حول أبيي بين الطرفين. والنظام يدرك أهمية هذا المدخل الإقتصادي جيداً طالما أن معظم العائد من النفط الذي يصب في موازنته العامة يأتي من إنتاجية هذه المنطقة. وبالتالي، ومهما كانت صحة أو تلفيق المبررات التي يدعيها النظام حول تبعية المنطقة للشمال، إلا أنه تبقى مسألة عائدات النفط بؤرة الخلاف المركزية المسكوت عنها و"القصة ما قصة حدود".

من جانب ثانٍ يرتبط المدخل السياسي بالتداخل الإثني في المنطقة والموقع الإستراتيجي. فقد كانت أبيي، ومنطقة جنوب كردفان بصورة عامة جسراً للعبور بين الشمال والجنوب، وقد إستخدمته الحكومات المركزية المختلفة عسكرياً في تشديد الحصار على الحركة الشعبية في منطقة بحر الغزال بإستخدام عرب المسيرية، وتوفير الدعم اللوجستي إلى القوات الحكومية في الجنوب من خلال هذا المعبر، وبنفس القدر إستفادت منه الحركة الشعبية في تمديد مسرح عملياتها إلى منطقة جبال النوبة ومن ثم دارفور. لذلك ومرة أخرى فإن أيلولة المنطقة إلى أي من الولايتين، ومن الناحية السياسية الإستراتيجية يمثل نقطة إنطلاق حيوية (رأس جسر) إما إلى الشمال أو الجنوب في حال الإنفصال إلى دولتين ونشوب نزاع حدودي بينهما.

وغني عن القول إن الإثنيات التي تقطن هذه المنطقة من الجانب العربي كانت خلال فترة الحرب بين الحكومة والحركة الشعبية أحدى أهم الأدوات التي إستخدمها النظام في مقاومة الحركة الشعبية لتحرير السودان بكثافة خلال نهايات الثمانينيات وحتى نهايات التسعينيات. ومن المؤكد أن دوره في أي نزاع حدودي مستقبلاً بين دولة جنوب السودان الإفتراضية وشمال السودان لن يكون في صالح الجنوب، بإعتبار أن التحريض لهذه القبائل لتقوم بحربها بالوكالة نيابة عن الحكومة، إستند على عنصر الإختلاف العرقي والديني وتأتي المصالح الإقتصادية في المرتبة الأخيرة. فالأمر صُور لهم على أنه جهاد من أجل العروبة والإسلام، وسيبقى كذلك إلى حين.

عليه؛ نجد أن الصراع حول أبيي له أبعاده الإستراتيجية المرتبطة بالموارد البترولية للمنطقة، والموقع الإستراتيجي والتداخل الإثني، والذي وكما رأينا في الفقرة السابقة أنه يمثل نقطة إرتكاز هامة في أي صراع قد ينشب مستقبلاً. بالطبع، إذا غلب خيار الوحدة بعد الإستفتاء، فإن وضعية الخلاف ستأخذ مساراً يرتبط بقسمة عوائد الثروة البترولية التي تنتجها المنطقة في إطار الشراكة السياسية، ويصبح الصراع حول تبعيتها الإدارية لجنوب كردفان أو بحر الغزال أقل حدة على ساحة المواجهة بين الشريكين. لذلك، وحتى وإن تم إحتواء إشكالية أبيي بترتيب من مؤسسة الرئاسة حسبما تنص الإتفاقية بذلك، إلا أن هذه المخاوف والرغبات ستبقى قابعة ومسكوت عنها بين الطرفين إلى حين أن يحدد الإستفتاء في نهاية الفترة الإنتقالية وضعية الجنوب بكامله.

[2] الخلافات حول النفط:
هذا الملف هو الأكثر حساسية ما بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني، فمنذ المفاوضات، وحتى التوقيع ودخول الإتفاقية حيز التفيذ، ظلت هذه القضية محل جدل ومساومات، إلى أن حسمت بتولي المؤتمر الوطني لوزارة الطاقة. ومع ذلك، نجد أن البحث عن جذر للخلاف، يفسر الكثير من مواقف المؤتمر الوطني المتشدد في ملف البترول وإصراره على الإحتفاظ بوزارة الطاقة. ويرجع كثير من المراقبين للشأن السوداني ذلك إلى طبيعة الإتفاقيات التي أبرمتها الحكومة مع كونسورتيم الشركات الصينية والماليزية والآسيوية الآخرى. والتي لا أحد في السودان ـ عدا عوض الجاز وآخرين ـ يعلم على وجه التحديد نسب التقسيم بين الأطراف المختلفة، الإنتاجية اليومية الحقيقية وأوجه الإستغلال الحقيقية لهذه العائدات، والأدهى أنه هذه العائدات لا تظهر في الموازنة العامة للدولة، وحتى عندما حاول برلمان حكومة الوحدة الوطنية مسآءلة وزير الطاقة عن عائدات النفط كان رد الأخير هو التجاهل(؟!).

إن إستقصاء أرقام معدلات الإنتاجية، وحجم العائدات وأوجه صرفها هو ليس مجال البحث الآن فهذه تفصيلة تحتاج لمنهجية أكثر تخصصاً، دقة في المعلومات، لكن من حيث المبدأ عندما تصبح "ثروة قومية" مثل البترول، في بلد كالسودان، مساحة "محرمة" على النقاش والتداول حتى على مستوى البرلمان، فإن ذلك بلا أدني شك، يثير الكثير من الشكوك والأسئلة المشروعة حول علاقات التعاقد ما بين الحكومة وهذه الشركات من جانب، وأوجه الإستغلال الحكومي لموارد النفط من جانب آخر.

لذا نجد إن تحليل هذه العلاقة بين الأطراف الثلاثة (الحكومة، الحركة والشركات) والوصول فيها إلى نتائج، أمر بالغ التعقيد، لأن مصادر المعلومات ضئلة للغاية، والقدر اليسير الذي يتسرّب يشير إلى مستويين:

الأول: ماقبل الإتفاقية: وهذه بين المؤتمر الوطني وشركات التنقيب، حيث أخفيت التعاقدات الحقيقية التي توضح نسب التقسيم إضافة إلى حجم الإنتاجية والعائدات.

الثاني: بعد التوقيع على إتفاقية السلام الشامل، والتي فرضت تقسيم عائدات البترول بين الطرفين كأحد بنود الإتفاق. كان من المتوقع أن تظهر الكيفية التي تمت بها الإستثمارات في مجال البترول إلى العلن، كجزئية مكملة للشفافية التي توضح نسب توزيع الثروة، لكن ذلك لم يحدث، إذ بقيت الأوضاع كما هي عليه دون تغيير يذكر، عدا النصيب الذي تدفعه الحكومة المركزية لحكومة الجنوب، وهو رقم مهما زادت أصفاره على اليمين إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون إنعكاساً للحجم الكلي الحقيقي للعائدات. مما يفرض القبول بالإستنتاج القائل أن ثمة إتفاق بين الطرفين على ذلك. وتشير كثير من المصادر إن ذلك بمقابل دفعه كل طرف للأخر(!)، وكثير من المتابعين للشأن السوداني يرجعون ضعف الضغط الذي كان من الواجب أن تمارسه الحركة في هذا الجانب لثلاثة أسباب: الأول: تكتيكي متعلق بمعادلات الأخذ والعطاء حول تقسيم حقائب الحكومة المركزية والموازنات التي أفرزتها هذه العملية والتي وصلت حد غض الطرف عن قضايا، للحصول على أخرى. وقد أوضحت الأيام فيما بعد مدى الخطأ التكتيكي الجسيم الذي إرتكبته الحركة في القبول بصيغة التقسيم هذه، إذ فقدت وزارتي الطاقة والمالية معاً ـ (تقول نكتة رائجة في السودان أن عوض الجاز عندما تحول إلى وزارة المالية أخذ معه مفاتيح وزارة الطاقة) ـ مما أتاح للمؤتمر الوطني السيطرة التامة على قطاع النفط كعملية إنتاج وتسويق. السبب الثاني: السماح للحركة بالتنقيب في الجنوب. والثالث الإتفاق على "الشراكة" السياسية بينهما(!).

وبالنظر للتوصيات التي أوردها تقرير مجموعة الأزمات الدولية المشار إليه عاليه، نجده يكشف ويؤكد على حجم الإشكاليات بين الشريكين حول هذا الملف، مما يمكّن من تصوّر التسوية الخفية التي من المحتمل أن تكون قد تمت(!) فقد شدد التقرير على ضرورة:"
(1) إجراء مناقشات بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني بشأن تقاسم عائدات النفط المنتج في أبيي في الأجل الطويل بين الشمال والجنوب.
(2) إطلاع الحركة الشعبية فورا على المعلومات المتعلقة بعقود النفط القائمة والانتاج الكلي للنفط وعائداته، على نحو ما يقتضي اتفاق السلام الشامل.
(3) الكف عن وضع العوائق أمام إنشاء مفوضية وطنية فعالة للبترول تملك الصلاحية المتفق عليها في اتفاق السلام الشامل.
(4) الإلغاء الفوري لاتفاقات النفط التي تم التوقيع عليها في الجنوب انتهاكا لاتفاق السلام الشامل.
(5) اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان حماية حقوق المواطنين في مناطق انتاج النفط.
(6) توفير الخبرة الفنية والمعلومات للحركة الشعبية، حسب الاقتضاء، لمساعدتها في الحصول على نصيبها العادل من عائدات النفط، وتطوير قدرتها على إدارة قطاع النفط في الجنوب" .

ولتأكيد ماورد في التقرير فقد تحدث الفريق سلفاكير ميارديت، النائب الأول لرئيس الجمهورية في مقابلة أجراها تلفزيون السودان في برنامج الخط الساخن يوم 21 أغسطس 2007 قائلاًً: " أن الحركة ليس لديها معرفة كاملة بعائدات البترول، وهذا الوضع يتطلب ضرورة معرفة ذلك وما يتم تصديره والعائد منه وأسعاره حتى نعرف نصيبنا منه، ويجب أن يكون لدينا ممثلين في مناطق الإنتاج لمعرفة ذلك".

هذه التوصيات، وحديث النائب الأول، من الأهمية بمكان، ورؤيتهما من زاوية نقدية تبرز أسئلة غاية في الأهمية للمتابع للشأن السوداني، ولمستقبل إتفاقية السلام، لا بل مستقبل السودان بأكمله. فإذا كان المؤتمر الوطني لم يطلع الحركة على عقود النفط وحجم الإنتاج، ولم يكف عن وضع العراقيل أمام قيام مفوضية فعالة للبترول، ولم يشركها في إدارة البترول، كما تقول توصيات مجموعة الأزمات الدولية (ICG)، فماذا تبقي للحركة الشعبية ولحكومة جنوب السودان إذن(؟!).

إزاء هذا الوضع يصبح القبول بالإستنتاج القائل أن الحركة غضت الطرف عن ذلك مقابل أن تحصل على حق المضي قدماً في التنقيب عن بترولها الخاص في الجنوب وربما أشياء أخرى، أمراً مقبولاً. وبالمقابل سكوت الحكومة من جانبها على هذا السلوك كثمن لإحتكارها السلطة في الشمال وإدارة البترول ـ على أن تبقى مشكلة أبيي قيد التسوية ـ وقدّر المؤتمر الوطني هذا الجميل للحركة في موقفها المتمثل في عدم المطالبة بحقها في الكشف عن المعلومات المتعلقة بالبترول كما نصت عليه الإتفاقية. ويبدو كأنما هناك رضي من الطرفين على ذلك، وهو ما يجعل كلاهما وكأنما يعملان على أن يحكم كل منهما سيطرته على الموقع الذي هو فيه أقرب للمعقولية، سواءاً بالنسبة للحركة في الجنوب أو المؤتمر الوطني في الشمال. وسنرى ذلك من خلال مواقف الطرفين من قضية التحوّل الديمقراطي والإنتخابات، والتي بدأت نذر مواقف الحركة السلبية منها تطفو منذ وقت مبكر (إنتخابات المحامين والمزارعين، مواقف عديدة للحركة) إضافة إلى الإنتهاكات الدستورية التي يمارسها المؤتمر الوطني، تلقي لنا مزيداً من الضوء على هذا الإستنتاج.

[3] التحوّل الديمقراطي:
كما ذكرنا أن هذا الملف هو الأكثر أهمية لأنه يحدد هوية الدولة إن جاز التعبير. والتحوّل الديمقراطي في معظم تجارب دول العالم الثالث التي إما إن إنتصرت فيها قوى المعارضة على خصم دكتاتوري، أو وصلت لتسوية، نجد أنها واجهت مصاعب جمة في تصفية المؤسسات التوتاليتارية التي تخلفها مثل هذه الأنظمة عادة وثقافة القهر والإحساس بالدونية المترسبة في المجتمع، إضافة إلى تحديات إنشاء المؤسسات الديمقراطية والنظم الدستورية والقانونية (تحديات التحول من الثورة إلى الدولة). والحالة السودانية نموذج مثالي للوضعية الثانية، حيث نجد أن نظام الإسلام السياسي وضعته الإتفاقية في موضع الشريك للحركة الشعبية لإنجاز عملية التحوّل الديمقراطي (!!) ـ وهو وضع ينطبق فيه قول شاعر: ومن نكد الدنيا على المرء، أن يرى عدواً له ما من صداقته بد، يروح ويغدو وهو كاره لوصاله، وتضطره الأيام والزمن النكد.

إذن فالوضع معقد للغاية، فعلى الرغم أن الإتفاقية "نظرياً" فتحت المجال لإنجاز هذه العملية من خلال الأسس الدستورية والقانونية التي ضمنتها في متنها(الحقوق الأساسية، الإنتخابات). غير أنها هزمت قضية التحول الديمقراطي منذ البداية بنسب تقسيم السلطة التي أعطت المؤتمر الوطني الأغلبية الميكانيكية الضرورية للسيطرة على إدارة العملية السياسية. وهذه واحدة من الأخطاء الإستراتيجية لنيفاشا، والتي إستندت في مفهومها لحل النزاع على أنه شمال/جنوب، وبالتالي إنبنت قسمة السلطة على هذا الأساس، والذي وتبعاً له تشكلت معادلات الصراع السياسي وتأثرت قضية التحول الديمقراطي برمتها. أعطت الإتفاقية بصورة ضمنية للمؤتمر الوطني شرعية تمثيل الشمال وللحركة تمثيل الجنوب، وهو ما جعل الأمر ومن الناحية الواقعية قسمة بين الطرفين حتى وإن أطلقت عليه صفة الشمول.

ومهما حاولنا أن نبحث عن عناصر ـ بين صفحات الإتفاق ـ يمكنها أن تجعل من إنجاز التحول الديمقراطي ـ في ظل الشروط التي خلقها ـ أمراً ممكناً، نجد أن السلوك السياسي للمؤتمر الوطني يتحدى مبادئ الإتفاق نفسه ويقمعها قمعاً، في مقابل موقف الشريك الأصغر والضعيف الذي تمارسه الحركة الشعبية. وبالرغم من ذلك، فقد بدأ الأمل ينمو من جديد بعد إتفاق القاهرة وأبوجا والشرق ـ على علاتهم ـ بأن ذلك قد يكون مدخلاً لتسريع عملية التحول الديمقراطي، لكن هذا لم يحدث، ويعود الأمر لسببين جوهريين:

الأول: الإتفاقيات الثلاثة، وبإختلاف ظروفها وملابساتها إلا أنها كلها ظلت ـ بصورة أو أخرى ـ مربوطة بنيفاشا، بمعني؛ إذا حاولنا قراءتها في المحاور التي ناقشتها (ملفات الثروة والسلطة بإستثناء الترتيبات الأمنية)، نجد أنها تأثرت بالتقسيم الذي فرضته نيفاشا، خاصة في ملف السلطة، إذ لم يحدث تعديل جوهري في نسب التقسيم، والتي كان من المفترض أن تتم خصماً على نصيب المؤتمر الوطني (52%) ـ بإعتباره ليس الممثل الوحيد للشمال ـ بحيث يقلل من قبضته على السلطة، وهو ما يسهل عملية التحول، غير أن هذه الخطوة لم تتم لأن المؤتمر الوطني تمكن من التوصل إلى هذه الإتفاقيات دون أن ينتقص ذلك من نصيبه في السلطة، وقد تمت هذه العملية في أغلب الأحوال بإبتداع وظائف دستورية وهمية أرضى بها عطش الأطراف الأخرى للسلطة. والأهم من ذلك هو أن أي إتفاقية تم التوصل إليها بعد نيفاشا، وحتى تلك المتوقع التوصل إليها فيما بعد، ستظل محكومة بالأطر التي وضعتها، سواء إن كان ذلك في تقسيم السلطة والثروة أو الفترة الإنتقالية أو الإنتخابات.

الثاني: عدم تمكن الأطراف التي وقعت في أبوجا، القاهرة والشرق من السعي لخلق تحالف قوي مع الحركة الشعبية لمواجهة المؤتمر الوطني أو العكس بعدم رغبة الحركة في خلق هذا التحالف. ويسبب الكثيرين ذلك بعجز الحركة من جانبها في التقدم نحو بناء هذا التحالف نتيجة لتباين موقفها الداخلي حوله، فداخلها تيار يري أن قيام هذا التحالف ضد إتفاقية السلام، وهؤلاء يدعمون الشراكة مع المؤتمر الوطني بأسباب مختلفة أيضاً(إما للمحافظة عليها بإعتبارها وسيلة تصل بهم إلى الإستفتاء لتحقيق إستقلال الجنوب، أو أنها لدعم سيطرة كل طرف على الموقع الذي هو فيه بصرف النظر عن نتيجة الإستفتاء).

وفي ظل واقع الحال المزري للقوى السياسية من تمزق وإنقسامات، والإتفاقيات التي ما أحدثت ثقباً في جدار شمولية النظام، تصبح مسألة التحوّل الديمقراطي ضرباً من أحلام اليقظة في هجير شمس الإنقاذ. لقد كان الرهان على الحركة الشعبية أن تسهم بثقل تاريخها النضالي وما أعطته لها الإتفاقية، في تحقيق عملية التحول الديمقراطي عبر التحالف مع شركائها الحقيقيين من قوى الهامش، لكنها فضلت ـ من بعد رحيل قائدها التاريخي ـ أن تمضي في طريق شراكة ملغومة، خصماً على رصيدها التاريخي والآيديولوجي. إن ذلك يجعلها تسلك أحد طريقين لا ثالث لهما، إما المضي في إتجاه الإستقلال وتأسيس دولة الجنوب أو التوغل شيئاً فشيئاً في وحل إمبراطورية الإنقاذ، عبر وحدة لا تحمل أي مظهر من مظاهر التغيير الجوهري. هذا هو المعني الواقعي والعملي لمفهوم الشراكة السياسية التي بينهما إن كتب لها أن تتم.

وقد يرى البعض في ظل الخلافات المحتدمة بين الطرفين، والتي وصلت حد التهديد بالعودة للحرب، إن مفهوم الشراكة لا معني له، غير أن نافع على نافع، وفي أوج الأزمة يرى غير ذلك، والذي من جانبه، إستبعد أن تكون الشراكة بين الوطني والحركة قد صارت على حافة الانهيار، ذاكراً إن الخلافات بين الشريكين في سبيلها للتجاوز، خاصة مع تواصل الحوار بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. وبشر في تصريحات صحافية إلى إقتراب الشريكين من التوصل إلى حل للأزمة الناشبة بينهما. وحسب نافع فان الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لا تقتصر على تنفيذ اتفاقية السلام فقط، وأضاف إن الشراكة تعتبر حدثاً مهماً أسسته اتفاقية السلام وفق الدستور الانتقالي.

إن مثل هذا التصريح يعطينا التعريف الدقيق للشراكة والتي هي هنا مربوطة بالإتفاقية، وبالتالي فهي على هذا الصعيد كعقد زواج كاثوليكي بين الطرفين وعلاقة حتمية لامفر منها، بقي أن يفهم أي طرف هذا العقد وهذه العلاقة وفقاً لتصوراته ومنطلقاته وأجندته السياسية، فهذه قضية لاتغير من الواقع كثيراً. لكنه واضحاً جداً أهميتها للطرفين، فهي بالنسبة للمؤتمر الوطني جواز مرور إلى الشرعية الدستورية ومزيداً من السيطرة وتقنين أوضاعه، وبالنسبة للحركة تحمل أكثر من معنى(!)، غير أن هناك إتفاق عام بأنها ـ أي الإتفاقية ـ حققت مصالح الجنوب، وهو الخط الوحيد الذي يجعلهم يقاتلون من أجلها، وفي ذات الوقت تجعل من الشراكة السياسية مع المؤتمر الوطني أمراً لا مفر منه، لأنها الصك الذي يضمن لأهل الجنوب الحفاظ على مصالحهم لحين البت في مسألة بقائهم في ظل الدولة السودانية الموحدة ـ مهما كانت مواصفاتها ـ بالإستفتاء على حق تقرير المصير.

غير أن هذا التباين في الرؤية حيال الإتفاق، والمصلحة المتوقعة من الشراكة على صعيد الحركة الشعبية، أدخلت مشروع السودان الجديد في مأزق حقيقي. ومهما كانت النتائج التي قد تأتي من الإستفتاء على حق تقرير المصير، إلا أن قضية التغيير نحو السودان الجديد تبدو ماضية بإتجاه التضاؤل التدريجي والزوال، وفي كل الأحوال، وفي فرضية إختيار التصويت على الوحدة أو حدوثها قسراً، فستبقى هذه الشراكة كعائق رئيسي أمام أي تحول حقيقي نتيجة للتناقض على صعيد الرؤية ما بين طرفيها. أما في حال الإنفصال فسيمضي كل طرف إلى دولته المزعومة (دولة العروبة والإسلام السياسي بالشمال، والسودان الجديد بالجنوب)، لكنهم سيحملون معهم نفس جينات الخلافات التي عصفت بالسودان ككل، مما يعني إعاد تدوير الأزمة في كل الأحوال، سمتها الأساسية صراعات في الشمال والجنوب ربما تؤدي إلى مزيد من الإنقسامات، أو مواجهات بين الدولتين الوليدتين على حقول النفط في مناطق التماس.


وبعد، من الإستعراض نخلص إلى:
1. من الناحية العامة فنيفاشا، وعلى الرغم من المبادئ القوية التي وضعتها على الصعيد النظري للإنتقال بالسودان من خانة الحروبات الأهلية إلى السلام، وتأسيس دولة قائمة المواطنة، وتحقيق التحول الديمقراطي، إلا أن الطابع الثنائي الذي ميزها، عملياً أعاق تحقيق تلك المبادئ، لأن نسب قسمة السلطة أعطت المؤتمر الوطني فرصة التحكم في العملية السياسية، ووفرت له الشرعية من الناحية الدستورية كطرف ـ من وجهة نظر الوسطاء ـ لا يمكن الإستغناء عنه في تنفيذ الإتفاق.
2. على صعيد المواجهات بين الشريكين على ملفات أبيي، الثروة، والتحول الديمقراطي، نجد أن الصراع بينهما يجد أساسه في الأبعاد السياسية التي قد تترتب من التنفيذ الدقيق لهذه الملفات كما وردت في صلب الإتفاق، وهي هنا تكشف عن التناقضات في المواقف والرؤى بين الطرفين، فمن جهة تمثل بالنسبة للمؤتمر الوطنى خط الدفاع الأخير في بقائه على سدة الحكم، وبالنسبة للحركة نقطة إنطلاق نحو تأسيس السودان الجديد، لذلك؛ ليس من المتوقع أن يتراجع المؤتمر الوطني بسهولة عن هذه القضايا لصالح الحركة، لأنها وببساطة مسألة بقاء. وإن كانت قضية تقسيم الثروة وبالذات في مسألة البترول يتم تناولها في كثير من الأحيان بإعتبارها جزء من فساد المؤتمر الوطني، غير أن الحقيقية هي أن جانب من هذا الفساد له بعده السياسي المرتبط بأهداف ترسيخ سلطته( كما يستشف من حديث د. مجذوب الخليفة لدبلوماسي أوروبي رفيع). لذلك نجد أن الذهاب بإتجاه الشراكة السياسية بين الطرفين لن تلد تغييراً على صعيد عملية التحول الديمقراطي، بل في أفضل الأحوال ستحافظ على وضعية السيطرة للمؤتمر الوطني وتثبيت الحركة في الجنوب على أقل تقدير، وهو ما سيولد الكثير من عدم الرضا من جانب أطراف كثيرة ويدفعها دفعاً للتكتل والعمل ضد حكومة الوحدة الوطنية في نهاية المطاف، وهو الأمر وإن قدر له النجاح، لن تقف حدوده عند نقد تجربة الإسلام السياسي في الحكم بل ستضم معها الحركة الشعبية وإتفاقية السلام نفسها.
3. إتفاقيات القاهرة، أبوجا، الشرق، جميعها وعند النظر إليها من زاوية التأثير على الواقع الراهن في السودان، بمعنى؛ تكاملها مع نيفاشا لإحداث التغيير في بنية الدولة، نجدها لم تحقق هذا الهدف، وربما تعجر عن ذلك. وترتد الأسباب في ذلك إلى طبيعة هذه الإتفاقيات نفسها، والمنهجية التي نفذت بها. فأبوجا والقاهرة لم تكونا إلا ناتج مساومة وإبتزاز. وتستثى من ذلك إتفاقية الشرق كحالة خاصة والتي أعطت جبهة شرق السودان فرصة ما كانت لتحصل عليها لو بقيت تنظيماتها (مؤتمر البجا والأسود الحرة) في إطار التجمع الوطني الديمقراطي وتحت عباءة الميرغني. والشاهد إن إتفاقية القاهرة المستفيدون منها في المحصلة النهائية هم الحزب الإتحادي الديمقراطي والشيوعي وأفراد، وأبوجا المستفيد منها هو مني أركو مناوي فقط. وكل الذين وقعوا على هذه الإتفاقيات مضوا إلى الخرطوم لا لتنفيذها، وإنما للبحث عن شراكة مع المؤتمر الوطني تضمن لهم بقائهم في مواقعهم والحصول على المزيد. وبذلك مضوا بعيداً عن الأهداف التي قاتلوا من أجلها، سواء إن كان ذلك بالنسبة للتجمع الوطني أو حركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي.
لذلك، نجد أن التحليل ينتهي بنا إلى أن الحلقة المركزية التي تربط جميع هذه التناقضات، هي المؤتمر الوطني(!)، إذ أنه ومن خلال الإتفاقيات المتعددة ونتائجها (الإشتراك في السلطة والثروة) قد إكتسب قوة مضاعفة عكس ما كان يتصور البعض، فقد وفرت له الغطاء الدستوري بشهادة شهود دوليين وإقليميين، وعندما نضيف إلى ذلك، تحكمه في مفاصل الدولة الإقتصادية، السياسية، الأمنية، وضعف وتفكك الأخرين تبدو صورة التغيير قاتمة للغاية. ما لم يحدث ذلك بصورة غير متوقعة، إما من داخل المؤتمر الوطني نفسه في إطار صراعات القبائل الإسلامية، أو أن تؤدي التطورات في دارفور إلى تغيير النظام بصورة ما. وهنا نجد أنه لا يمكننا الإتفاق مع إستنتاج مجموعة الأزمات الدولية القائل بأنه بات: " .... يتضح بصورة متزايدة أنه إذا لم يتغير هذا الحال قريبا، فسيكون من المرجح أن تؤدي كل الطرق السلمية إلى الأمام في السودان – التنفيذ الكامل لاتفاق السلام، والحل السياسي الشامل للصراعين الدائرين في دارفور وفي الشرق – إلى تغيير النظام في نهاية الأمر وإسقاط حزب المؤتمر الوطني إما عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، أو ببساطة عن طريق انتزاع سيطرته على هياكل الحكومة لمصلحة أقلية من الناس...". لأن هذه اتفاقيات جميعها ـ عكس ما كان متوقعاً ـ لم تؤثر في سيطرة المؤتمر الوطني على الدولة، إضافة إلى ذلك ـ وكما ذكرنا ـ ضعف وتفكك الحركات الداخلة كطرف فيها. لذلك فهي فرضية رهينة بقوى لا تستطيع تنفيذها. والملاحظة الجديرة بالتدوين هنا أن المؤتمر الوطني تغير من الناحية السياسية على خلفية هذه الإتفاقيات ـ مع بقاء خطابه الآيديولوجي خافتاً ـ إذ لم يعد ذلك الحزب الأصولي الراديكالي، بل أصبح أشبه بحزب لبرالي منفتح على جبهة تحالفات عريضة عبر شراكات تحكمها مصالح إقتصادية وسياسية فقط لا غير، يلعب فيها (هو) الدور المحوري. بمعني؛ أنه كالشركة القابضة التي تدير مجموعة شركات فرعية هي أطراف الإتفاقيات المختلفة تحت أسس قانونية وعلاقات مصالح بينه وبين هذه القوى.

هذه العلاقة المختلة ـ وعند النظر إليها من زاوية التوازن السياسي ـ نتيجتها الحتمية هي نمو وإستمرار هيمنة الطرف الأقوى، وإزدياد تمهيش الأطراف الضعيفة. وإذا كانت إمكانية تغيير هذه المعادلة هي بالضرورة رهينة بقدرة الضعفاء على توحيد صفوفهم وخوض معركة فاصلة ضد المهيمن وإعادة طرح صياغة علاقات الدولة من جديد، إلا أن ذلك لا يبدو أمراً ممكناً في الأفق المنظور بحكم الإنقاسامات/التناقضات التي تعصف بهم. ومع ذلك يبدو أنه المخرج الأكثر معقولية لتجنب تفتت الدولة.


هوامش الجزء الثاني:
. في لقاء مع قناة الجزيرة بتاريخ 13 نوفمبر 2007، أثار بشير آدم رحمة القيادي بالمؤتمر الشعبي نقطة غاية في الأهمية هي أن المؤتمر الوطني كان يعلم أن هناك جملة ملفات في الإتفاقية لن يستطيع تنفيذها، لكنه بالرغم من ذلك مضي نحو التوقيع والتي من ضمنها ملف أبيي. والملاحظ للخلافات بين الشريكين في حكومة الوحدة الوطنية يجد ان هذا الملف من أكثر القضايا إثارة للخلاف بينهما.
. تقرير مجموعة الأزمات الدولية: "اتفاق السلام الشامل في السودان الطريق الطويل إلى الأمام"، تقرير أفريقيا رقم (106)، 31 مارس 2006.
. من الأساليب التي حاول بها كل من الناظر بابو نمر، والمك دينق مجوك حل الخلافات بين قبيلتيهما هي أن دفع كل منها بأحد أبنائهما للآخر ليتربي في وسط القبيلة الأخرى، فكان أن تربي بابو نمر الإبن (والذي أصبح لاحقاً فريقاً في القوات المسلحة إبان فترة الديمقراطية) وسط دينكا نقوك، وتربى فرانسيس دينق المفكر المعروف وسط المسيرية.
. لقاء تلفزيوني للبشير رئيس النظام مع قناة الجزيرة بتاريخ 15/نوفمبر 2007.
. بالرجوع إلى النصف الثاني من 2005 وإثناء المفاوضات بين الشريكين حول تقسيم الحقائب الوزارية إحتدم النقاش بين الطرفين حول الوزارات السيادية، لأهميتها المحورية، وهي الطاقة، المالية، الخارجية، الدفاع، الداخلية، وقد تمت التسوية بين الطرفين على أن يحتفظ المؤتمر الوطني بالطاقة مقابل أن يترك الخارجية للحركة، والتي ستأخذها في الجزء الثاني من الفترة الإنتقالية. والملاحظة الهامة أن عوض الجاز وفي التعديلات الوزارية التي أعقبت الأزمة بين الشريكين، تحول إلى وزارة المالية من وزارة الطاقة. وقد علق أحد الخبثاء إن عوض الجاز ذهب إلى المالية وأخذ معه مفاتيح وزارة الطاقة في إشارة إلى أن الحركة وعندما يأتي دورها في وزارة الطاقة لن تجد أي شئ.
. مصدر سابق.
. تصريح لنافع على نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني للشئون السياسية والتنظيمية بموقع سودانايل. 19 نوفمبر 2007.
. مصدر سابق.



التجاني الحاج عبد الرحمن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 04-04-2009, 10:51 AM   #[3]
خالد الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية خالد الحاج
 
افتراضي

أخي الأستاذ التجاني
هذا جهد يستحق التقدير..
أنتظر الجزء الثالث..



التوقيع: [align=center]هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها،
وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها،
حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟
علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
فنّ النّهوضِ من الجراحْ.

(عالم عباس)
[/align]
خالد الحاج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 04-04-2009, 01:16 PM   #[4]
التجاني الحاج عبد الرحمن
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي

الصديق العزيز خالد،
لك أجزل الشكر على المداخلة وسعيد بمعرفتك. حقيقة لقد وقعت في خطأ طفيف وأود تصحيحه، وهو أن هذه الدراسة هي من أربعة أجزاء الجزء الثالث منها هو تحليل الفاعلين بالساحة السياسية السودانية وأعني بذلك القوى السياسية، ثم يأتي الجزء الرابع عن أزمة دارفور، وعموماً سأقوم غداً أو بعد غداً بنشر الجزء الثالث حتى يكتمل بصورة معقولة الشكل العام للدراسة، ومن ثم تأتي المناقشة.
تجاني الحاج



التجاني الحاج عبد الرحمن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-04-2009, 02:41 PM   #[5]
التجاني الحاج عبد الرحمن
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي دويلات القبيلة في السودان ـ الجزء الثالث: تحليل الفاعلين على الساحة السياسية

الجزء الثالث: تحليل الفاعلين في الساحة السياسية

المناخ السياسي العام:
ومن بعد وضع الإطار النظري العام في بداية تحليلنا للحالة السودانية، والذي أعقبناه بتتبع إتفاقية السلام ومواضع الخلافات بين الشريكين سواء من ناحية أساس هذه الخلافات، وضعها الراهنة ومستقبلها، والتي جعلنا محاورها ثلاثة قضايا رئيسية هي:

أولاً: الخلافات حول الثروة خاصة تلك المرتبطة بالبترول؛
ثانياً:السلطة فيما يتعلق بالصراع حول الحقائب الوزارية وترسيم الحدود؛
ثالثاُ: وأخير قضية التحول الديمقراطي.

والتي وجميعها فصّلنا فيها بالقدر الذي يمكّن من رسم صورة عامة للأزمة. وإستطراداً نجد أنه من الضروري إجراء تحليل للفاعلين على الساحة، حتى يمكننا القول بأن البنية الكلية لشبكة الأزمة، وقراءتنا للحالة السودانية قد إكتملت من جوانبها المختلفة من حيث هي (إطار نظري للموضوع، قضايا خلافية، وأخيراً العناصر الفاعلة). ومرة أخرى وللتذكير نعطي خلفية للمناخ السياسي مستندين على إتفاقية السلام الشامل كنقطة إرتكاز محورية لا يمكن تجاوزها في أي دراسة للحالة السودانية ورؤية مستقبل الدولة من بعد التوقيع على الإتفاقيات المتعددة.

يجمع الكثيرين على أن إتفاقية السلام خلقت مناخاً سياسياً داخل السودان إختلف عن سابق حالة الإستقطاب بين أطراف النزاع، تميز بإنتقال الصراع من خانة الحروبات إلى التنافس السياسي المعتمد على القدرات التنظيمية والسياسية. وعلى الرغم من أن ذلك يعتبر "خطوة متقدمة" في طريق السلام والتحول الديمقراطي، غير أن طابعه الثنائي من جانب آخر، سبب تأثيرات سلبية حدّت من عملية التحوّل الديمقراطي كما يصدر من كثير من القوى السياسية ـ على الرغم من التحفظات الكثيرة التي يمكن تدوينها على هذه الآراء والمواقف.(!!)

لكن وبالرغم من هذه الحقيقة إلا أن الرجوع إلى إتفاقية نيفاشا كخلفية للمناخ العام أمر لا يمكن تجاوزه بأي حال، ويجد منطقه في أنها تؤثر بدرجة كبيرة للغاية في تشكيل ملامح العملية السياسية القائمة الآن وفي مستقبل السودان. فالتحوّل الديمقراطي مرتبط بها بصورة صميمية، طالما هي التي تحدد نسب تقسيم الثروة والسلطة، الإنتخابات وطبيعة العملية السياسية من خلال تشكل الكتل والتحالفات. لذلك فإن نظرتنا للواقع السياسي وديناميته الراهنة في السودان ستظل متأثرة بالإتفاقية شئنا ذلك أم أبينا.

القوى المؤثرة على الساحة:
1. المؤتمر الوطني: خرج المؤتمر الوطني من إنقسام الحركة الإسلامية حاملاً ملامحها الأساسية، من حيث السمات العامة وأساسيات مشروع الإسلام السياسي، وقد مكنه إحتفاظه بالسلطة من الحصول على خبرات ومدخلات إقتصادية رسخت من سيطرته، وأضافت له نيفاشا ـ كما ذكرنا آنفاً ـ غطاء الشرعية السياسية التي إفتقدها منذ بداية الإنقلاب. هذين العاملين أسهما بشكل أساسي في تمديد هيمنته على مفاصل الإقتصاد، والتحكم بمسار العملية السياسية برمتها. هذه السيطرة من الخطأ النظر إليها كتأثير فوقي مرتبط بالشريحة الحاكمة فحسب، فهي تتمدد إلى أبعد من ذلك من خلال شبكة العلاقات الطفيلية التي بناها المؤتمر الوطني مع الكثير من المستفيدين من إستمراريته وبقائه في السلطة، واضعين في ذهننا طبيعة العلاقات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية السائدة في المجتمعات الماقبل رأسمالية وشروط وبيئة نمط الإقتصاد الريعي المرتبط بهذه المجتمعات ونمط تطورها. لذلك فهو الآن وبحكم هذه العوامل والشروط، يشكل القوة الأكثر تأثيراً، تأسيساً على الناتج النهائي لتفاعل هذه العناصر والشروط (شرعية الإتفاق، السيطرة على المفاصل الإقتصادية، التحكم في إدارة العملية السياسية)، في حقل مجتمع ما قبل رأسمالي تسوده علاقات إقتصاد الريع.

2. الحركة الشعبية: تأتي في الترتيب الثاني من حيث الأثر السياسي، بحكم التاريخ النضالي الطويل، وقوة الدفع التي وفرها لها الإتفاق بجانب المدخل الإقتصادي المتمثل في نصيبها من عائدات النفط، النفوذ السياسي بمشاركتها في السلطة المركزية وسيطرتها على حكومة جنوب السودان. وتتمثل مراكز ضعفها في ضمور فعاليتها السياسية والتنظيمية، وطابع الصراع الجنوبي ـ جنوبي حول قضية الوحدة والإنفصال، وهو الأمر الذي حد من أسهامها وبشكل كبير في القضايا القومية (ملف دارفور، والتحول الديمقراطي). وإن كان بالإمكان تفسير ذلك بأنه جزء من إفرازات عملية التحول من الثورة إلى الدولة التي تمر بها معظم الحركات التي تخوض نضالاً تحررياً، إضافة إلى تأثير رحيل قائدها التاريخي في مرحلة حرجة من مراحل تطور الحركة، غير ذلك يبقى حكم عام وقابل للتجاوز بحكم تطور أساليب العمل السياسي ومفاهيمه ونظم الإتصالات التي تقلل من المدى الزمني لعملية الإنتقال.

إن إستمرارية وضعية ضعف الحركة الشعبية أمر غير مبرر، إن كان لنا أن نحكم بأنها الآن قوة مفتاحية، في مقدروها الإسهام في عملية التحول الديمقراطي والإنتقال بالسودان إلى إعتاب عهد جديد بما وفرته لها الإتفاقية من غطاء سياسي وقدرات إقتصادية.

3. التجمع الوطني الديمقراطي: المكّون الثالث في السلطة الإنتقالية، ونظرياً فهو يمثل الطيف الأوسع لمشاركة القوى السياسية في السودان بحكم تكوينه، لكن في واقع الأمر لم يتبقى في مظلته غير الحزب الإتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي. مركز قوة التجمع السياسية تتمثل في مرجعية مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية بإعتبارها المساومة التاريخية الوحيدة المجمع عليها من معظم القوى المعنية بالتغيير في السودان. غير أن موقف التجمع الآن أضعف مايكون كشريك في حكومة الوحدة الوطنية، ويجد ذلك أسبابه في طبيعة الإتفاق الذي أوجده ضمن معادلة السلطة في الخرطوم. فضعف الإتفاق، وإرتباطه بإطار معادلات قسمة السلطة التي أفرزتها نيفاشا، بدلاً من أن ينبني على أساس قسمة تتم خصماً على رصيد المؤتمر الوطني الذي فرضه الإتفاق كممثل للشمال، أضعف من وضعية التجمع، وجعل من إسهامه في عملية التحول الديمقراطي محدودة التأثير، ضف إلى ذلك قصر نظر كل من الحزب الإتحادي والشيوعي في الإستفادة من هذه المظلة لخلق جبهة عريضة تقود عملية التغيير، فأصبح التجمع ـ وإن وجد ـ أداة للحزبين في تحقيق مصالحهما المتباينة، فيتحدث بإسمه الشيوعي متى ما دعت الحاجة لتحريك قضية (ما) داخل البرلمان ويساوم به الإتحادي بحثاً عن شراكة تعزز مصالحه كحزب أكثر من أن تدفع بعملية التغيير مع المؤتمر الوطني.

4. حزب الأمة والمؤتمر الشعبي: هذا التحالف جمعته ثلاثة عوامل مثلت حصيلة المصالح المشتركة بينهما، على الرغم من أن حزب الأمة الآن تدور داخله مناقشات حول التحالف مع المؤتمر الوطني، وهي خطوة لا تختلف كثيراً من تحالفه مع الشعبي على صعيد التشابه في التوجهات الآيديولوجية والمصالح. وبالتالي سواء أن بقي حزب الأمة في موقع تحالفه مع المؤتمر الشعبي أو إنتقل إلى الوطني، لكن تبقى الأهداف الإستراتيجية المشتركة في الحالتين واحدة، تتمثل في نهاية التحليل إلتقاء للتيارات التي تدعو لعروبة وإسلامية السودان. قد تختلف من الناحية التكتيكية المرتبطة بتقوية موقف كل طرف، لكن يبقى الهدف الإستراتيجي ثابتاً، ومن المحتمل أن يلعب حزب الأمة دور الوسيط في التقريب ما بين المؤتمر الشعبي والوطني على خلفية أحلام قديمة/جديدة تراود الصادق المهدي تدعو إلى وحدة أهل القبلة، وتكريس هيمنة التوجّهات الإسلامية العربية في دولة ما بعد الإستفتاء على حق تقرير المصير. على كلٍ يمكن إجمال هذه المصالح في التالي:

أولاً: المصلحة المشتركة للطرفين في إستعادة موقعها على السلطة، والتي وإن تفاوتت قوة دفعها في كل طرف، غير أنها الأساس السياسي الذي يقوي من هذا التحالف،
ثانياً: التقارب الآيديولوجي،
ثالثاً: موقفهما من إتفاقية السلام الشامل.

هذه الكتلة لها تأثيرها على موازنات الصراع على الساحة الداخلية، فالشعبي لا زالت لديه الكثير من القنوات الخلفية مع حركات الإسلام السياسي حول العالم، وحتى داخل المؤتمر الوطني نفسه، مما يجعل خياراته للعمل على تغيير النظام نشطة. إن أهم عامل في دراسة هذا التأثير هي رؤية قربه أو بعده من الإسهام في التحول الديمقراطي الحقيقي، إن قٌدر له الوصول إلى السلطة بالسودان عبر أي وسيلة(!؟). وعلى الرغم من أن الأفكار التي يطرحها الترابي تكشف عن ندم على تجربة الإنقاذ وتبشّر بمشروع أصولية جديدة، إلا أنها وبنفس القدر لا تحمل ضمانات أن صيرورة أي جهد للتغير يقوم به الترابي لإعادة التأسيس للدولة السودانية قد يكون إيجابياً، لأن ذلك يتم من خلال إعادة هندسة وترميم المشروع الإسلامي، والذي يصب في نهاية التحليل في تكوين أصولية جديدة مختلفة عن سابق تجربة الإنقاذ، وقد يعيد أيضاً نفس التجربة الإنقاذ على خلفية تأثير تصفية حساباته من المؤتمر الوطني لكن بصورة أخرى. ويظهر ذلك بوضوح في مرارة خطاب الشعبي تجاه المؤتمر الوطني ، وبالتالي يظل مشروعه ـ في أحسن الفروض ـ أصولية جديدة، كما أبنا في الجزء الأول المتعلق بالإطار النظري.

5. حركات دارفور: العنصر المتواجد منها الآن في معادلة حكومة الوحدة الوطنية، هي حركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي، ومعروفة الظروف التي أتت بمني ضمن هذه المعادلة، وكثير من الدوائر المهتمة بالشأن السوداني باتت تنظر إليها كوليد ظروف إستثنائية أوصلت مني إلى شراكة السلطة. وواقع الأمر أن هذه الظروف أيضاً ساهمت بالمقابل في إنتاج صيغة متناقضة للغاية، فالبقدر الذي تبدو به حركة تحرير السودان جناح مناوي، عنصراً أقل فعالية في تركيبة حكومة الوحدة الوطنية، إلا أنها تكتسب قوة غير مرئية يتجاهلها الكثيرون، وهي دعم المجتمع الدولي لأبوجا وعلى الذين وقعوا عليها، وما قد يعطيه هذا الإعتبار من قوة دفع لجناح مني وتأثير على مجريات الأحداث بدارفور، تزايد الإنقسامات في صفوف حركات دارفور وإنضماهما لحكومة الوحدة الوطنية في إطار مرجعية أبوجا، هذين العاملين يرفعان من أسهم حركة تحرير السودان جناح مني في بورصة المؤتمر الوطني، فأبوجا، ومهما كان تقدير وموقف الحركات الأخرى منها وإستماتتها في تغييرها، إلا أنها توسعت بإنضمام المنقسمين من حركات دارفور، والقراءة الصحيحة الآن هي أن أبوجا لم ولن تعد مني وحده، وهي معادلة ستطرح بصورة أو أخرى أمام أي مفاوضات قادمة بين الأطراف الرافضة وحكومة الوحدة الوطنية، ومن الصعب التقرير إن ذلك قد يقصي حركة تحرير السودان ـ جناح مني من أي صيغة قد تنتج.

6. جبهة شرق السودان: أتت جبهة شرق السودان، كشريك متأخر في تركيبة حكومة الوحدة الوطنية وبالتالي فهي كالمسافر الذي لحق بالقطار في المحطة قبل الأخيرة، وهو الأمر الذي يجعل تأثيرها مكبلاً بقيد زمني ضيق للغاية يحد من قدرتها على الإسهام في عملية التغيير، مضافاً إليه الصراعات التي تمر بها الجبهة نفسها. وعلى أي حال فإن الشرق بشكل عام، قضية إستراتيجية للمؤتمر الوطني، من حيث موقعه الذي يسيطر على موانئ تصدير النفط وإستثمارات مناجم الذهب، والمنطق يفرض أن لا يسعى المؤتمر الوطني إلى إقصاء جبهة الشرق تفادياً لإعادة عدم الإستقرار في الإقليم من جديد، والشاهد أنه يقوم بإحتواء قيادات الجبهة ـ بطريقته المعروفة ـ لضمان الإستقرار في الشرق، وإستباق أي قوى أخري (خاصة الحركة الشعبية، وبدرجة أقل الحزب الإتحادي).

7. منظمات المجتمع المدني: إسهام هذه الشريحة من القوى في التأثير على صناعة القرار في السودان، كان في السابق يتم عبر النقابات المهنية المختلفة (عمال، مزارعين، أطباء، مهندسين....إلخ)، والإتحادات الطلابية. وإن كانت قد نجحت في الماضي في الإطاحة بنظام النميري، إلا أن تجربة الإنقاذ برهنت على أن هذا الإحتمال أصبح الآن بالغ الصعوبة، ولأسباب أصحبت معلومة. فالنظام حدد ومنذ بدايته مصادر تهديد سلطته وعمل على تحطيمها، والتي من بينها منظمات المجتمع المدني. وبالرغم من ذلك، هذا لا يعني أن لا يكون هناك جهد لإعادة تأسيسها. الجديد في تكوين منظمات المجتمع المدني، هو ظهور الكثير من المنظمات الطوعية والتي تعمل في مجالات مختلفة(المرأة، الطفل، رفع القدرات، نشر الوعي الديمقراطي..إلخ) وتؤثر في تغيير مفاهيم المجتمع بصورة كبيرة لا تظهر بوضوح في أجهزة الإعلام أو الحراك السياسي اليومي، وإنما في تطور السلوك السياسي القاعدي. وهو تأثير عميق على المدى الطويل في عملية التغيير.
هذا المسح السريع يعطينا صورة عامة عن ملامح الحراك السياسي المرتقب والفاعلين فيه خلال الفترة القادمة والتي تمتد من إنتخابات منتصف الفترة الإنتقالية وحتى موعد الإستفتاء على تقرير المصير. هذه الفترة الزمنية لها تأثيرها البالغ على مستقبل السودان:

أولاً: لأن نتيجة الإنتخابات ستحدد شكل وطبيعة الحكومة خلال هذه الفترة الحرجة وبالتالي توجهاتها وسياستها في كثير من القضايا المتعلقة بمستقبل السودان، فإن كانت الحكومة في الجزء الأول من فترة الإنتقال تكونت بحكم ضرورات شرط تنفيذ الإتفاق، فإنها وفي المرحلة التالية، تأتي كحكومة منتخبة بإرادة شعبية حقيقية كانت أم زائفة(!)، وهو الأمر الذي يقنن من شرعية المؤتمر الوطني السياسية إذا قدر له الفوز.

ثانياً: نتيجة الإستفتاء ستعيد رسم خارطة السودان الجغرافية/السياسية/الإجتماعية في حال التصويت على خيار الإنفصال، وهو الأمر الذي له تأثيرات داخلية وإقليمية ودولية عميقة. فإنفصال جزء من السودان ليس بالأمر الذي تقف نتائجه على الصعيد الداخلي فحسب. مستدعين في الذهن هذه الخلفية سنناقش الإحتمالات التي تنفتح أمامنا وإسهام هذه القوى أو تلك في التأثير على عملية التغيير.

النظرة العامة تعطينا تباين كبير على مستوى المصالح والأهداف والآليات، وإذا إستثنينا الأبعاد الآيديولوجية ودرسنا فقط المصالح السياسية المباشرة، فإننا نجد أمامنا وضع بالغ التعقيد.

1. المؤتمر الوطني: يمثل هم حفاظه على سلطته وبقائه في الحكومة ـ أينما كانت هذه السلطة أو الحكومة، في السودان الموحد، أو السودان الشمالي بعد الإنفصال ـ البؤرة المركزية التي توجّه إستراتيجياته، بمعني؛ أن قضية التغيير الإجتماعي والسياسي، سواء إن كانت بمضمون إسلامي أو غيره، لم تعد من أولوياته ـ على الأقل خلال المرحلة المقبلة ـ فالمعركة القادمة بالنسبة له هي مسألة إعادة ميلاد جديد للمؤتمر الوطني حيث أنها ستمنحه فرصة الإنتقال إلى الشرعية الدستورية عبر صنادق الإقتراع، وهذه المعركة أقل مخاوفه. والفرص التي تنفتح أمامه قد تكون أكثر من التحديات. ويبدو من قراءة إتجاهات الرأي العام أن معالم الفرص تتلخص في العمل على كسب الإنتخابات، وهذه يمكن تحقيقها عبر محاور الشراكة السياسية بينه وبين الحركة الشعبية، تحالفاته القديمة والجديدة مع التيارات التي إنقسمت من القوى التقليدية (الإتحادي، الأمة، وبقية أحزاب التوالي)، والقدرات المالية الضخمة. كلها، عوامل وبحساب الموازنات الموضوعية تجعل من حصوله على حصة كبيرة في تشكيل الحكومة خلال فترة الإنتقال الثانية إحتمال كبير الحدوث.

تتمثل التحديات في تحقيق السلام والإستقرار بإقليم دارفور، مواجهة وحصار توجهات التحول الديمقراطي، التعامل مع تواجد القوات الدولية، الإتهامات الموجهة لرئيس الدولة ورموز النظام في ملف إنتهاكات حقوق الإنسان وممارسة جرائم الحرب والتطهير العرقي، معالجة صراعاته الداخلية. هناك عامل وعلى الرغم من ضعفه وخفوته، إلا أن حدوثه قد يكون ممكناً، في أنه ماذا يحدث إن أفرزت نتيجة الإنتخابات موازنة أدخلت تحالف الشعبي والأمة في تركيبة السلطة(؟)، خاصة إذ تصورنا أن أصوات التيار الإسلامي منقسمة بين الطرفين، عموماً هذا سؤال سابق لآوانه ومتروك لصناديق الإقتراع.

2. الحركة الشعبية: تمثل الإنتخابات هاجساً حقيقياً للحركة في ظل ضمور فعالية بنيتها السياسية/التنظيمية، إختراقات المؤتمر الوطني للجنوب نفسه، هاجس الإنفصال الذي يجعل كثير من أطراف الحركة التي تحالفت معها من أجل إنجاز السودان الجديد، تعيد حساباتها على ضوء توقعاتها للإستفتاء . في ظل هذه التحديات، والضغوط التي يمارسها المؤتمر الوطني بغرض إضعاف الحركة، فإن الإنتخابات هي في الواقع إمتحاناً صعباً بالنسبة لها، فالجنوب، وجبال النوبة والنيل الأزرق ليست دوائر مقفولة لها. لذلك نجد أن موازنة الفرص والتحديات أمامها تميل لصالح التحديات، وقياساً للضعف السياسي، فإن فرص النجاح تبدو ضئيلة أمام تحقيق أي إنتصار ساحق في الإنتخابات في حال إختيارها منازلة المؤتمر الوطني(كما يحلم بذلك ياسر عرمان). لذلك أمامها خيارات صعبة في كل الأحوال، وهي:
أ‌. إما إختيار المضي في هذه الإنتخابات بشراكة مع المؤتمر الوطني، وفي هذه الحالة سيصل الطرفين إلى تسوية (ما) لخلافاتهما، وتقسيم مناطق نفوذ كل طرف في معادلة السلطة. وهذا خيار سهل ومتاح وفرص نجاحه أكبر، لكنه ذو تأثير كبير على الحركة نفسها على المدى الإستراتيجي البعيد، إذ انه يجردها من أهم سماتها ألا وهو خطاب السودان الجديد.
ب‌. إو أن تمضي الحركة بإتجاه منازلة المؤتمر الوطني، وبالتالي فإن خياراتها:
- إما أن تواجهه منفردة معتمدة على إمتدادتها في جنوب كردفان، النيل الأزرق، قطاع الشمال معتمدة في ذلك على تقديراتها الخاصة.
- أو أن تمضي لتحالف أو تنسيق مع جبهة المؤتمر الشعبي وحزب الأمة.
- أو أن تحي تحالفاتها القديمة مع قوى السودان الجديد، في الشرق، دارفور، الوسط، التجمع الوطني وغيرها من القوى. قد يكون هذا الإحتمال الأكثر قبولاً من قطاعات عريضة من المجتمع السودان، لكن من أهم عوائقه، هو ضعف هذه القوى ذاتها، وعدم القبول الذي قد تواجهه الحركة من تيارات القوميين داخلها، والتي قد ترى هذا النوع التحالفات جرجرة للحركة في مربع وحدة السودان على حساب التطلعات نحو الإنفصال، مفضلة الشراكة مع المؤتمر الوطني كأداة لتحقيق هدفها أو البقاء في السلطة راضية قانعة بنصيبها في الجنوب إلى مرحلة قادمة.
إن الكرة الآن في ملعب الحركة الشعبية للإختيار بين مواقف صعبة، فالشراكة قد تحافظ على إستمراريتها على السلطة، وتخفف من حدة ضغط المؤتمر الوطني الساعي لإضعافها لكن، هذه الخطوة تفقدها الإلتزام الفكري والآيديولوجي بقضية التغيير، إذ أن هذه الشراكة ثمنها هو المضي بالعجلة الثنائية للإتفاق، مما يحول الحركة تلقائياً إلى شريك ليس في السلطة فحسب، وإنما في شمولية النظام أيضاً، ويفتح إحتمال تكتل ما تبقى من قوى ضدهما معاً.

إن مضي الحركة في هذا الخيار أو ذاك لا تحكمه شروط الموضوعية السياسية، والإلتزام الآيديولوجي بقضية التغيير في المرحلة الراهنة التي أمامنا، وإنما متلازمة الضعف السياسي والتنظيمي، الصراعات الداخلية حول قضية تقرير المصير. لذلك فخيار الإتجاه نحو بناء تحالفات مع القوى المعنية بالتغيير كقرار إسترتيجي واجب إتخاذه، حقيقة يواجه مصاعب داخل الحركة، وهنا فإن العامل المؤثر في إحداث مثل هذا التحول في ذهنية قيادة الحركة نفسها، هو أن تعي أن إنجاز مثل هذ الخطوة لا تضر بها على المدى الطويل، وهي في نهاية المطاف ستربط مصالحها بمصالح أغلب فئات الشعب السوداني، وليس بقلة معزولة.

إن الخطوات الواجب إتباعها في هذا الشأن تتمثل في الآتي:
1. على الحركة أولاً أن تعمل على تمتين وتقوية قنواتها التنظيمية داخلها وإستعادة توازن العلاقة بينها وبين أطرافها سواء إن كانت في الجنوب، جبال النوبة، النيل الأزرق، وقطاع الشمال. والمعني بإعادة التوازن هنا إعادة الإعتبار لخطاب السودان الجديد وضرورة التغيير كركيزة أساسية وبرنامج سياسي للإنتخابات. هذه الخطوة ستعزز من ثقة هذه الأطراف في إلتزام الحركة بالتغيير وستدفع بجماهيرها لمساندتها الآن كما فعلت في السابق.
2. فتح الحوار مع قوى السودان الجديد الآخرى في دارفور، وجبهة شرق السودان، وباقى ومنظمات المجتمع المدني بالوسط بإتجاه تأسيس تحالف عريض تقوده (هي)، تأسيساً على أرضية علاقات النضال المشترك الطويل، وخلفية مقررات مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا.
3. الإسهام بقوة في ملف دارفور، والعمل على أن تحل هذه القضية وفقاً لما يحقق مصالح أهل الإقليم وليس مصالح المؤتمر الوطني. وهذا يستدعي إعادة النظر في طريق التعامل مع هذا الملف، فوحدة الحركات في دارفور يجب ألا تؤخذ بنظرة ضيقة محصورة في توسيع عضوية الحركة بالإقليم، بقدرما أن نفس الهدف يمكن تحقيقه عبر بناء تحالفات بينها وبين هذه الحركات من جانب، الكيانات الإجتماعية من جانب آخر(خاصة تلك التي تقع على مناطق التماس مع الجنوب). فقد أثبتت تجربة داؤود يحي بولاد أن الذهنية التقليدية في إستقطاب الجماهير لصالح المشاريع السياسية لا تفيد في بعض النظم الإجتماعية، خاصة تلك التي تربطها بقوة العلاقات العشائرية، وتظهر الإنقسامات القبلية بحدة.
4. التنسيق مع كتلة الأمة والمؤتمر الشعبي خلال الإنتخابات القادمة. وقد يطرح الكثير من الناس بعض التحفظات على ذلك، لكن بالرغم من ذلك يبقى كهم أساسي من الناحية التكتيكية، فإنعدام الثقة في نوايا هذا التكتل هو موروث تاريخي رسخته هذه القوى نفسها بأفعالها ومواقفها، إلا أن عزلتها ستضر بعملية التغيير أكثر من أن تنفعها، خاصة وهي الان في أضعف مراحلها التاريخية، إذ أنها تعاني الإنقسام والتشطي، وإنهيار مقدراتها الإقتصادية ونظم علاقات الإنتاج التي أوجدتها، وفي ذات الوقت الإحساس بتبكيت الضمير من مسئوليتها من مشروع الإنقاذ الذي أدخل البلاد وأدخلها هي في مأزق حقيقي. لذلك فإن عزلتها ستحيي في داخلها مشاريع قديمة/جديدة (مثل وحدة أهل القبلة، أو المشروع الحضاري أو غيرها من المشاريع الإقصائية) وقد يدفعها هذا إلى مد أياديها المؤتمر الوطني، والأخير لن تضيره عودة هذه القوى وهي مهيضة الجناح ويدها هي السفلي، تدغدغها أحلام العودة إلى كراسي السلطة.

نختتم هذا الجزء بأن الحركة الشعبية الآن بين شقي الرحي كما يقال، إذ أنها مواجهة بشراكة سياسية تدفعها من خلف مبررات تنعدم فيها عمق الرؤية الإستراتيجية لمستقبل السودان، سواء أن كان موحداً أو منقسماً. وتقف أهم هذه المبررات، والتي تصدر من داخل الحركة نفسها هي: أن هذه الشراكة هي جزء من عملية تنفيذ إتفاقية السلام، وأن أي إتجاهات نحو بناء تحالفات مع قوى تعادي المؤتمر الوطني، هي إتجاهات تقوّض نيفاشا، ويبدو موقف القوميين الجنوبيين في هذه المسألة أكثر وضوحاً ورسوخاً إذ أن الإتفاق وتبعاته لا يعنيهم في شئ بقدرما هو أداة تحقق لهم في نهاية المطاف الوصول إلى نقطة تقرير المصير.

وفي ذات الوقت فهي مضغوطة من جانب المؤتمر الوطني، والذي يسعى لهذه الشراكة بكل ما أوتي من قوة ونفوذ، مدفوعاً بمصالح عديدة، أهمها أنها تضمن له إستمرار تدفق النفط، وإستقرار نظامه السياسي في ظل عزلته من محيط الإسلام السياسي بعض المفاصلة الشهيرة بينه وبين الترابي. لذلك، فهو يضغط على الحركة في ملفات عديدة لدفعها للقبول بهذه الشراكة، أهم عناصر هذا الضغط، المماطلة والمساومة في ملفات الثروة وعائدات البترول، قضية ترسيم الحدود، وملف أبيي، هذا على صعيد الإتفاقية، أما من ناحية أخرى فهو يعمل على تقوية مواقعه داخل الجنوب نفسه، ومنافسة الحركة في مواقع نفوذها، وأخيراً عزلها من حلفائها التاريخيين. هذه التحركات الغرض منهما أضعاف الحركة إلى أقصى درجة ممكنة تجعلها تقبل بالشراكة كطوق نجاة أكثر من كونها علاقة تبادلية بين طرفين.

إن مخرج الحركة الإستراتيجي ليس في المضي في ممارسة اللعبة كما خطط ورسم لها المؤتمر الوطني بشروطه وقوانينه، وإنما قلب الطاولة تماماً وعكس إتجاهات وقوانين اللعبة. إن الطريق الوحيد الذي يقود إلى ذلك هو إستعادتها لقيادة قوى السودان الجديد مرة أخرى، وطرح برنامجها كمخرج، غير ذلك فإنها ستجد نفسها تدور في حلقة مفرغة، خلال فترة الإنتقال الثانية، يكون المؤتمر الوطني خلالها قد حقق أهدافه الإقتصادية السياسية وحاصر الحركة في الجنوب نفسه.

رهانات التغيير الصعبة:
1. خيار التحول الديمقراطي النمطي Systematic Democratic Transformation :
يراهن الكثيرين على فضاء التحول الديمقراطي الذي فتحت مجاله إتفاقية السلام الشامل بإعتباره أداة لهزيمة المؤتمر الوطني وإقصاؤه من السلطة عبر صناديق الإقتراع ومن ثم الإنطلاق نحو إعادة التأسيس للدولة السودانية من جديد. فهل بالإمكان تحقيق هذا الرهان (؟). هناك حقائق بديهية لابد من وضعها في الذهن قبل المضي قدماً مع هذه الفرضية لمعرفة ما إذا كان بالإمكان تحقيق ذلك أم لا.

أولاً: المؤتمر الوطني يملك رصيد في ممارسة الحكم يقترب الآن من العقدين من الزمان، راكم خلالها ـ وبالضرورة ـ تجربة سياسية مكنته من أن يبني قواعد إرتبطت به عضوياً بمصالح مادية مباشرة. وبالتالي فإن الصراع الديمقراطي معه لن يكون بالأمر السهل. في المقابل نجد القوى السياسية الأخرى، والتي كانت وطوال تلك الفترة إما كانت تمارس العمل العسكري من خلف الحدود أو العمل السياسي السري تحت الأرض، وخرجت إلى فضاء ديمقراطي ضيق (أو هامش الحريات كما تصفه القوى السياسية) وفرته الإتفاقيات المتتالية، وهي منهكة تنظيمياً ومتخلفة سياسياً عن واقع الحال في السودان خلال الفترة الماضية. وهذه مدة زمنية ليست بالقصيرة نمت خلالها أجيال فاقدة للذاكرة الوطنية.

ثانياً: سيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة أتاحت له إمتلاك الثروة، عززت من ذلك عائدات البترول، وحتى الكثير من القوى السياسية الآن تجأر بالشكوى من التضييق الذي يمارسه الحزب الحاكم على منافذ دخولها وإستثماراتها، مقابل الثراء الواضح عليه وفقر الآخرين. عليه؛ فإن قدرات الطرفين غير متكافئة على صعيد الإمكانيات المادية، وهو عامل يؤثر بدرجة كبيرة في القدرة التنافسية للأحزاب في المعارك الإنتخابية. ولايقف الأمر عند المستوى الفوقي للسلطة، بل يتعمق في قاعدة المجتمع. فقد خلق المؤتمر الوطني شرائح منتفعة من موارد ومقدرات الدولة تمتد من أعلى قمة الهرم السياسي إلى أدنى المستويات، تملك وتدير رؤوس أموال ضخمة تغذيها عائدات البترول، وهي لا تشبه الطبقة أو البطانة "الرأسمالية" التي كانت تحيط بالنميري وتعيش على إستحلاب رؤوس الأموال من الفساد في دولة هي أصلاً ضعيفة وفقيرة.

وبالقدر الذي تتضخم فيه هذه الثروة في أيدي هذه الشريحة الطفيلية يقوى إرتباطها العضوي بجهازها الحاكم (المؤتمر الوطني)، مما يتيح لها توسيع قاعدتها الجماهيرية بإستثمار هذه الأموال الضخمة عبر الفساد وشراء الذمم لتثبيت أركان النظام السياسي الذي يدعم مصالحها. عليه؛ فإن المواجهة السياسية عبر صناديق الإقتراع لهزيمة المؤتمر الوطني ستصطدم بهذا الواقع ولن يكون من السهل إقصاؤه طالما ظل هو المتحكم في إقتصاد الدولة، ويدير هذه الشبكة الطفيلية المنتفعة من وجوده وإستمراريته.

ثالثاً: الظروف الدولية والإقليمية لم تعد كما كما كانت في الماضي، وإن كان في عقد الثمانينيات من القرن الماضي وما قبله بالإمكان التحرك في هامش التناقضات بين القطبين الكبيرين لتأمين قدر كافي من المناورة لموازنة الضغوط وتوفير المقدرات المادية، فإن ذلك الآن أصبح أمراً غير ممكن وقد وصل هذا الهامش إلى حده الأدنى، وبالتالي فإن أي خيارات قد تطرح ستجد نفسها في حالة تصادم مع المصالح الدولية التي تقف من خلفها قطبية واحدة تتحكم على ساحة السياسة الدولية.

عليه؛ وفي أي تقدير للتوقعات السياسية بالسودان في إطار التغيير عبر الممارسة الديمقراطية يصبح من المهم جداً إستصحاب هذه العوامل. وهنا تنفتح إحتمالات عديدة منها:
1. ما يرى إن المؤتمر الوطني سيخوض الإنتخابات خلال منتصف الفترة الإنتقالية حسبما هو مقرر في الإتفاق وسيكسب هذه الإنتخابات، لكنه سيعمل على عدم الوصول إلى نقطة الإستفتاء على حق تقرير المصير إستناداً على العوامل الثلاثة المذكورة آنفاً. دافعه: تقنين شرعيته السياسية التي إكتسبها من الإتفاق عبر صناديق الإقتراع فيما يتعلق بمسألة بقائه على السلطة. أسبابه: قطع الطريق أمام الإستفتاء لإبقاء الجنوب ضمن إطار الدولة السودانية والإستفادة من مداخيل البترول في تمويل الدولة والحزب. وهو الأمر الذي قد يدفع بالحركة السياسية في الجنوب في الإتجاه المعاكس حتى نقطة إعلان الإستقلال من جانب واحد (UDI)، فيما يشبه وضعية نظام إيان سميث في ردويسيا (سابقاً).

2. رأى آخر لا يتفق مع هذه الفرضية تأسيساً على أن هناك تيار قوي وقريب من السلطة يراهن ويعمل على إنفصال الجنوب عن الشمال(تيار الطيب مصطفى/عبدالرحيم حمدي)، وبالتالي فإن من مصلحته وضع العراقيل في طريق الوصول إلى إلإنتخابات، لكنه قد يقبل بالإستفتاء لتحقيق هدفه.

3. رأي ثالث يعتقد أن كلا الوضعتين قد لا تحدث وأن المؤتمر الوطني سيحقق إنتصاراً ساحقاً على الحركة الشعبية في عقر دارها لتغيير المعادلة السياسية في الجنوب لصالحه كخطوة أولى للتحكم بصورة أو أخرى في سير ونتيجة الإستفتاء على حق تقرير المصير، وقد يسعى من جانبه لإنتخابات مبكرة للتعجيل بالوصول إلى نقطة الشرعية السياسية. وهو ما قد يعقد الأوضاع بالجنوب ويفتح أيضاً إتجاه إعلان الإستقلال من جانب واحد أو إندلاع الحرب مرة أخرى.

لذلك فإن رهان هزيمة المؤتمر الوطني عبر صناديق الإقتراع هو أمر ـ على أقل تقدير ـ يصعب تحقيقه خلال الوقت الحاضر، ما لم تتدخل عوامل أخرى، مثل تطور الأوضاع في دارفور على صعيد المواجهة والتدخل الدولي، أو تزايد حدة الصراعات داخل الحزب الحاكم بين الأجنحة المختلفة ووصولها إلى نقطة اللاعودة والمواجهة. وكلا الحالتين ستضعفان المؤتمر الوطني.

2. خيار اللانهائية:
يفرض هذا الخيار نفسه بناء على إعتبارات عديدة تمثل واقعاً يتحرك على الأرض. فالرؤية الشاملة للمسرح السياسي تجعل من هذا الإحتمال أمراً ممكناً. فإذا وضعنا عناصر الأزمة التي تحيط بالدولة من كل جانب فإننا قد نرى فوضى لا مثيل لها، قد تكون إحدى نتائجها الممكنة تغيير النظام الحاكم، بصرف النظر عن التركيبة التي ستخلفه. إذاً فلنضع هذه العناصر على الطاولة:
أ‌. أزمة دارفور بوجوهها المختلفة حتماً ستؤثر على النظام وتركيبته، فهناك الواقع الميداني الذي في غير صالحه، تطورات ملف المتهمين في جرائم ضد الإنسانية في الإقليم وما قد يفرزه ذلك من المزيد من الضغوط التي سيمارسها المجتمع الدولي على النظام ورموزه، صراعات أجنحة النظام الحاكم نفسه، المفاوضات بينه وبين العناصر الرافضة على التوقيع على إتفاقية أبوجا وماقد تنتجه من أزمة بالإقليم في حال التوصل لتسوية. كل هذه القضايا وعلى صعيد أزمة دارفور تمثل حقل ألغام للنظام مهما كانت نتائجها.
ب‌. إحتدام الصراع الداخلي في المؤتمر الوطني سواء نتيجة لتفاقم أزمته مع المجتمع الدولي أو الإقليمي بسبب ملف دارفور(الإتهامات بسبب جرائم الحرب في دارفور)، أو لعوامل أخرى مرتبطة بتصفية حسابات القبائل الإسلامية القديمة أو لمصالح مادية تدفعها من الخلف مظاهر شبح إنهيار الدولة. هذه كلها عوامل دفعت بدوائر مراقبة لتطور الصراع داخل الحزب الحاكم للتنبوء بإحتمال لجوئه إلى إحداث تغيير محسوب في شكل وتركيبة النظام.
ج. تفاقم أزمة الشريكين في حكومة الوحدة الوطنية مربوط بقوة دفع الصراعات داخل الحركة الشعبية مابين تياري الوحدة على أسس جديدة والقوميين الجنوبيين والتي من نتائجها إنها قد تضع الجنوب على عتبة التصويت للإنفصال، مقللة بذلك من فعالية الحركة الشعبية السياسية في التصدي ومواجهة المؤتمر الوطني خلال الفترة حتى الوصول لمحطة الإستفتاء على حق تقرير المصير.
د. إنهيار إتفاقية سلام الشرق وأبوجا، نتيجة لضعف الطرفين الذين وقعا عليها مع الحكومة مما قد يفتح الباب مرة أخرى لعودة عدم الإستقرار لشرق السودان بصورة من الصور، وتفاقم الأوضاع بدارفور.
هـ. بروز تحالفات جديدة في المركز تفكر في وراثة تركة المؤتمر الوطني(!). فإذا أقرينّا بفشل تجربة التجمع الوطني الديمقراطي كبديل للنظام القائم، فإن الباب أمام هذا الخيار يظل مشرعاً أمام قوى أخرى في الساحة قد تكون غير منظورة، خاصة وأن هناك حركة في هذا الإتجاه سواء بتعاون مع المؤتمر الشعبي وحزب الأمة أو بدونهما، لكن في كلا الأحوال فإن هذا التيار يظل موجوداً حتى ولو على المستوى النظري.

هذه الخيارات التي تقع تحت رؤية الفوضى اللانهائية، وفي واقع العمل السياسي من الصعوبة بمكان ترتيبها حتى يمكن التقرير بأن أيتها الأوفر حظاً للحدوث، وقد تحصل جميعها بشكل متزامن، وفي هذه الحالة فإنها تخلق وضعية الفوضي التي نتحدث عنها ويحصل التغيير بواقع ضغط التأثير المتزامن لكل هذه العناصر، والذي أما أن يكون بشكل إيجابي نحو إعادة التأسيس للدولة السودانية أو الدخول في الفوضى اللانهائية فيما هو أشبه بالحالة الصومالية.

3. خيار التدخل الدولي:
هناك مؤشرات عديدة تزكي إحتمال تدخل المجتمع الدولي بإي صورة من الصور، وتقف خلف ذلك دوافع ومصالح إقليمية ودولية. فإنهيار دولة كالسودان ليس بالإمر الذي تقف نتائجه على حدوده فحسب فله تداعياته على جميع دول الجوار سواء في دول القرن الإفريقي أو وسط وغرب أفريقيا أو الشمال الإفريقي والعالم العربي. وهو ما يهدد الإستقرار الأمني على الصعيد الإقليمي والدولي. وبالتالي يصبح التدخل الدولي أمر ممكن الحدوث، وتؤكد على ذلك تصريحات كثيرة من القوى السياسية السودانية نفسها مرحبة بهذا التدخل إن كان ثمنه حفظ السودان من خطر التمزق.


هوامش الجزء الثالث:
. في لقاء للترابي مع قناة الجزيرة (ضيف الجزير منتضف النهار ) بدا واضحاً في حديثه وآرائه التي طرحها أنه متأثراً بدرجة كبيرة بإقصاء المؤتمر الوطني له عن السلطة، وأيضاً أبدى مخاوفه من قرب إنهيار الدولة السودانية، مشيراً إلى أن إنفصال الجنوب أصبح أمراً غير بعيد.
. إن أبلغ تعبير عن هذه المخاوف ما كتبه د. الواثق كمير في سلسلة مقالات له بعنوان (فلنسموّ فوق ما يفرّقنا: جون قرنق ينادي)، حيث طرح أسئلة عديدة في نهاية المقالات، كانت وكأنما أراد بها الواثق التعبير عن قلق دفين، لم تسمح له به ظروف سابقة للتعبير عنه، أو أن ذلك القلق بلغ المدى الذي يصعب معه تجاوزه، إنه وكمن يدق جرس إنذار مبكر. ونجد أنه من الأهمية بمكان عرض هذه الأسئلة. "... أين تقف الحركة الشعبية من إلتزامها المعلن نحو: إشراك كل القوى السياسية السودانية في حوار جاد بغرض تفعيل إتفاقية السلام الشامل والإسراع بتنفيذ بنودها والتعجيل بالمصالحة الوطنية والتحول الديمقراطي و؛ المبادرة بإطلاق عملية سياسية تنخرط فيها كل القوى السياسية بهدف التوصل إلى عقد إجتماعي وصياغته ليشمل كل القضايا التي تناولتها إتفاقية السلام بما يحقق الإجماع الوطني حولها(مقررات إجتماع المجلس الوطني للحركة الشعبية ، ياي فبراير 2007)، وما هو موقف الحركة من مسألة العلاقة بين الدين والدولة بعد عامين في السلطة، فهل إكتفت الحركة وقنعت بما حققته الإتفاقية من مكاسب للجنوبيين، بما في ذلك دستور الجنوب وذلك بفهم أن الشمال لا يعنيها في شئ "وكأن المراد من الإتفاقية هو إيقاف الحرب في الجنوب حتى يستقل من أراد أن يستقل بالشمال ليمارس فيه ضلالاً قديماً" (منصور خالد، الرأي العام يناير 2007). وربما سؤال آخر يطل براسه، هل كانت معارضة الحركة الشعبية والمنظمة ورفضها المستمر للقوانين الدينية منذ سبتمبر 1983 مجرد مزايدة سياسية لا تعبر عن موقف مبدئي لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الدين والدولة في سودان موحد على "أسس جديدة" والذي تبشر به وتروج له لربع قرن مضى ؟، وهل يعني هذا أن مطالبة الحركة الشعبية بإلغاء هذه القوانين كأحد الشروط اللازمة والضرورية لوقف الحرب ، لم يكن إلا ذريعة لإنتزاع حق تقرير المصير كخطوة أولى قبل أن تستخدمه مرة أخرى كحجة للإنفصال عندما يحين وقت البت في هذا الحق بإستفتاء الجنوبيين عليه".



التجاني الحاج عبد الرحمن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-04-2009, 10:24 AM   #[6]
فيصل سعد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية فيصل سعد
 
افتراضي

شكرا لهذا المقال و التحليل السياسي..
سنقرأ بتمهل و سنعود ..

اطيب التحايا للجميع ..



التوقيع: اللهم اغفر لعبدك خالد الحاج و
تغمده بواسع رحمتك..

سيبقى رغم سجن الموت
غير محدود الاقامة
فيصل سعد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 25-04-2009, 06:41 AM   #[7]
فيصل سعد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية فيصل سعد
 
افتراضي

الشكر مرة اخري يا التجاني
لهذه المحاضرة الشاملة الدسمة العميقة
لتحليل الوضع السياسي الراهن باحترافية و مهنية،
و نتمنى التحديث و المتابعة ..

اطيب التحايا ..



التوقيع: اللهم اغفر لعبدك خالد الحاج و
تغمده بواسع رحمتك..

سيبقى رغم سجن الموت
غير محدود الاقامة
فيصل سعد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 29-04-2009, 06:58 AM   #[8]
محمد أبراهيم علي
:: كــاتب جديـــد ::
الصورة الرمزية محمد أبراهيم علي
 
افتراضي

الصديق العزيز تجاني الحاج
طال العهد بك وين اراضيك يا رجل
الحمد لله لم تأخذ الغربة والتشرد و المنافي بصيرتك ولا زلت تملك زمام قلمك و افكارك وتحليلك الرصين للواقع سعيد بان اقرا لك بعد غياب
مع تحياتي لك
راجع رسائلك الخاصة



التوقيع: Great minds discuss ideas
Average minds discuss events
Small minds discuss people
محمد أبراهيم علي غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 10:24 PM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.